لم يكن الحراك المدني الذي يغمر وسط العاصمة الأول من نوعه، وإن كان الأهم لجهة دلالاته. فقد سبقه تحركات متنوعة كشباب ضد النظام الطائفي وهيئات التنسيق والحراكات الطربلسية وغيرها من الحراكات خارج سياق الانقسام السياسي الإجمالي والذي وصلت توتراته المذهبية والفئوية حدود الانشطار.
وإذا كانت أعداد المنخرطين في الحراك مباشرةً وتنوُّعهم فاقت بعض التوقعات، فإن أهميته تكمن بأنه شكّل وجبة رئيسية على مائدة كل لبناني، خصوصاً أن الفضائيات شكّلت بمعظمها “حملات” أضيفت إلى “طلعت ريحتكم” و”بدنا نحاسب” وغيرها، مما ساهم بتوسيع دائرة الحراك، علما أنه شجع بعض “الفنانين الثوريين” الذين قدموا من الغناء على أنغام القتل في مناسبات بشار إلى التنظير في ساحات الحراك الديمقراطي إلى تمجيد الجنرال اليائس والمتحفز دائما في التظاهرة العونية.
والسؤال الذي يرتسم على شفاه الجميع، هو ما إذا كانت هذه الحملات تشكل أملاً في اختراق الإنقسامات الطائفية والمذهبية والفئوية وخرقا في الأزمة السياسية اللبنانية التي ترعى وتؤجج هذه الانقسامات منذ تكوّن النظام السياسي اللبناني وصولاً إلى دخول البلد مرحلة جديدة بعد استشهاد رفيق الحريري ونشوء تيارات سياسية جديدة تحت اسم ٨ أذار، بعد تظاهرة الوفاء لسوريا التي حشدت مئات الألوف خصوصاً من الطائفة الشيعية، و١٤ أذار بعد الإنتفاضة التي جذبت أكثر من ربع الشعب اللبناني إلى قلب العاصمة.
ما يدفع لهذه الإستعادة هو المفارقات والإشكاليات التي طبعت الحراك. فمن حركة جمعيات وحملات ديمقراطية وبيئية استفزها عجز الحكومة والمسؤولين عموماً عن إجراء الإنتخابات وعن حل أزمة النفايات رغم النذر القادمة من “الناعمة ومطمرها”، ما جعل رائحة أم المدن العربية تحرر رائحة الفساد المرافق للنظام الطائفي والمتحول (مع نمو فئات سياسية جديدة خلال مرحلة النظام الأمني السوري اللبناني ومع نشوء دويلة حزب الله) من آفة إلى منظومة إلى ثقافة، هل نتذكر زبال نيويورك؟ إلى حركة واسعة التحق بها منوعات مدنية ونقابية وسياسية.
قد يختلف كثر على طبيعة الشعارات والمقاربات من أصحاب الحملات التي تتأرجح من النفايات والفساد، إلى الشعارات السياسية، من استقالة وزير إلى إسقاط الحكومة وصولاً إلى إسقاط النظام، ومن انتخاب رئيس الجمهورية إلى إقرار قانون انتخابي يعطي أملا في تمثيل الفئات المستقلة والشباب والمرأة.
لنلاحظ أن سمة أساسية من سمات هذا التحرك هو أنه عابر للطوائف، خصوصاً أنه استقطب فئات واسعة من الطبقة الوسطى الأكثر ثقافة وانفتاحا والتي شكلت قاعدته الأساسية وتجمعت تحت عباءته الفضفاضة كل المنوعات وتدحرجت كل المظالم وتظهرت كل المطالب البيئة والأمنية والاجتماعية والصحية والحقوقية والدستورية والسياسية، ما شكل جاذباً لبعض الشخصيات التي تسلقت مع النظام الأمني السابق، كما لكثير من أصحاب السوابق اليسارية والعلمانية (علما أن بعضهم ما زال يعيش في عصر جليدي مضى) إلى محاولات البعض للاستفادة منها لتذخير وتزخيم معاركه الدون كيشوتية العبثية.
