من الأمثال الشعبيّة، نعرف
مقولة ”كالغريق الذي يتشبّث بحبال الهواء“. ولعلّ في هذه المقولة ما يوجز الحال التي آلت إليها الأوضاع العربيّة في العقود الأخيرة. والحقيقة أنّ هذه الحال قد بدأت مع انحسار الاستعمار الغربي وحصول هذه المنطقة العربية على ما يسمّى ”الاستقلال الوطني“، في هذه البقعة أو تلك وانتظام هذه الدول الوليدة في مؤسّسة أنشأها لها الاستعمار، ونعني بها المؤسسة التي تدعى ”جامعة الدّول العربيّة“.
لم تكن هذه الجامعة جامعةً للعرب في يوم من الأيّام، وإنّما كانت مجرّد منتدى يلتئم فيه أصحاب ”الجلالة والفخامة والسموّ“ لالتقاط الصور وتوزيعها على الإعلام الرسمي العربي لتخدير النّاس. لم يكن في كلّ هذه المؤتمرات جلالة. لم تكن فخامة ولم يكن سموّ في يوم من الأيّام، بل كان عامّة العرب يشهدون مسرحيّات من ”المراجل اللغوية“ ومن ”المهازل الدّعويّة“.
لقد تطرّقت في الماضي إلى هذه الجامعة ووقفت على سخفها منطلقًا من النّظر إلى موقعها على الإنترنت. ولقد كشفت آنذاك عن أنّ موقع الجامعة العربية يترجم موادّ موقعه عن اللغة العبريّة بالذّات. وها أنا أعود إلى موقع هذه الجامعة بعد تسلّم نبيل العربي الأمانة الجديدة. فماذا نجد؟ لقد تبدّل الموقع شكليًّا، لونًا وهيئة، غير أنّه لا يزال ضحلاً وركيكًا كسابقه. فهل هي ضحالة وركاكة هذه الأمّة؟ قد يكون. وعلى ما يبدو فإنّّهم في هذه الجامعة لا يقرؤون، إذ أنّه وبحسب هذا الموقع لا يزال الاستيطان الإسرائيلي قائمًا في قطاع غزّة، بل ويذكرون عدد المستوطنين الإسرائيليين في قطاع غزّة. هذه هي جامعة دول العرب. إذن، والحال هذه، ليس صدفة عدم وجود أيّ جامعة عربية ضمن التدريج الدولي لأفضل 500 جامعة في العالم. لا بأس فللعرب جامعتهم التي تشهد على مستواهم، والمهمّ أن تعمل هذه الجامعة على دعوة ”أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ“ لمؤتمرات الدردشة، ولتخرج بعدئذ ببيانات الدروشة.
لقد أغرق الاستبداد ”الثوري“ العربي الأقطار العربية ”الثورانيّة“ في بحر من الجهل بواسطة إشاعة الشعارات العاطفية المستندة إلى بلاغة عربية تليدة وبليدة يترعرع عليها العرب في مدارسهم دون مساءلتها. ولهذا، فهي منطبعة في ذهنيّاتهم نقشًا في البشر كالنّقش في الحجر. فما من عجب، إذن، إذا جهل العرب ”فوق جهل الجاهلينا“.
