1-
يُراد لهذه الـمقدمة أن تكون ممارسة في تشخيص ونقد الـمثقفين، وبشكل أكثر تحديداً نقد الحقل الثقافي. وبما أننا لا نملك حق الحكم على شيء لا نتمكّن من تعريفه، فالحري بنا أن نبدأ بتشخيص معنى الحقل الثقافي والـمثقفين. والبداية تتمثل في التذكير بحقيقة أننا نشخّص ظاهرة تاريخية جديدة أولاً، وذات معان ودلالات تختلف من ثقافة إلى أخرى ثانياً.
ولكن كيف يكون الـمثقف ظاهرة تاريخية جديدة، وقد عرف بنو البشر، منذ اختراع الأبجدية، على مدار قرون طويلة، وفي مختلف ثقافات الكون، الشعراء والكتّاب والفلاسفة؟
والواقع أن معنى الـمثقف باعتباره ظاهرة تاريخية جديدة لا يتأتى دون التوّقف أمام سؤال كهذا. وفي معرض الإجابة عنه نتوقف أمام الحادثة التي تمثل لحظة صعود الظاهرة إلى قاطرة التاريخ. والـمقصود، هنا، الحملة التي شنها الكاتب الفرنسي إميل زولا دفاعاً عن ألفريد درايفوس في أواخر القرن التاسع عشر.
كان “درايفوس”، اليهودي الفرنسي، ضابطاً في سلاح الـمدفعية، اتهم بالخيانة العظمى، في محاكمة شهيرة ترددت أصداؤها في القارة الأوروبية، وعُوقب بالنفي والسجن الـمؤبد. وهي الـمحاكمة نفسها التي أقنعت مؤسس الصهيونية السياسية “ثيودور هرتسل”، الصحافي النمساوي الناجح، وكاتب الـمسرحيات الفاشل، بضرورة إنشاء دولة يهودية، طالـما أن اندماج اليهود في مجتمعاتهم مستحيل.
وعلى طرف نقيض من “هرتسل”، شنّ “إميل زولا” حملة ضد الحكومة، إذ كان درايفوس في نظره ضحية لـمؤامرة نجمت عن تحيّزات عنصرية، انتهك أصحابها قيم “الحرية والإخاء والـمساواة”، أغلى شعارات الثورة الفرنسية. وفي هذا السياق نشر مقالته الشهيرة “إني أتهم” وتعرّض للـملاحقة والتنكيل من جانب سلطات الدولة، خاصة وقد أصبح في طليعة معارضة واسعة النطاق نتيجة انقسام الفرنسيين حول الـموقف من درايفوس. وكان الانقسام في الجوهر صراعاً بين قوى ومصالح متضاربة حول هوية الـمجتمع الفرنسي نفسه، وما ينبغي أن تسود فيه من قيم.
ولكن ما معنى هذا الكلام، ولـماذا اعتُبرت تلك اللحظة بالذات علامة فارقة، ولحظة يُؤرّخ من خلالها لظهور الـمثقف بالـمعنى الحديث والـمتداول على امتداد القرن العشرين وحتى يوم الناس هذا؟
الجواب يكمن في ما يكوّن الحادثة من عناصر. فنحن إزاء كاتب يُوّظف الكتابة في تجنيد الرأي العام ضد سلطات الدولة، خدمةً لقضية عامة، بدافع من ضميره، بمنأى عن الـمصلحة الذاتية، دفاعاً عن حقيقة يمكن إقناع الناس بصوابها عن طريق الصحافة، أوسع وسائل الاتصال انتشاراً في زمنه.
تنطوي هذه العناصر على أكثر من دلالة أهمها: أن الكاتب فاعل اجتماعي مستقل، ومواطن يستثمر رأسماله الرمزي، الـمستمد من مهنة الكتابة، في قضية عامة، وأن هذا الفاعل، نتيجة حقوق تكفلها فكرة الـمواطنة، يملك حق معارضة الحكومة، وأن لديه من الـمنطق ما يمكنّه من تكوين وإقناع الرأي العام، وهذا ممكن نتيجة توفـّر وسائل الاتصال الجماهيرية غير الخاضعة لسلطة الدولة.