والسمة الثانية هو أن مطالب الحراك ذات طبيعة عامة بمعظمها، بخلاف مطالب الحركات النقابية كهيئة التنسيق والاتحاد العمالي والمهن الحرة والهيئات الإقتصادية (وكلها من مكونات المجتمع المدني الواسع)، إذ أن بعض أمراض الطبقة السياسية تخترقها، بعد تدجين واستتباع بعضها(كالإتحاد العمالي الذي شكل جسرا ل7ايار 2008) ومحاولة احتواء بعضها الآخر، ومع أن مطالبها قطاعية، إلا أنها لطالما لامست قضايا عامة في تحركاتها(مؤتمر البيال وتحركات هيئة التنسيق) كتعطيل المؤسسات والفساد السياسي والإداري والمالي وهي قضايا تكاد تأخذ البلد إلى الإنهيار الإقتصادي والدولة الفاشلة، لذا قد تنشأ بعض الإلتباسات بين الحراكات المدنية والحراكات النقابية والقطاعية.
والمفارقة هنا أن الجمعيات المدنية تتعاطى عادة بمواضيع عامة ولكن محددة، كديمقراطية الانتخابات وحقوق الإنسان والبيئة والثقافة والإنماء والسلام وأعمال الخير ويقترب بعضها من الدعوات التبشيرية، فهل يظن البعض اننا أمام انتفاضة وإرهاصات ربيع ما؟ ذلك أن الشعارات لامست قضايا من العيار الثقيل، ما يستدعي التبصر بطبيعة الأزمات. هل نواجه أزمة نظام ام أزمة كيان أم أزمة حكومة ومؤسسات، وهل الطبقة السياسية متساوية بالمسؤولية عن الأزمات، ذلك أن الخطر الأصلي على كيان البلد تتحمله فئة أساسية لا تخفي نفسها، وإن كان الجميع متساو في المحاصصة المستندة على العصب المذهبي المشاغب على السلم الأهلي والمتعارض مع المواطنة ومدنية الدولة. وللمفارقة، فإن الحرية النسبية التي تحمي اللبنانيين من سيادة الإستبداد والإنقلابات والتطرف، فضلا عن القمع العاري،هي من إيجابيات النظام الذي نشكو منه جميعا.
لسنا بحاجة لوسائل إيضاح في البحث عن من يعطل المؤسسات من رأس الهرم حتى قاعدته، ومع ذلك فالتساؤلات كلها مشروعة أمام العواصف وتداعياتها في قضايا اللجوء والأمن والسلم الأهلي،كما في استشعارالانعكاسات على حزب الله والطائفة الشيعية، خصوصاً بعد الحراك المدني العراقي والإتفاق النووي والتطورات في سوريا والمنطقة.
يشكل الحراك المدني قلقا لحزب الله وحلفائه أكثر مما يشكل قلقا لـ١٤ اذار رغم تحمل الأخيرة العبء الأكبر في تصدرالوزارات العسكرية والأمنية وبعض الخدماتية. فبالقدر الذي وجه الجنرال حشده مؤخرا ضد 14 آذار، مستنفرا العصب المسيحي بوجه العصب السني عازفا على وتر الأقليات، فهو موجه أيضا ضد الحراك المتعدد والمتنوع والديمقراطي. كما كان معبراً ضغطُ حزب الله الفاقع لسحب صورة نصر الله من لائحة السبع شخصيات “الفاسدة”، فضلا عن تشجيع مشبوه لأعمال عنفية وتكتيكات فردية تضعف الحراك. من هنا نطرح التساؤلات والملاحظات التالية:
١-هل انتهت لحظة ١٤ اذار ٢٠٠٥ بما هي لحظة اجماع لبناني عابر للطوائف لاستعادة سيادة البلد وحريته وتعدده وتنوعه والتي من أجلها استشهد كثر من رفيق الحريري حتى محمد شطح مرورا بسمير قصير وجورج حاوي وغيرهما؟ علما أن السيطرة السورية استبدلت بسيطرة ايرانية حزب اللهية ما زالت تعطل البلد وتمسك بخناقه، رغم ملامح المرحلة الجديدة بعد الإتفاق الأميركي الإيراني.
