ثمة واقعة ذات دلالة مجازية مهمة متداولة في الوسط السياسي والثقافي السوري ،تتحدث عن ذلك السفير الذي قال :أنه أتى إلى سوريا ولديه معلومات ومعارف وافرة عنها.. لكنه بعد إقامته لسنوات عديدة خرج منها وهو لا يعرف شيئا عنها على حد تعبيره..
هذه المحنة التي يعيشها السياسي الأجنبي الذي يزداد جهلا بسوريا كلما عاش بها أكثر ،هي التي تفسر واقع الجهل العالمي بحقيقة النظام السوري الذي يعتاش على التباسات هذه الحقيقة منذ خمسين سنة حتى هذه اللحظة التي يراهن المجتمع الدولي (ساركوزي فرنسا مثلا) والعربي (السعودية مثلا) أنهم بإمكانهم المراهنة على إبعاد النظام عن إيران أو وحزب الله للحفاظ على الاستقرار في لبنان أو الكف عن اللعب بالورقة الفلسطينية وتقسيم الحركة الوطنية الفلسطينية… أو الكف عن إرسال السيارات المفخخة والانتحاريين إلى العراق …الخ من أدوار التخريب وإشاعة الاضطرابات والفوضى للإمساك بأوراق تفاوضية لحماية الذات التي تكونت تاريخيا كذات بالتضاد مع ذوات الآخرين وبدلالة الصراع معها (ثوريا) ليس مع إسرائيل فحسب، بل والمحيط العربي (الرجعي والاستسلامي) حتى تم اكتشافهم (الثوري/الطائفي) لصداقة إيران…
يعتقد الطرف (الغربي) المراهن على التغيرات السياسية للنظام، أنه يكفي أن يقدم عروضا سخية :اقتصادية وسياسية تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني والمصالح العليا للمجتمع السوري، بل بما فيها دفع عملية السلام بما يخدم قضية عودة الجولان لسوريا حتى تستجيب السلطة الحاكمة…. يظنون أنه يكفي منطقيا أن تفعل ذلك حتى يستجيب النظام وفق منطق سياسات المصالح.
ولكن مع ذلك فإن الغرب يفاجأ بأن عروضه ترفض ببساطة ولا يؤبه لها ويظل النظام يعلن أن علاقته استراتيجية مع إيران وأنه لا يتخلى عن تمثيله لقلعة الصمود والتصدي…فيفاجأ المجتمع الدولي بالرفض الرسمي دون أن يدرك مبرراته سوى ما يبدو أنه تشدد في المواقف الوطنية…
يفاجأون دون أن يدور في خلدهم –على طريقة الديبوماسي الذي غادر سوريا بعد سنوات طوال وهو لايعرفها- أن المسألة ببساطة : هي أن الجميع يحاوره على أساس المصلحة الوطنية العليا لبلده جاهلين حقيقة مفهومه ومعاييره في تقدير المصلحة الوطنية العليا وفق المنظور الاستراتيجي البعثي ولاحقا (الأسدي)، وهي ممارسة فن البقاء إلى الأبد بوصف البقاء في السلطة هو ذروة المشروعية الوطنية…!
أي يفوتهم ببساطة أن أولوية الأولويات (الوطنية) وفق معاييره:هي كيف يمكن فك رقبته –ولاحقا- رقبة حلفائه _حزب الله) من حبل المحكمة الدولية…!!!ولهذا يمكن ببساطة –أيضا- أن نفهم مسألة المذكرات الهزلية القاتمة (الكوميديا السوداء) توقيف (لبنان :33 شخصية) بوصفها ورقة للمقايضة مع العالم حول مسارات المحكمة الدولية…دون أن يرف لهم جفن خجلا من المنطق وقوانين العقل كما سنرى…
ولهذا تسود بداهة سياسية على شكل أدلوجة معتقدية: وهي أن أي نقد للنظام إنما هو نقد يوجه إلى سوريا…وعلى كل حال فإن أخواننا اللبنانيين يعززون فحوى هذا الخطاب الأمني بحديثهم النقدي الدائم لممارساته من خلال تسميته بـ(السوري أو السوريين) وهم يقصدون النظام المخابراتي…!!!
