دلال البزري
تنهّدت أمل عميقاً وقالت معزّية نفسها: “كان أبي يجلس في هذه الشرفة طويلا عند ساعات الصباح الاولى، يشرب القهوة ويستمتع بهذه الاشجار المائلة اليه. كانت سعادته بظلالها لا توصف، يشعر وكأنه يناجيها ويكاد يلمسها. رحلَ أبي عن هذه الدنيا من دون أن يعلم بأن هذه الأشجار سوف تزول قريبا، هي أيضا، وسوف تقف مكانها عمارة… رحل من دون غصّة”.
ماذا؟ على هذه البقعة الضيقة؟ عمارة في هذه النزْلة الوعرة؟ “نعم، نعم… ألم تريْ البناية التي طلعت في نهاية الحيّ؟ في نهاية النزْلة نفسها؟”.الخبر حقيقي، الاشجار القليلة سوف تختفي، وترتفع مكانها عمارة أضيق من غيرها، تصطفّ معها على جوانب النزلة، الضيّقة بدورها. وسوف تكون بالطبع مرتفعة، بما يسمح، بعد زوال الاشجار طبعا، باحتجاب كل الفضاء والشمس والقمر عن الشرفة الساحرة، اذ لم يعد جائزاً إعفاء حي من أحياء بيروت من النجاح الباهر، وتلك الحرية المطلقة لمقاوليها وسماسرتها ومصارفها والمضاربين بعقاراتها. رحلَ والد أمل وفي قلبه فرحة صباحية، تناغم وإلفة مع ما تبقى من صور المدينة التي أحبها وهو يرتاد شوارعها مشياً على الاقدام. قطعة نادرة من النداوة الخضراء، القليل الذي “صَمَد” في وجه عشوائيات ناطحات سحاب. “نيّالو…!”، مات قبل ان تنقضّ المعاول على ركنه الشعري الصباحي، استمتع بشيء من بيروت؛ اما العائشون فيا لخيبة روحهم وشاعريتهم.
المشهد الثاني: من يوميات بيروت العادية، نحن عالقون في زحمة خانقة. ولكن ليست ككل زحمة. الدراجات النارية، التي نتحمّل كل مخالفاتها وخطورتها تضامنا مع سائقيها المستعجلين المكابدين، أبناء الشعب الفقراء… الدراجات النارية التي وجدت لتجنّب زحمة السير، والتحرّر من القوانين، أكثر فأكثر من القوانين، كانت العشرات منها عالقة، مثلها مثل السيارات؛ وسائقوها لا يصدقون، ولا نحن، راكبات احدى السيارات، نصدق، بأن تعلق أيضا الدراجة النارية في الزحمة! كان شارع من تلك الشوارع المعهودة في بيروت: بمحاذاة الرصيف، الضيق، كان يقف صفّان من السيارات، فيما لا يتسع الطريق لأكثر من سيارة متوسطة الحجم. ولكن شطارة ما من سائق احدى “الرانجات”، جعلته يعتقد بأنه قادر على عبوره. انتهى به الامر في آخر الطريق الى أن خاض مناورة تسلل هنا وهناك، محسوبة بالسنتيمتر. وببطء راكم عدد السيارات الزاحفة خلفها… ويمكن تصور الباقي؛ خصوصا مشهد الدراجات النارية، العالقة بدورها. الكل متسمر بانتظار ان “تظْمت الرانج” من علقتها.
في السيارة، كانت ثالثتنا والدتي، نحملها الى طوارئ احدى المستشفيات، وهي في حال من التنفس المتعثر. “الرانجات” متكاثرة في بيروت… تهجس بها أمي ليل نهار، محمّلة اياها تبعات التلوث والزحمة وإنتفاخ “السنوبيزم” اللبناني. أن لا تستطيع الوصول الى الطوارئ بسبب “الرانج” بالذات، وفوق ذلك الدراجات النارية، “الشعبية” المفترض ان تتعاطف مع ركابها، فهذا من “الكبائر”، من “علامات الساعة”… حضر الموت في هذه اللحظة بالذات، وكان تعليقها على ورطة الزحمة، وتأخّرها على النجاة في الطوارئ: “الحمد لله انني ذاهبة عن هذه الدنيا! ولن أشاهد ما سيصل بنا الحال اليه…!”. هي تنبئ بالمزيد من البشاعة الآتية على المدينة، بعدما عاصرتها وهي خضراء ندية، مرحبة، تحتفي شوارعها بالقادم اليها؛ ثم تقارن، “هل تذكرين عندما كنا نمشي من الكولا الى المدينة الرياضية تحت ظلال الاشجار؟ وكم كانت السيارت قليلة، نسمع موتيرها من بعيد؟ انظري اليوم… أهلا وسهلا الى كاراج بيروت!”.