ربما لا يحتاج “كارل مانهايم” إلى أكثر من اجتماع عناصر كهذه لتعريف الـمثقف باعتباره شخصاً تحرر من التحيّزات الطبقية والأيديولوجيا الرسمية، فأصبح قادراً على رؤية الحقيقة، وقيادة الـمجتمع. وهي فكرة تعيدنا في الواقع إلى أسطورة الكهف في جمهورية أفلاطون، حيث يجلس بنو البشر، وقد أداروا ظهورهم، مكبلين بالقيود، وغارقين في تأمل الظلال الـمتراقصة على جدران الكهف، فيحسبونها عالـم الواقع لأنهم لـم يروا في حياتهم سواها، أما الفيلسوف فهو القادر على تحرير نفسه من الأغلال والظلال والخروج من الكهف لرؤية الواقع الحقيقي.
فكرة مدهشة، بالتأكيد، وربما تكفي لإقناع الكثيرين، بأن الـمثقف في الأزمنة الحديثة لـم يكن، في الواقع، سوى فيلسوف الكهف الأفلاطونية. وهذا خطأ. فالـمواطنة، والرأي العام، والشعب، وسلطات الدولة، والكتابة، ووسائل الاتصال الجماهيرية، مفاهيم حديثة تماماً.
كان “إميل زولا” وريثاً للثورة الفرنسية، الحدث الذي غيّر الكون، عندما أطاح بالحق الإلهي للـملوك، وأسقط سلطة الكنيسة، وأطلق شعار “الحرية والإخاء والـمساواة”، فكان القابلة التي ولدت على يديها أفكار الـمواطن والـمواطنة. وبالقدر نفسه، كان “زولا” وريثاً لعصر الأنوار. وهذان الحدثان: الثورة، و”عصر الأنوار”، هما عمارة اللحظة التاريخية التي شهدت ولادة الـمثقف بالـمعنى الحديث للكلـمة. وهما، أيضاً، مقدمتان ضروريتان لفهم دعوة أطلقها أحد أبرز مثقفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأحد أهم صنّاع القرن العشرين: كارل ماركس، الذي رأى أن مهمة الفلاسفة لـم تعد تفسير العالـم بل تغييره.
الخلاصة أن جينات الـمثقف ليست جينات فيلسوف الكهف الأفلاطونية أولاً، وأن الوظيفة الاجتماعية، أو الانخراط في الشأن العام، جزء من مؤهلاته الضرورية ثانياً.
بيد أن اللحظة التي شهدت ولادة الـمثقف في التاريخ ــ وهذا يعيد إلى الذهن كلام باختين عن ولادة الفرد في التاريخ ــ لـم تُسهم وحدها في صناعة الهالة التي كللت هامته في القرن العشرين، أو تلك التي كللت هامات آخرين يشبهونه، بأثر رجعي، ظهروا قبله في زمن صعود القومية في أوروبا، ولاحقاً في زمن حركات التحرر القومي في الـمستعمرات.
ففي سياق صعود القومية، وإنشاء دول قومية حديثة، اكتسب الكتّاب مكانة وأهمية جديدتين، لـم تكن بالضرورة جزءاً مما عرفوه عن أنفسهم، أو عُرف عنهم، في أزمنة مضت. أصبحوا في حالات كثيرة بمثابة آباء روحيين، وطليعة لشعوب وأمم جديدة، خاصة في الـمناطق التي سادت فيها أيديولوجيا القومية الرومانسية القائمة على اللغة والعِرق، وهذه حال الروس، والعرب، والبلغار، والألـمان، والتشيك، والأتراك، والفرس، والبولنديين، والصرب، واليهود، واليونان، وغيرهم.
فقد اكتشف هؤلاء لأنفسهم خصوصيات لغوية وعرقية، وانخرطوا في اكتشاف ما يميّزهم عن الآخرين، وفي تلفيق ما يؤكد تفوّقهم على الآخرين، وجدارتهم بالسيادة على إقليم بعينه أو أكثر. العملية التي وصفها “إيرنست غيلنر” بتعميم ثقافة النخبة، وتحويلها إلى ثقافة توحيدية للشعب. ومن نافلة القول إن الشعراء وكتّاب الروايات والـمؤرخين والنقّاد الاجتماعيين هم مَنْ اكتشف ومَنْ لفّق، ولـم يندر أن يكونوا أيضاً في طليعة الحركات السياسية القومية، وبين قادتها ومؤسسيها. وهذه النقطة، بالذات، تعيدنا إلى الكلام عن الفرق بين دلالة ومعنى ومكانة الـمُثقف في ثقافات ومناطق مختلفة من العالـم.