بهذه السلاسة الاعتقادية تتشكل “رؤية العالم الأسدية” للسياسة والمجتمع والحياة ،وهي رؤية مدججة بكل القوة العسكرية والأمنية (المخابرات) وموازنات البلاد للدفاع عن هذه الرؤية التي تحتل (أجهزة المخابرات) فيها وظيفة سدنة هيكل مقدساتها (الوطنية)، إذ هي تنتشر على كل الحيزات الحزبية والمنظمات (الجماهيرية) والإدارية والإعلامية ، حيث كل هذه الدوائر تشكل (صفات) متشابهة لـ (لذات واحدة) هي ذات المخابرات التي قد حل بها روح القدس الأسدي ، فأصبحت قادرة على فعل ما تريد…
المخابرات تفعل ما تريد، إذ هي محمية بفرمانات أسدية من (الآب إلى الابن) إذا ما ارتكبت جرائم القتل ضد العدو الأول (المجتمع)، والأعداء القوميين (اللبنانيين والفلسطينيين ولاحقا العراقيين … أما العدو الإسرائيلي فمن الحكمة عدم تحرشه لأن يده دائما على الزناد…وهو الوحيد الذي يمتلك عناصر القوة لتبادل الاعتراف في البقاء (بقاؤه في الجولان ضمانة للبقاء في السلطة)…
ولهذا فإنه يقتصر على حكمة واعتدال القتل الوطني والقومي الأخوي لكل أولئك الذين لا يعرفون مفهوم الوطنية كما عرفها السيد حسن نصر الله وحركة (8آذار) بأن تعريف سوريا هو (سوريا الأسد)، وكل من خالف أو ظهر أنه ليس شديد الإيمان بهذا التعريف الوطني، يسحل وطنيا بالإبادة الجماعية كما في تدمر وحماة سوريا، وقوميا (لبنانيا) منذ كمال جنبلاط إلى رفيق الحريري: القتل المباشر أم بالوكالة عبر الشركاء (الثوريين المقاومين) ،وكل من لا يعترف بهذه الشرعية (الثورية ) ترفع بحقه مذكرة توقيف كمثال 33 لبنانيا خائنا للوطنية الأسدية المستمرة بالوريث (ابن أبيه الأسدي)، بل وهي مذكرات دولية اكتسبت دوليتها من توقيع الولي الفقيه في إيران عليها ،إذ لم تعلن إلا بعد أن عاد الشاب الوريث من طهران غانما البعد القداسي لختم ممثلي آل البيت المخطوف في قم… فالقتل الوطني هو (ثوري مقاوم) بداهة، وهو لذلك فإنه تكليف شرعي ولايتي :أي أنه قتل مقدس….
هذا العنف المقدس ربما يحمل بعض التفسير لظاهرة الخوف الميتافيزيقي المعمم في سوريا، والذي يراد له أن يعمم في لبنان، حيث قادة حزب الله يهددون اللبنانيين ويدعونهم للشعور بـ(الذعر) إن دافعوا عن دمائهم وحقهم في معرفة قتلتهم عبر المحكمة الدولية… نقول :لعل هذا العنف الدموي المقدس هو الذي يفسر ثقافة الخوف الميتافيزيقي الذي يخترم العظام ويطال النفوس وهي في الأرحام قبل أن تتخلق… على حد تعبير الشاعر…
تأسيسا على منظومة المقدس إذ يحتوي عار المدنس (ثقافة الخوف والنفاق والزحف الغرائزي الذليل استجابة لقيم العالم السفلي)، ربما يمكن تفسير عدم شعور أي بعثي بالعار عندما يكتب التقارير(الوطنية) التي تكشف (قلة وطنية) زملائه في العمل ، ولا يشعر مدير المدرسة أو المعلم بأنه ينتهك قدسية الطفولة عندما يوظف (تلاميذ) ينقلون لمدير(جهاز المدرسة) ما يقوله المعلم أو يقوله زملاؤه ضد الوطن ( ضد الرئيس: حيث هذه خطيئة كلفتها 13سنة لإحدى التلميذات التي ألهمها ضميرها النقي وحدسها السليم بأن تضع للرئيس الطاغية الأب أذني حمار كما هو معروف، فقضت طفولتها في السجن….طبعا هذا يذكرنا بإخلاص الابن لنهج أبيه الاعتقادي (الممهور) من قبل حدس الطفلة الصغيرة بأذني حمار للأب رب السلالة الأسدية ، وذلك عندما يحبس سليل أبيه الوريث :الصبيتين الصغيرتين (طل الملوحي وآيات أحمد)، ثم تتدرج عقوبات (الآثام) هبوطا حسب درجة مسها بروح القدس (الأسدي) الذي يتنفس دنسا شيطانيا لا تطهره حتى الدماء… إذا لم يشرب خمرته المقدسة بجماجم ضحاياه…
