يعتبر مبنى كنيسة «آيا صوفيا»، أو «مبنى الحكمة المقدسة» Hagia Sophia، من أجمل المباني الأثرية في تركيا، وصرحا تاريخيا دينيا فريدا.
شيد متحف «آيا صوفيا» ككاتدرائية، وبقي كذلك لألف عام تقريباً، ولكن السلطان العثماني محمد الفاتح قام بتحويلها سنة 1454 إلى مسجد بعد قتل بطريركها، وكل رجال الدين العاملين فيها، وذلك إثر استيلائه على القسطنطينية، ثم قام أتاتورك عام 1935 بالتكفير عن فعلة السلطان وتحويل المسجد، بعد 481 عاماً، إلى متحف يرتاده الجميع، ويؤدون الصلاة فيه.
تُعتبر كنيسة آيا صوفيا من معالم التراث الإنساني الجميلة، وتحتوي على آثار ونقوش أرثوذكسية وإسلامية عديدة ترمز للتعايش الديني بين الشرق والغرب، وتعتبر قمة في المعمار البيزنطي. فقد بذل الإمبراطور «جستنيان» الجهد والمال الكثير للاهتمام بتجميل المبنى وزخرفته، فجميع حيطان الكاتدرائية مغطاة برموز دينية وصلبان كبيرة، وألواح من الرخام بمختلف الألوان مع سقوف مزينة بنقوش الفرسكو والفسيفساء، ولكن العثمانيين غطوها بطبقات من الجبس ورسمت فوقها زخارف هندسية وأشكال من الخط العربي، إلا أن كثيراً من تلك الطبقات تساقطت مع الوقت وظهرت الآثار والرموز الكنسية القديمة الأصلية تحتها.
وضمن أحلام إعادة الخلافة العثمانية، قامت مجموعة «شباب الأناضول» بالدعوة إلى إقامة الصلاة في المتحف، سعياً لتحويله إلى مسجد، وغالباً بدعم حكومي، بالرغم من أن رئيس الوزراء التركي صرح بأنه لا نية لدى الحكومة لتعديل وضع المتحف، فإن المحكمة الإدارية العليا التركية صادقت بعدها بأيام على قرار تحويل آيا صوفيا مسجداً، ونال القرار مباركة أردوغان، على الرغم من اعتراض عدد من الدول الأوروبية، وروسيا والكنيسة الأرثوذكسية على الحكم!
***
أسعد قرار تركيا قلوب الكثير من «الفطاحل»، ولا أدري سبب هذا الهوس الذي يدفع البعض إلى إثارة الآخرين من غير سبب. ولماذا نعتبر، أو نفرح لاغتصاب حقوق الغير وتحويلها إلى أماكن عبادة لنا؟ هل تشكو تركيا أو أي بلد إسلامي آخر من قلة المساجد؟ وهل الصلاة لا تقبل، والدعاء لا يستجاب إلا في المسجد؟
ما الضرر من إبقاء مبنى تاريخي عظيم، سبق أن كان كنيسة لألف عام، ثم تحول «غصباً» إلى جامع، على وضعه الذي قبله العالم على مدى السنوات التسعين الماضية، ومكان صلاة لأتباع جميع المعتقدات؟
من جانب آخر، لا أرى سبباً لإعطاء مباني المساجد كل هذه الأهمية. فقد تغيرت معالم كثيرة في الكويت بسبب اعتراض مبنى مسجد لمخطط التطوير وجرى تغيير مسارات طرق ومواقع مبانٍ كي لا يزال، غير مدركين أن آلاف المساجد دمرت وأزيلت عبر التاريخ، ولم يتأثر الإسلام من ذلك، فهذه في النهاية مبانٍ أقيمت أساساً لأداء خدمة دينية، ويجب ألا تعامل بقدسية بل باحترام. وإن تطلب الأمر إزالتها مثلاً وإقامة أفضل منها في مكان آخر، فأين المشكلة؟
كما أن دور العبادة الخاصة في كل دول العالم تعتبر ملكاً لمؤسسات دينية أو أفراد أو جمعيات، وقلة منها تعود ملكيتها للدولة. وبالتالي لمالكيها حق التصرف بها بالطريقة التي تلائمهم، بما في ذلك بيعها حتى لأتباع ديانة أخرى، وحدث ذلك مرات كثيرة في أوروبا وأميركا، ولم يضعف البيع إيمان أحد، فالعبرة تكمن في ما في النفوس وليس في الحجر والكونكريت.
وأخيراً أتساءل: ما الذي سيكون عليه رد فعلنا إن قررت إسرائيل مثلاً تحويل مسجد قبة الصخرة إلى كنيس، وهو احتمال وارد؟
كيف سنرد عليهم، ونحن الذين لم نستطع إخفاء «نشوتنا» بتحويل كاتدرائية قديمة إلى مسجد.. لا حاجة ضرورية له؟
a.alsarraf@alqabas.com.kw