أمّا العرب الغارقون
في بحر من الجهل والاستبداد فإنّهم يحاولون التّشبّث بحبال ولو كانت هذه مصنوعة من هواء ومن ريح. أمّا هذه الحبال فقد تأتي ”بما لا تشتهي السّفنُ“. وفي أوضاع العرب المتأزّمة، لا أسهل من أن ينحي العربي باللائمة على أيّ طرف خارج ذاته ويُعلّق على هذه الأطراف الخارجية أسباب فشله. كذا تفعل الأنظمة وكذا يفعل عامّة النّاس. طالما شجّعت الأنظمة الاستبدادية ”الثورانية“ تلك البلاغة التي أشاعت ثقافة المؤامرات الخارجية بغية دغدغة العواطف فتلقّفت هذه الشعارات شرائح واسعة من الخاصّة والعامّة. وحقيقة الحال هي أنّ هذه الأنظمة المستبدّة كانت مشغولة ببقائها على صدور النّاس ليس إلاّ. لم تبنِ هذه الأنظمة دولاً ولم تخلق شعوبًا، بل استبدّت بالبشر والشجر والحجر. ولقد تعاونت مع هذه الأنظمة المستبدّة شرائح واسعة ممّا يُطلق عليهم مصطلح ”المثقّفين“ من تيّارات قومويّة ويساريّة على اختلاف مشاربها بغية الفوز ببعض الفتات من موائد اللئام المتشبّثين بسلطات الاستبداد التي ترفع شعارات ”المقاومة“ و“الممانعة“ وما إلى ذلك من مصطلحات ورثت في هذا العصر مصطلحات ”الصمود“ و“التصدّي“ التي أكل عليها الدهر وشرب.
بين أحمدي نجاد وطيب أردوغان:
وها هو العالم العربي المترامي الأطراف، والمتراخيها أيضًا، قد وجد نفسه بعد عقود طويلة من الاستقلالات ”الوطنية“ في سفينة هشّة بعد أن نخرتها جرذان الأنظمة القبليّة تتلاطمها الأمواج العاتية من كلّ الجهات. لقد ورد في المأثور العربي قديمًا: “الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أعظم من القبيلة وتحته القبيلة ثم البطن … فمضر وربيعه وأمثالهما شعوب. وقريش قبيلة وبني عبد مناف بطن وبنو هاشم فخذ” (أنظر: ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل).
إنّه عالم عربي قبليّ على وشك الغرق يحاول التشبّث بكلّ شيء، فمرّة تجتذبه سفينة أحمد نجاد بشعارات ”الشيطان الأكبر والأصغر“، ومرّة تجتذبه سفينة أردوغان بشعارات ”فكّ الحصار عن غزّة“. وكلّ واحد منهما، وهما من غير العرب، يفعل ذلك باسم فلسطين طبعًا، لأنّ هذا الشعار طالما استُخدم كالطُّعم الذي يدغدغ العواطف بغية اصطياد القبائل العربية، وعلى وجه الخصوص مقابل سفينة الغرب وإسرائيل. لقد ذكر ابن جزي ذاته في معرض تعريف مصطلح الشعب أنّ: ”الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل”.
وها هي ”الشعوب“ أي القبائل، العربية
تنتفض ضدّ هذه الأنظمة العربية. إنّها انتفاضات عربيّة شعبيّة ضدّ مخلّفات الاستبداد الناصرية والبعثية والقوموية وبقيّة أذرعها السرطانية في العالم العربي. حتّى هذه اللحظة، لا نعرف المنحى الذي ستتخذه هذه الانتفاضات. حتّى هذه اللحظة، لا يمكن أن نسمّي هذه الانتفاضات باسم ”ثورات“. لأنّ الثورة الحقيقية هي هدم ركائز الماضي الاجتماعية والسياسية والثقافية ووضع أسس جديدة ومتينة لبناء جديد. الثورة الحقيقية يجب أن تؤدّي إلى إحداث قطيعة مع الماضي، على ما يمثّله هذا الماضي من نعرات قبليّة، طائفيّة، دينية وعرقيّة. في هذا الماضي وفي هذا التراث تكمن جذور الاستبداد، وما لم يتمّ تجفيف هذه الجذور فإنّ أشجار الاستبداد هذه ستنمو من جديد بصورة أو بأخرى عاجلاً أو آجلاً. ولذا وجب الحذر.
والعقل ولي التوفيق
*
نشر في: ”إيلاف“، 8 سبتمبر 2011
منتهى العجب في أحوال العرب
مقالات السيد مصالحة بتفش الخلق. حاسته الإنسانيه المتجرده نادرة الوجود في إنساننا العربي. حيث التشرذم في معتقدات وإثنيات متخلفه مكونة العامل الرئيسي في تأخرنا عن الركب الحضاري العالمي