من النادر أن يتوافق إثنان على تعريف موحد وخاص للمجتمع المدني، خصوصاً في منطقتنا التي تشهد منذ فترة إنتفاضات تغييرية دخل بعضها مرحلة دموية من الصراع من أجل دفن عالم قديم ينهار ومواكبة عالم جديد يتأخر في البزوع، وطبيعي في هذه الأثناء أن تسرح الوحوش الضارية محاولة ملء الفراغات.
وفي لبنان الذي أطلق ربيعه ذات يوم، جاذباً مئات الوف الناس نحو ساحة الحرية، خصوصاً من الفئات الشبابية التي تدفقت إلى الساحة لتعلن وقوفها إلى جانب أهداف وشعارات السيادة والحرية والتغيير، فإن حوافز الحشد اللبناني الغير مسبوق تغذت(وإن عكسيا) من حشد لبناني آخر تنتمي شعاراته وقواه (وليس جمهوره طبعا) إلى عصر مضى وإلى عالم ينهار ببطء قاتل.
والمجتمع المدني بالمعنى الواسع للكلمة يحاول أن يوقف نهش الوحوش الضارية في أجساد مجتمعنا. فمنها من يفتك بالبيئة ومنها من يفتك بالإقتصاد، ومنها من يفتك بالناس والبلد، وجميعها تفتك بالمجتمع ونسيجه محولة إياه من غنى الإنفتاح والتنوع إلى فقر الإنغلاق والتقوقع. وفي حين تتعثر السياسة بمعناها العابر للطوائف والمناطق والفئات ويصل الإنقسام الأهلي لمستويات إنشطارية، يختلط السياسي بالمدني بالأهلي وترتفع الأصوات التي تصرخ وترفع شعارات تقارب العناوين السياسية، وبعضها يترافق مع تسخيف الطبقة السياسية وصولاً ربما لإزالتها، ما يضع أمام من يرفع هذه الشعارات مهمة “ملء الفراغ” وينقلها مرة واحد من الأهلي إلى المدني إلى السياسي.
وإذ ينطبق هذا التوصيف على مساحة الوطن الصغير، فإنه يأخذ في العاصمة الشمالية أبعادا أخرى (ككل شيء في هذه المدينة القلقة والواقفة على صوص ونقطة)،ذلك أن طبقتها السياسية، العتيقة منها والجديدة، تتمتع بجسم لبيس، كما أن مقصات خياطي المجتع المدني الطرابلسي، الواسع الإنتشار نسبيا، مسنونة دائما، علما أن بعض فئات هذا المجتمع مستتبعة بطريقة أو بأخرى للطبقة السياسية والتي بمعظمها، إن لم نقل كلها شاخصة نحو المركز البيروتي، تاركة الفيحاء الجميلة المخدوعة كمركز لتجميع الأصوات.
ففي مدينة كطرابلس، تأخذ معاناتها شكلاً درامتيكياً في صراعها الدائم لتغيير صورتها النمطية، بإعتبارها “أم الفقير” وعاصمة المشاكل والعنف والفوضى وساحة الرسائل الدموية المتنوعة، رغم فيض المؤتمرات واللقاءات والنشاطات والحفلات والماراتونات التي يقيمها الطرابلسيون. وتنحو فئاتها المدنية المتعددة منحى دراماتيكياً أيضا، إذ تجد نفسها تتصدى للعنف والإستباحة وتردي الخدمات وإنهيار الإنماء والفساد والتردي في تنفيذ المشاريع إن وجدت.
وهذا يعني أن قوى المجتمع المدني، مجموعات وأفراد، تجد نفسها وجهاً لوجه مع القضايا العامة والأزمات الكبيرة، ما يجعلها أسيرة هذه القضايا ويدفعها لتلبس حالات سياسية متعددة فتقع فريسة الإلتباس بين الحركة التغييرية والحركة الاعتراضية. وإذ يعتقد البعض أنه قادر على استنهاض حركات جماهيرية، فإن الإحباط يصبح وارداً عند كل مفصل وربما عند كل نشاط.
إن مهمة المجتمع المدني هي في الدفاع عن القيم والحقوق المدنية الواسعة والمشتركة متوسلا الوسائل الديمقراطية في الإعتراض ورفع الصوت وإضاءة الشموع بمعنى المبادرة والمساهمة بالعمل الثقافي والبيئي والإنمائي عموما بما فيها الإنماء الأكاديمي(كمشروع البناء الجامعي في المون ميشال الذي نهض على أكتاف المجتمع المدني بما فيه الأكاديمي والنقابي والثقافي) وليس لعن الظلام فقط على أهمية ومتعة لعن الظلام. وهذا يفترض المثابرة والنفس الطويل، ذلك أن نقطة الماء التي تنزل على الصخرة بشكل ثابت ستؤدي حتما إلى التأثير فيها، مع التألم لاستعمال هذا الثابت العلمي، فقد لجأ النازيون والمستبدون إلى استعمال القوة الهائلة للنقطة في التعذيب.