فالدلالة والـمعنى والـمكانة ليست واحدة في جميع الأحوال. ثمة فرق واضح، مثلاً، بين الثقافتين الإنكلو – ساكسونية والفرنسية، وبين الإنكليزية والعربية، أو الهندية والبولندية. عموماً، الفرق بين ثقافة وأخرى مستمد من الفرق بين الأيديولوجيات التي أسهمت في بناء الدولة القومية الحديثة في هذه الـمنطقة أو تلك.
في ثقافات القومية الرومانسية يقترب دور الـمثقف من دور النبي، وسارق النار، ولا تزال هذه الدلالة قوية في فرنسا، وفي أوروبا الشرقية، والوسطى، وفي الشرق الأوسط. أما في الثقافة الأميركية والبريطانية فإنه أقرب ما يكون إلى تعبير “الإنتلجنسيا” في صيغته الروسية القديمة، أي الـمتعلّم من أبناء الطبقتين الوسطى والعليا، الذي ينخرط وينتج في ميادين الاقتصاد والاجتماع والفن والأدب، وأغلب هؤلاء جزء من بيروقراطية الدولة، وجهاز الإعلام والتعليم.
2-
تنظم هيئة الإذاعة البريطانية، سنويا، سلسلة محاضرات باسم “محاضرات رايت”، منذ ما يزيد عن نصف قرن. فتدعو أحد كبار المثقفين في العالم لإلقاء محاضرات حول شؤون ثقافية وفكرية وسياسية مختلفة. وقد وقع اختيارها في العام 1993 على إدوارد سعيد، الذي حاضر حول دور المثقفين.
لا يتسع المجال، هنا، للاستفاضة في كل ما تكلّم عنه سعيد، بل تكفي الإشارة إلى أمرين اثنين: إلتباس مفهوم المثقف أولا، والعلاقة الوثيقة بين المثقف والشأن العام ثانيا. ومن حسن الحظ أن إدوارد سعيد قدّم من خلال ما أسماه بالمثقف العام تعريفا يمثل نقطة وصل بين الأمرين الأوّل والثاني.
فالمثقف يملك نوعا من رأس المال الرمزي، لكن ملكية رأس المال هذا ليس بالشرط الكافي للانخراط في تعريف المثقف، إذ ينبغي أن يكون صاحب رأس المال الرمزي معنيا بالشأن العام. والشأن العام سياسي بامتياز.
وللحيلولة دون مزيد من الالتباس ينبغي القول إن السياسي بالمعنى الكبير للكلمة يشمل كافة جوانب الحياة. فالمختص في علوم البحار يصبح جديرا بصفة المثقف العام إذا انخرط في كفاح لحماية البيئة، مثلا، في حين يصعب إضفاء الصفة نفسها على شاعر يعيش مهموما بالجمال في عزلته الأنيقة، مترفعا عن هموم الدنيا، ومشاكل الناس.
ولعل في الفرق بين عالِم البحار وشاعر العزلة الأنيقة، ما يمكننا من تسليط ما يكفي من الضوء على حقيقة أن الإشتغال بالأدب ليس بالشرط الكافي لاكتساب صفة المثقف العام حسب التعريف السعيدي. وأذكر بأن هذا الأمر كان جزءا من حوارات دائمة مع مثقف كبير هو محمود درويش، وكان من رأيه أن كاتب الأدب ليس مثقفا بالضرورة، كما أن المثقف ليس كاتبا للأدب، بالضرورة. ثمة فرق بين الاثنين، رغم أن البعض قد يجمع بين الصفتين.
يمكن تسليط مزيد من الضوء على إشكالية التعريف بالعودة إلى الحقول الفرعية للحقل الثقافي حسب تقسيم “بيير بورديو”. فالحقل الثقافي يضمن حقولا فرعية تتكون من المشتغلين بالأدب، والفن، والعلوم الإنسانية، وعلوم الطبيعة. ولكن غالبا، في اعتقادي، ما يُختزل الحقل الثقافي في المشتغلين بالأدب والفن، لأسباب تتعلّق بالديانة المدنية للدول الحديثة، وصعود الحركات القومية، والكفاح ضد الكولونيالية وإنشاء دولة وهويات قومية جديدة. لذلك، غالبا ما يضيع دور الجامعة في العالم الثالث بشكل خاص، نتيجة فصل الجامعة عن الشأن العام أولا، وتهميش العلوم الإنسانية والطبيعية ثانيا.