٢-وهل أصبحت 14 اذار عاجزة عن إدارة ربط النزاع مع الحزب وحلفائه، خصوصاً مع تداعيات الأزمة السورية وإيغال حزب الله في الدم السوري؟ وهل تطغى المحاصصة والزبائنية والفساد عموما على المسألة الكيانية؟ علماً أن رائحة النفايات تغطي روائح الفساد والسرقة في المرفأ والمطار والكهرباء وفي البحر شاطئا وقاعا، فضلا عن فضائح الأدوية والمخدرات والخطف. ثم ألا يشكل تعطيل الرئاسة والمجلس النيابي والحكومة والتطاول على المؤسسات العسكرية والأمنية ومحاولة جرها إلى مواجهات دموية تحت ستار الإرهاب، كشفا كاملا للبلد أمام الفوالق والعواصف والفوضى؟
٣- إذا كانت احزاب 14 اذار تعاني من خلل نتيجة بناها الطائفية ونتيجة تحملها أعباء إضافية في مشاركتها في السلطة وفسادها وخيباتها وشلل مؤسساتها، ما يجعلها قاصرة عن مخاطبة جمهور 8 آذار، الشيعي منه خصوصا، ومربكة في مخاطبة الفئات والنخب الأكثرانفتاحا، فهل يستطيع جنين المجلس الوطني أن يخرج وينمو بشكل طبيعي ويساهم بإعادة إمساك لحظة 14آذار بما حملت من معاني التنوع والتعدد والتواصل بين المكونات في بلد حر وسيد ومنفتح على فضاء عربي طوعي وديمقراطي؟ وهل سيكون قادرا على التواصل مع جمهور 8آذار من جهة على ضو التغيرات في المنطقة ، ومع جمهور الحراك المدني من جهة أخرى، علما ان بعض أعضاء المجلس والمحيطين به “منتشرون” بساحات الحراك المدني.
٤-هل تستطيع اطياف الحراك المدني الموسع التمتع بالمسؤولية والنفس الطويل، عبر رفع مطالب وشعارات مرنة وواقعية، علما أنه من الغير المنطقي توقع حركة موحدة وصاعدة دون تعثر، مع التمييز بين العمل المدني والنقابي والسياسي الحزبي، رغم وفرة التقاطعات والمساحات والقضايا المشتركة.
٥- إن الحراكات المتنوعة يمكن أن تشكل عامل ضغط على قوى ومواضيع الحوار،رغم انعدام الثقة، ذلك أن تفعيل وتشغيل وتحريرالحكومة ومؤسسات الدولة هو المدخل الأساس لمعالجة القضايا جميعها بما فيها قضية النفايات وقضايا الفساد والهدر والإنتاجية، ويمكن الحراك أن يؤثر على قانون الانتخابات، ولكن على أساس انتخاب رئيس للجمهورية والتطبيق الجدي للدستور، والإبتعاد عن التكتيكات الفردية والمغامرات والشعارات “الثورجية” التي تفرق ولا تجمع وربما تؤدي للفوضى وتصب الماء في طاحونة القوى الأشد مذهبية.
من هنا نرى أن أهمية الحراك لن تكون في اختراع قوة سياسية ثالثة، بل بالتأثير المستدام على الحياة السياسية المتداعية عبر فتح كوة في الجدار الطائفي والتحفز لمنع اسقاط البلد في المجهول، علما ان إعادة نشوء أحزاب جديدة عابرة للطوائف وعير متكلسة تبقى مهمة أساسية، يمكن أن يشكل الحراك المدني، كما المجلس الواطني، روافد أساسية لها.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس-لبنان