ولجأ كثيرون مؤخراً إلى تشكيل إتحادات وتجمعات “مدنية” فضفاضة، ما دفعنا إلى التحذير من أن الخيط الذي يفصل التجميع عن الإختزالية والتسييس هو خيط واهن، كما أن الخيط الذي يفصل التعدد عن التشظي هو واهن أيضا، وفي المقابل فإن الإنكفاء عن التعاون والتنسيق يضعف الحملات ذات الطابع العام، فضلاً عن أنه مؤشر لفائض في منسوب الشخصانية حتى لو تغلف “بالصفاء المدني”، علما أن هذا الصفاء يخدشه ايضا اللجوء لمصادر تمويل يحمل أصحابها أجندات معينة.
قد يبدو أننا نضع حواجز أمام محاولات تطوير صيغ وإطارات التعاون والتنسيق بين مكونات وفئات مدنية متنوعة، تسعى لتحفيز مزيد من الشرائح الإجتماعية والمهنية للإنخراط بنشاطات المجتمع المدني وهو ما لا نرغب به إطلاقاً. وفي الواقع فإننا ننطلق من مجموعة تجارب حيوية أدى بعضها إلى إحباطات وأعطت في بعض الأحيان عكس المرتجى، خصوصاً حين تتداخل الإعتبارات الطائفية والمذهبية والمناطقية والفئوية وطبعاً السياسية عند إطلاق حركة ذات طابع عام.
ونعتقد أنه يجب التوفيق بين معطيات كثيرة في العمل المدني كما يجب التزاوج بين مسألتين أساسيتين تبدوان متنافرتين ما يضعهما على مستوى الإشكالية.
أولاً: إيجاد أوسع مساحة ممكنة من أجل إشراك أوسع فئات ممكنة، ما يتطلب رسم خط فاصل ولو وهمي بين السياسي والمدني(وحتى النقابي أحيانا)، علما أنه من الطبيعي أن يتداخل السياسي بالمدني وأن يكون للناشطين أفكار وآراء وخلفيات وتطلعات سياسية، بمن فيهم أصحاب السوابق اليسارية الذين قفزوا إلى مراكب المجتمع المدني بعد تراجع وتفكك أحزابهم ومنظماتهم العقائدية.
ثانياً: الإرتكاز على ثوابت أساسية ومنطلقات لا يمكن تجاوزها مهما دورت الزوايا اللفظية، كالسيادة(بما فيها سيادة مؤسسات الدولة التي تكيل بمكيال واحد وحصرية السلاح) والحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ورفض العنف عموماً والعنف السياسي خصوصاً حتى لا نقع في فخ مساواة القاتل بالضحية والذي يتغلف بلعن الطبقة السياسية كلها(الزعما فلوا من لبنان).
وهنا نلاحظ أننا لا يمكن إلا أن نؤيد الشعارات العامة التي أطلقها الربيع اللبناني والتي جرى تطييفها في خضم الأحداث السياسية المتلاحقة في لبنان والمنطقة.
وتبدو شعارات المجتمع المدني أقرب لثورة الأرز، كما أن فئات ومكونات هذا المجتمع غرفت من أمواج البحر الهادر في 14 آذار2005، إلا أن نجاحها يكمن في استقطاب مكونات من التجمع الآخر والغرف منه أيضا، ما يتطلب مزيدا من الإستقلالية، ذلك أن وقف العنف والإنماء وحماية البيئة وقضايا المرأة وغيرها من مفاصل الحركة المدنية يشكل مصلحة لبنانية عامة عابرة للطوائف والمناطق والفئات.
من حق البعض أن يحلم بانتفاضات اجتماعية، خصوصا مع وصول التدهور الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي عموما لمستويات كارثية، ومع أن أية انتفاضة،إن حدثت، ستأخذ طابعاً مدنيا وعفويا وستدخل في جوفها مكونات المجتمع المدني المتنوعة، إلا أنها لا يمكن أن تكمل إلا سياسياً، ما يعني أن المكونات المدنية، بما فيها العابرة للطوائف، لا يمكن أن تشكل بديلاً عن أحزاب ديمقراطية عابرة للطوائف والمناطق، والتي ستبقى على جدول اعمال كل الأفراد والفئات والجماعات التي تتطلع إلى لبنان وطني ديمقراطي علماني آمن ومزدهر وفي رحابة عروبة طوعية ديمقراطية منفتحة على آفاق الحداثة وما بعد الحداثة وربما ما بعد بعد الحداثة.
فلنتخيل كم من الوحوش الكاسرة ستسرح بين هذه الأبعاد، وكم علينا ان نعمل للخلاص من الوحوش بأيدينا في غياب القديسين الذين صرعوا التنين وغيره من الوحوش.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس