يهدف هذا المقال الى بيان أحد اسباب تخلفنا كعرب وتردى اوضاعنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والرياضية……..الخ من سيئ الى اسوأ وذلك من خلال تحليل احد المظاهر الإجتماعية التى تبدو بسيطة ومعتادة لدينا رغم خطورتها وتسببها فى اختلال منظومة القيم لدينا ويهدف المقال أيضا الى الأجابة على سؤال محورى ألا وهو لماذا ينتشر التملق لدينا بهذا الشكل الخطير؟
وبداية فان الغدر هو ان تنكل بشخص يفترض انه قريب منك على حين غره وعلى نحو غير متوقع له تماما، اى ان الغدر لا يأتى الا من قريب كاشح ولذلك فانه يكون اكثر ايلاما واشد اذى.
اما التملق فهو ان تداهن وتتودد الى صاحب نفوذ معين إما اتقاءا لشره أو لتدعيم مكانتك لديه أو اكتساب صلاحيات ومزايا لا تستحقها وغالبا على حساب أخرين اكثر استحقاقا، وينتشر التملق كأسلوب حياة فى العالم كله ولكن بدرجات مختلفة ولكننا فى العالم العربى نفخر بأننا اصحاب ريادة وتفوق على العالم كله في فنون التملق كما سوف أوضح حالا.
وكثيرا ما نخلط بين النفاق والتملق فنستخدم مصطلح النفاق عوضا عن مصطلح التملق فنقول على فلان انه منافق عندما نراه فى وضع تملق. والتملق هو ما سبق الحديث عنه، أما النفاق فهو ان تقول ما لا تفعل او ان تدعى انك تؤمن بمبدأ معين وتسلك على نحو مغاير تماما كأن تقول انك تقدس الأمانة وتكثر فى الحديث عن فضائلها وانت تحترف الخيانه، او ان تقول انك تحب الصراحة والصدق وأنت كاذب حتى النخاع. والنفاق يمثل عقدة نفسية ولا يضر إلا صاحبه، أما التملق فهو اسلوب انتهازى رخيص ويأخذ اشكالا عديدة لدينا كعرب إذ يمكن ان يتحقق عن طريق الإطراء الزائد على صاحب النفوذ واضفاء الكثير من الخصال التي لا يستحقها عليه كأن تقول له ما اذكاك وانت تراه ينضح غباءا، او ان تقول له لسانك “ينقط عسل” كما نقول فى مصر والكل يشهد بان فاه لا يخرج الا حجارة “ودبشا” وقد يأخذ التملق شكل المبادرة بتقديم خدمة معينة او تقديم هدية عينية او ذم شخص تشعر ان صاحب النفوذ يكرهه وهكذا.
وهناك الكثير من الأمثله الشعبية العامية لدينا التى تبرر التملق كأسلوب حياة مثل “إذا كان لديك عند الكلب حاجة فقول له يا سيدى”.
والمتملق شخص شديد الذكاء وخفيف الحركة وتلاحظ هذا بوضوح فى معظم المحيطين بأصحاب النفوذ فى العالم العربي سواء كانوا من السياسيين أو الأغنياء، فتجد هذا المتملق حاد البصر ولماح بشكل مذهل ويقف دائما على أطراف أصابعه مستعد دائما لتلبية اى اشارة تند عن سيده، فما ان يبادر السيد بأى التفاته نحو اى شيئ الا وتجد صاحبنا بين يده ملبيا ” نعم سيدى ” فأذا كنت تعانى من خشونه فى المفاصل فأنك لا تصلح لهذا العمل الذى يتطلب ليونة عالية فى المفاصل وخفه شديدة فى الحركة واخذ وضع الانحناء الدائم امام السيد.
كما ان من الخصائص الأساسية التى ينبغى ان يتمتع بها المتملق الاستعداد لتقبل اى نوع من الامتهان من سيده على الملأ دون اظهار اى نوع من التبرم بل على العكس تماما فان المتملق يتلقى الأهانات عادة وهو يضحك!
وإذا ما تبسم السيد أو القى بنكتة سخيفة تجد صاحبنا اول من يضحك وبشكل هستيرى، اما اذا حدث ما يحزن السيد فان المتملق يظهر من الحزن والأسى اضعاف ما يظهره السيد.