يمكن على ضوء ما تقدّم الكلام عن الثقافة والمثقفين في فلسطين. بيد أن الكلام في أمر كهذا يظل ضربا من التعميم، ما لم نضع في الحسبان حقائق من نوع: أن الحقل الثقافي (بمختلف حقوله الفرعية) ظاهرة متحركة أولا، وأن الصورة الفعلية لهذا الحقل لا تتجلى إلا من خلال علاقته بحقلين إضافيين هما الحقل السياسي وحقل السلطة ثانيا.
معنى التحفظ الأوّل أن التحقيب ضروري. فنحن لا نستطيع الكلام عن ثقافة وعن مثقفين دون الاحتكام إلى محددات زمانية ومكانية محددة. ومعنى التحفظ الثاني أن الكلام عن الثقافة والمثقفين هو في الصميم كلام في السياسة والمجتمع.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالحقل الثقافي الفلسطيني، فإن هذا الحقل فريد من نوعه. ومصدر التفرّد أن الحقول الثقافية تنشأ في أرض ومجتمع ودولة وسلطة مركزية. وقد فقد الفلسطينيون الأرض والمجتمع والدولة والسلطة المركزية منذ العام 1948. صحيح أن مجتمعات فلسطينية وُجدت وما تزال بعد النكبة في فلسطين وخارجها، ولكنها لم تمارس سيادة على الأرض، عاشت في ظل سلطات مركزية مختلفة، وبدت دائما وكأنها مجتمعات مرتجلة ومؤجلة. تغيّر هذا الوضع بعد العام 1994 عندما نشأت سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن السلطة لم تتحوّل إلى دولة، بينما بقيت مشكلة المجتمعات الفلسطينية في الجليل، والعالم العربي، والعالم، على حالها.
خصوصية هذا الحقل الثقافي تجعل من الصعوبة بمكان مقارنته مع أي حقل ثقافي آخر في العالم. ومع ذلك، ثمة أوجه للشبه بينه وبين حقول ثقافية تكوّنت في المستعمرات، وفي سياق الكفاح ضد الكولونيالية. ولعل أهمها التحالف الوثيق بين المثقفين، أو “الإنتلجنسيا” (وهذا المفهوم أوسع وأكثر دلالة) وبين الحركة القومية الاستقلالية. وغالبا ما أسهم المثقفون أنفسهم في تأسيس الحركات القومية، وعملوا في قيادتها، وفي جميع الأحوال أسهموا في إحياء وتوليف وابتكار ثقافة وتقاليد وتواريخ وهويات قومية جديدة.
وهذا كله يصدق على الحركة القومية الاستقلالية في فلسطين منذ وعد بلفور وحتى يوم الناس هذا (دون إهمال المفاصل التاريخية والتحوّلات الحاسمة بطبيعة الحال). فمن أسهموا في إنشاء الأحزاب، وفي تجنيد الناس ضد الانتداب، وجابهوا مشروع الاستيطان الصهيوني بالمعنى العسكري والسياسي والثقافي خرجوا في أغلب الأحيان من صفوف المثقفين بالمعنى الواسع للكلمة.
وقد تكرر الأمر نفسه بعد النكبة بعقد واحد من الزمن، عندما انخرط المثقفون في مشروع الإحياء القومي، وإنشاء حركة التحرر القومي (الوطني، إذا شئت) الفلسطينية. وحتى مَنْ كانوا بعيدين عن فلسطين سرعان ما التفوا حول مشروع التحرر القومي، وعادوا للالتحاق بمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، والعمل في صفوفها.
بيد أن للتحالف الوثيق عيوبه. وهذا يصدق على الفلسطينيين بقدر ما يصدق على حركات التحرر والإحياء القومية الأخرى (الجزائر، فيتنام، الصين، جنوب أفريقيا..الخ). وعلى رأس تلك العيوب تعزيز البعد الدعوي، التحريضي، الكرنفالي، والأيديولوجي للممارسة الثقافية على حساب البعد النقدي، التحليلي، والعقلاني لدور المثقفين في مشروع التحرر والإحياء القومي. ولعل في غياب هذه الدلالة، بالذات، ما يفسر لجوء فيصل درّاج إلى تفسير ما تجلى من بؤس للثقافة في ما أسماه بالمؤسسة الفلسطينية بغياب المثقف العضوي من ناحية، والعقل الريفي من ناحية ثانية.