رجلٌ رحل عن هذه الدنيا وهو سعيد لأن زاويته اليومية الخضراء، الناجية حتى الآن من حمى العشوائيات الفاخرة، لن تمسّها المعاول والسقالات؛ وامرأة تحضّر نفسها للغياب، سعيدة هي ايضاً، لكونها سوف ترحل قبل ان تصل المدينة الى قاع انحدارها العمراني. الاثنان عرفا في عمرهما الطويل مدينة أخرى، شوارع أخرى، أشجارا، هواء، ظلالا، بيوت القرميد، روائح البحر والفتنة والياسمين… والاثنان، بفرحتهما القاسية، يتحولان الى شهود على موت مدينتهما. شهادة ذات صوت خاص، صوت من هو على تماس مع الموت، صاحب الصدى الأبعد. الموت يعطي شهادته، التي لا تحتاج الى مقارنة مع صوت الاعلام والمؤتمرات الصحافية و”المسؤولين” والجمعيات المهتمة بالبيئة والتراث المعماري. ولا وجه شبه أيضا مع أنين المواطن ولا تسليمه ولا، ربما، نسيانه لشأن مدينته. المواطن يلهث الآن خلف حمى الحديد والباطون؛ يشتري السيارة والشقة باحساس قوي بالانتصار على الدهر، إن استطاع. أما صوته فمجيّر للاصطفاف، “مقاومة” أو “دولة” وطوائف، وبركات زعيمها من توظيف ومعاملات ومساندات وتهنئات وتعازٍ. من يهتم بهذا التفصيل من بين التفاصيل غير المجدية، غير المربحة، إلا المقبلون على الموت؟ الذين اخذوا المسافة اللازمة من الحياة، فكانت أحكامهم واضحة وجلّية؟
وبفضل هذه المسافة بالذات يحفّزون الاحياء على تخيّل موتهم: ما هي الكلمات التي سوف أقولها، أنا العائش(ة) حتى الآن، عندما أقترب من الموت؟ كيف ستكون أحوال المدينة ساعتئذ؟ بعد عشرة أعوام، أو عشرين، أو ثلاثين؟ هل هناك من بوسعه ان يتصور؟ هل يمكن تخيّل المدينة التي سوف يورثها الى ابنائه وأحفاده؟ الحيرة الاخرى: هل سيكون أصلا من سكانها؟ أم يكون وقتها من بين ثلثي سكان المدينة المطرودين الى ضواحيها، التي ارتدَت بدورها نفس لباس المدينة من الحديد والباطون؟ حسنا، كان حظه كبيرا وحظي بشقة في المدينة؛ فكيف تكون اذن هذه المدينة؟
عمارات نهضت، ولو على بضعة أمتار مربعة، في كل ركن من الاركان التي لم تعرف معاول الباطون قيمتها، ملتصقة ببعضها، الواحدة تحجب نوافذ الاخريات، ولو كانت أكثر حداثة… أراض مشْبعة بالباطون العالي العشوائي، وطرقات مكتظة بالسيارات المتوقّفة أو المتنقّلة، زاد عددها عن اليوم بطبيعة الحال. ثم المواسم الصيفية، والسياح والمهاجرون… تصوّر! سوف تكون مدينة مهجوسة بالموت، لا روح فيها ولا أي شاعرية ممكنة. سوف يتحول سكان المدينة الى أشباه مشلولين بين شققهم، التي لا تطل الا على بعضها، وبين سياراتهم، التي يعلقون بها يوميا من أجل بضعة أمتار، في مدينة لا يزيد قطرها عن الكيلومترين أو الثلاثة.
لنقل مثلا ان سكان المدينة هم الآن مليون ونصف، فسوف يكون عددهم بعد عقدين ثلاثة ملايين على الأقل: وتقارير خبراء الارض تقول بأن المدينة ستكون عرْضة لزلزال بدرجة 7 على قياس ريخْتر. أما تاريخ هذا الزلزال فيمتدّ من الآن وحتى المئة عام. الآن تصور ان الزلزال حصل في أول عقود السنوات المئة. هل يمكن ساعتئذ تصور عدد ضحاياه؟ بل هل يمكن تصور عدد الضحايا لو حصل الزلزال الآن، في هذه اللحظة؟ في هايتي قتل 250000 شخص، وفي التشيلي قتل 800 شخص على اثر زلزال العام الجاري. فهل نحزر من الآن كم سوف يكون عدد ضحايا المكدّسين في المدينة الاسمنتية الحديدية؟ ما سعة المساحة الخضراء التي سوف تكون متوفّرة للهروب من الزلزال؟ كم من الاشخاص سوف يحتضرون تحت الركام لأيام وأيام؟ كم من الحجارة سوف يكون على عمال الانقاذ، إن وصلوا، انتشالها قبل إنقاذ ناجٍ مطمور تحتها؟ كم من السيارات سوف تطحنها الحجارة؟ كم من الحديد والباطون…؟ كم…؟ وكم….؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل – الاحد 27 حزيران 2010 – العدد 3694 –