وفى ظل الديكتاتوريات التى تحكمنا فى العالم العربى ستجد ان معظم القيادات في الحكومة نفسها وفى كافة المصالح الحكومية والأعلام والجامعات والمجالس النيابية والقضائية………. الخ من فئة هؤلاء المتملقين والمتسلقين وهناك دائما من هم اكفأ وأشرف منهم ولكنهم مبعدون لانهم لا يحبون ولا يجيدون فنون التملق، وكما هو معروف فان قياداتنا العربيه تفضل دائما ما يسمون بأهل الثقة (التملق) على اهل الخبرة وهكذا فقد ضيعنا التملق وكان من ضمن الاسباب الاساسية لمسيرة التخلف التي تتجه دائما بنا إلى الخلف ولم نعد نتنازع إلا على المؤخرة في كل شيء.
والسؤال لماذا نتميز على كافة الأمم فى شيوع التملق لدينا بهذا القدر؟
لقد وجدت من خلال قراءتى لتاريخ العرب منذ عصور الخلافة الاسلامية وحتى الأن ان الغدر والخيانة كان هما المحركين الاساسيين لمعظم الاحداث، ستجد دائما عددا لا بأس به من المؤامرات والاغتيالات، ستجد أخا يغدر بأبيه او بأخيه من أجل اغتصاب الحكم أو الفوز بامرأة، ستجد ابنا يغدر بأبيه او بعمه من أجل نفس السبب، وستجد حكاما يغدرون بوزارء أو مسئوليين أكفاء خوفا من حصولهم على شعبية لدى شعوب مغلوبة على أمرها.
وقد توصلت الى حقيقة ان التملق كان هو الاسلوب الأمثل لاتقاء شر هؤلاء الحكام والمسئوليين واصحاب النفوذ، نعم لم توجد وسيلة للتعامل مع هذا القدر من الغدر الا التملق ولهذا ينتشر التملق لدينا بهذا القدر الضخم دون سائر الأمم كنوع من الوقاية ضد غدر قد يضرب دون سابق إنذار، يكفيك كل صباح ان تقوم بعملية مسح جوخ محدودة وبعض الكلام المعسول حتى تتقى شر غدر محتمل لأن الحاكم الضعيف دائما ما يتوجس شرا من كل من يعملون معه ولا يظهرون نوعا من التملق وغالبا ما يغدر بهم.
وليس غريبا ان نجد ان اكثر من نصف شعر المتنبي وهو أكثر الشعراء العرب موهبه كان فى المدح وهو نوع من التملق استخدمه المتنبى كأسلوب للعيش واكتساب العطايا والنفوذ، والمتنبي بهذا كان انتهازيا الى ابعد الحدود ويكفي ان تقرأ شعره فى مدح كافور الأخشيدى ثم ذمه بعد ذلك عندما اوقف عطاياه للمتنبي.
وحديثا انظر الى كم الاغتيالات التى قام بها نظام بشار الأسد فى سوريا ضد خصومه فى لبنان وداخل حكومته ذاتها لمجرد توجسه منهم او لمجرد انهم لم يسمعوه لحن التملق الذى يطرب له.
وانظر الى معظم المناصب القيادية داخل المجالس النيابية والقضائية والإعلامية والجامعية وحتى مشيخة الأزهر فى مصر سوف تجدها محتله بمجموعة من المتملقين ممن يسمون بأهل الثقة.
ان غياب الديمقراطية لدينا فى العالم العربى وتكميم أفواه الشعوب وخضوع السلطتين التشريعية والقضائية لإرادة الحاكم الاله كل هذا يعنى ببساطة المزيد من الغدر والمزيد من التملق والمزيد من الضياع لأوطاننا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
Mahmoudyoussef@hotmail.com
مستشار اقتصادي مصري
مقدمة في الغدر والتملق لقد أورد المؤرخ (ديورانت ) حواراً موجباً للعبرة حول السياسة , دار بين (كنفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كونغ) ؛ الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة أجاب كنفو شيوس قائلاً : على السياسة أن تؤمن أشياء ثلاثة لقمة العيش الكافية لكل فرد القدر الكافي من التجهيزات العسكرية .القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم سأل “تسي كونغ ” : وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيها نضحي ؟ .فأجاب الفيلسوف : بالتجهيزات العسكرية سأل تسي كونغ : وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحي ؟ أجاب الفيلسوف :… قراءة المزيد ..