ثمة ما هو أعمق وأبعد من حضور المثقف العضوي أو غيابه، ومن هيمنة العقل الريفي. فالمفتاح يكمن في خصوصية وطبيعة العلاقة بين المثقفين والإنتلجنسيا عموما وبين مشروع التحرر والإحياء القومي. بل ويمكن القول، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالحالة الفلسطينية، إن المشكلة كانت في الحضور الفائض عن الحاجة للمثقفين العضويين، وفي هيمنة عقل هجين لا هو بالريفي ولا بالحضري في أوساط المثقفين والساسة على حد سواء، أي عقل اللاجئ، الذي حاول صديقنا فيصل حوراني تحليل سلوك الساسة والمثقفين على حد سواء استنادا إلى فرضية وجوده.
ومع ذلك، التحالف بين المثقفين والإنتلجنسيا عموما وبين مشروع التحرر والإحياء القومي لم يكن مشروطا بوحدة الهدف، ومشاعر الانتماء القومي، والمصير وحسب. بل كان محكوما ومشروطا بمنطق السوق، أيضا: العرض والطلب والقيمة التبادلية والاستعمالية للسلعة الثقافية. وهذا المنطق هو المسكوت عنه في الغالبية العظمى من السجالات والنقاشات والصراعات التي شهدها ويشهدها الحقل الثقافي.
والواقع أن معنى الحقل الثقافي، وطبيعة علاقته بحقلي السياسة والسلطة لا يكتملان إذا غاب عنهما منطق السوق. وهذا المنطق يشبه السلع المهربّة التي يستهلكها الجميع لكن أحدا لا يتكلّم عنها، خاصة في حقل مثل الثقافة تزداد مكانة المرء فيه بقدر ازدياد رأسماله الرمزي، وبقدر ما يبدو مترفعا عن مكاسب الحياة الدنيا، ومتجردا في خدمة المُثل العليا (فهو يكتب بالدم لفلسطين) بينما لا تحظى قيم الثراء المادي بما لها من مكانة شبيهة في عالم رجال الأعمال، مثلا.
ل
م ينل الحقل الثقافي الفلسطيني حقه من التحليل حتى الآن استنادا إلى علاقته بحقلي السياسة والسلطة (حقل السلطة لدى “بورديو” أوسع من مفهوم الحقل السياسي، الذي يعني نظام الحكم، بينما حقل السلطة يضم مراكز الإنتاج والدورة الاقتصادية والشركات ورجال الأعمال والمال إلى جانب نظام الحكم، أو السلطة السائدة). شكّلت منظمة التحرير الفلسطينية منذ مطلع السبعينيات وحتى أواسط التسعينيات الحقل السياسي، لكنها كانت تفتقر إلى مقومات حقل السلطة، وقد نشأ لدينا منذ أواسط التسعينيات، في الضفة الغربية وقطاع غزة حقل سياسي وحقل للسلطة، أيضا. وفي ظل هذه التحوّلات كلما سمع الواحد منّا كلاما عن الثقافة والمثقفين ينبغي عليه أولا: التفكير بأن أصحاب الكلام يساورهم قلق خاص بشأن شروط التحالف القديم بين حقل السياسة، كما جسدته منظمة التحرير، والمثقفين والإنتلجنسيا بشكل عام، وثانيا: البحث عن منطق السوق وراء كل كلام محتمل في هذا الشأن.
وفي الغالب يختفي الأمران تحت عنوان عريض اسمه الروح القومية، والثوابت، والعدو الواقف على الأبواب. وفي الغالب، أيضا، لا يتذكر أحد بأن الكلام عن الثقافة والمثقفين لا يصح دون نقد دورهم الدعوي، التحريضي، الكرنفالي، والأيديولوجي، ودون إعادة الاعتبار إلى البعد النقدي، التحليلي، والعقلاني لدور المثقف العام حسب تعريف إدوارد سعيد. لدينا الكثير من الوطنيين جدا، ولكن ينقصنا، على الأرجح، الكثير من النقديين والتحليليين والعقلانيين.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com