أحمد بيضون يحبّ اللعب والتسلية. لا يأسف على مشاريع مضنية لم تثمر. «لكني تعلمتُ»، يقول عن فترة انكبابه غير المجدي عليها. والتعلّم عنده بمثابة تسلية، وكذلك الكتابة: يلعب بالكلمات، يبدّلها، يدلّلها، يخترع بعضها، يترحّل في أعماقها، فتحضر في نصه راضية مرضية. والغرض من كل هذا الترفيه، «تلحين للأنفاس»، بدل «إجهاد الحنجرة»، كما يقول. «تلحين الأنفاس» أي اختراع موسيقى تشفي من حنين لا تعرف لِمَن.
لعبة اخرى: السخرية. يقول عنها انها تحميه من «الجمود». أي انها تحميه، وبصورة خاصة، من الضجر، وليد الجمود؛ وتحميه من الشراسة العاتية التي يولّدها هذا الضجر. بهذه الطريقة، المسلية، يلعب احمد بيضون بالنص وبالكلمات. لو لم تكن تعرفه، لتخيلته رجلا جهورا منتفخ الرئة، ينتظر منك نظرة لينقضّ عليك بسخريته. وحين تعرفه، تفاجأ بخجله وأدبه. يلعب، ولكنه خجول: ليس من نوع الخجل/الذريعة، أو الخجل/المدخل الى… بل انه الخجل المتأصل، الضارب في الطبائع.
وما أدلّ على هكذا خجل غير الرقص: يحضر الى الرقص متعثر الخطوات. عندما يصف ارتباكه وعدم اعتياده على ولوج زوايا الفضاءات، يقول: «قد أقع… قد أفقد توازني…». يقاوم خجله وهو ذاهب الى الرقص، تحمرّ وجنتاه، تبرق عيناه، يعانده خجله، لكنه لا يسلّم به، فهو هنا مدعو لبهجة. والبهجة عنده أم الفضائل. هذا اول تناقض عند احمد بيضون: التسلية والسخرية والبهجة، بما يفسح لها الخجل من مجال.
شيء من الإثنين، التسلية أو الخجل، ينسحب على حب احمد بيضون لصفات الكمال. ليس ذاك الكمال الذي نتداوله، ويملي على حامله الشمول أو الشمولية، والمفضي الى الفشل، بل الكمال المأخوذ على عاتقه؛ كمال اللحن في الكلمات، كمال الوثوق من الأصول، كمال التمنْطق بالأفكار، كمال الودّ والضمير. هذا النوع من الكمال، يجعله احمد بيضون ممكناً، يحرّك فضوله ويحثّه على طرق أبواب اخرى من الجمال والمعرفة. فتراه يبحر بعيدا في مسعاه الى المعرفة؛ من دون ان يشعر بنفسه «مسؤولا عن التغيير في العالم»، من دون ان يحمل «كل شيء». تلك هي حدود نزوعه نحو الكمال. هذا هو التناقض الثاني: ابتغاء الكمال ووضع حدود لهذا الابتغاء.
خلف كل هذا، شغفٌ تحدسه. الخجل يحجبه: شغفٌ ينبض بالمعرفة وبالكلمات، بالناس والاحساس، وبالجمال طبعا. شغفٌ باللحن، بالدّرة التي سوف تضحكنا أو تهزّنا أو تعيننا على فهم شيء مما تنضح به تعقيداتنا وتعثراتنا. لكن حذار: احمد بيضون شغوف، لكن ليس كما هي صورة الشغوفين: ناريين، متطرّفين، صخّابين. لا شيء من كل هذا عند احمد بيضون. احمد بيضون ترابيّ المعدن، رجلاه على الارض؛ ما لا يسمح لمعدنه الثاني، الهواء، بالجموح. شغفه مشدود بوتد اعتداله: تلك الحدود التي يضعها على نفسه منعا للأذى، أو لجما لشراسة يدرك انها طاقة تترقّب فرص الانفجار: دروس الحرب الأهلية؟ أم طبائع متأصلة؟ لا نستطيع التخمين؛ ولكننا بصدد التناقض الثالث في شخصية أحمد بيضون: الجمع بين الشغف والاعتدال الورِع؛ أو قلْ هو نوع خاص من الشغف الداخلي.
التناقض الأخير هذا يعزّز بدوره تناقضا آخر: الوعي بالفردية والتمسّك بالجماعة في آن. يقول «أنا»، يستقل برسم دوره، لا يقبل بالزعامة الموروثة «ضعيف الميل الى إصدار الأوامر وتلقّيها». يقول انه لا يجد في الزعامة، في الوجاهة، بغيته ومزاجه. يستقل بموقفه، برؤيته، يبني المسافة مع إرث شبابه من الايديولوجيا. ينجز، يراكم، يشهد. انه رجل حرّ، حريته من فرديته. ولكنه هو ايضا رجل الأهل؛ الجنوب، ابناء الطائفة. يطمح الى ودّهم. ينتمي اليهم. ولا يفسد ودّه وقوفهم، أو وقوف غالبيتهم، ضد ما خلصت اليه تجربته وفكره من معانٍ للبنان.
البطء. يقول احمد في احدى نصوصه: «كنتُ بطيئا في كل شيء. في القراءة وفي الحفظ… وفي الكتابة أيضا، بطبيعة الحال… ولم أكن بارعا في استثمار الوقت«.
ومع ذلك، أنا اتساءل: ما سرّ هذا البطء؟ هل هو الورع؟ التأني؟ الضمير؟ أو نوع من الكرم مع النفس، باعطائها، هي قبل أي شخص، الوقت الذي تحتاجه لتستمتع بالوقت، لتتمعن في الأشياء، لتتأملها؟ ليصفى ضميره معها؟ أو إنه نوع من الصراع، الهادىء، المسالم، مع الوقت؟ هل يعرف احمد بيضون ان بطأه نعمة، وانه، بخلاف ما يعتقد، «براعة» في استثمار الوقت؟ وانه ربح هذا الوقت بأن جعله أنيسا لكل ما فعل، لكل ما لحّن، لكل ما قرأ وكتب في الماضي؟ وانه الآن أنيس لذاكرته؟ هل يعرف احمد بيضون ان بطأه هو البوتقة التي تحوّل تناقضاته الظاهرية الى تناغم يشبه موسيقى كلماته؟ أرجو ان يعرف، فهكذا معرفة إكسير للحياة، حياة جديدة مكتوبة.
[النص أعلاه كان من بين النصوص التي احتواها الكتاب الصادر عن الجامعة الأنطونية لمناسبة تكريم أحمد بيضون، «علم المعاني والمباني»
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية – بيروت