في هذا السياق لابد من الإشارة إلى ظاهرة تستحق الوقوف انثربولوجيا عندها مطولا، وهي ظاهرة الفرق الباطنية التي نشأت على ضفاف المذهب الرسمي (السني) تاريخيا…فإنها بمقدار ما كان العنصر (الميثي الفانتازي) في منظومة العقيدة يلعب دورا مهما في القطع مع غرائبيتها الإعتقادية الخرافية ومن ثم الاستعداد للانخراط في الحداثة بدون ضغوط ثقل الميراث المؤسسي الرسمي الشرعي….بمقدار من جهة أخرى ما أعد بيئة عصبية ثقافية ونفسية لتقبل فكرة (التقديس) عبر مبدأ الحلول والتناسخ وغيره من الثقافات القديمة… وهذا ما استفاد منه (الأسد الأب ) في التأسيس لطغيانه المغلف ببطانة من التقديس ، سيما لدى نموذج (الشخصية الوسط)، أي الشخصية المتوسطة الموهبة والذكاء…وهذه هي الشخصية النموذجية التي تحتل مؤسسة الجيش والمخابرات في سوريا ،حيث بمعظمهم من أصحاب التعليم والذكاء المتوسط، مع الإفراط في الاعتداد بالقوة الجسدية وفائض العنف، حيث يتباهى أهم نجم همجي اليوم في مخابرات (أمن الدولة) المدعو(زهير حمد) الذي سبق أن اختطفنا رجال عصابته من الشارع… يتباهى بقوته الجسدية بأن يحمل الشاب الرهيف عقلا وإحساسا المحامي (مهند الحسني) داعية حقوق الإنسان، بساعده خارج النافذة ويهدده برميه منها…
فهؤلاء يرتقي عندهم الولاء لـ(المعلم) إلى درجة التقديس بالتصاعد ارتفاعا حتى المعلم الأول…ويجدر الإشارة في هذا السياق كمثال على نموذج (شخصية الوسط ) أن أحد قادة فروع الأمن السياسي الشهيرين في سوريا المدعو (عدنان بدر حسن) تحدث منبها ومحذرا لبعض المعارضين قائلا : (إن حافظ أسد خط أحمر…فهو إن لم يكن الله ذاته فهو دونه بإصبعين…).
إن قيادة مثل هذه النماذج(درجة وسطية الذكاء) لسوريا عبر خمسين سنة من خلال مثلهم الأعلى الأسد الطاغية الأب الوثن (رمز وسطية الذكاء هذه وفائض العنف الدموي)، هي التي أتاحت مناخا ثقافيا ونفسيا لا يجد الشباب (الطلائعي الثوري) بينهم حرجا أو عنتا في أن يرفعوا بعض الهتافات التي تؤله الطاغية بدو استشعار بالإثم الديني أو النفسي أو الاجتماعي: (يا ألله حلّك…حلّك…الأسد يقعد محلّك….).
هذه المحنة عبر عنها ذات مرة صديق دبلوماسي فرنسي أجاد العربية (السورية- الدمشقية ) وأحبها إلى درجة أنه يستشعر آلام هذا البلد الذي أحبه أكثر من الكثيرين من أبنائه (الوطنيين)….نقول : بلغ حبه لسوريا حدا فائقا من الحساسية في تلمس الوباء الأخلاقي الذي يخترم عظامها… هذه الحساسية الأخلاقية العالية نحو سوريا تضعه في صفوة الصفوة من المنخرطين في إنقاذها وطنيا وإنسانيا أكثر من كثيرين من الذين يبحثون عن نقاط مشتركة لوحدة القضية (الوطنية والقومية) مع نظام ليس له من قضية سوى التشبث الذليل بالبقاء، حتى ولو اضطر أن يساوم كل يوم على جزء من أرضه مقابل بقائه كمستأجر أو مستوطن لا فرق ، بدءا من الجولان وصولا إلى اسكندرون…
هذا الصديق تلمس الوباء بحسه الأخلاقي النبيل، بعد أن أقام علاقات واسعة ليس مع المعارضة فحسب، بل ومع أوساط واسعة من أطقم السلطة ذاتها فعرفها عن كثب…فقد كان يعبر عن دهشته من قدرة الطاقم السلطوي أن يمارس هذا النوع من (الازدواجية الجماعية)، في صيغة ما يمكن أن يسمى بـ(الكذب بمنتهى الصدق أو الدناءة والفساد بمنتهى الورع والتقوى النضالية)، حيث يتقدم هذا الطاقم المتشابه المتسلط من خلال النموذج المنغمس حتى القاع بحاجاته الحسية والرغبوية والغريزية الملتصقة بأديم الأرض وغبارها ووسخها، بمثابته كائنا أعلى في درجة التصاقه بالمثل الوطنية والقومية العليا…إذ استوطنه داء الكذب حد بلوغ درجة عالية من الورع والتبتل الكاذب ، حيث يتمظهر عن كائنية مصطنعة ومصنوعة لتؤدي دورا حياتيا يقدم من خلاله صورة المناضل الذي لا يعيش من أجل ذاته أبدا، بل من أجل القضايا الكبرى (الوحدة العربية –فلسطين – والمعركة الأبدية ضد إسرائيل والامبريالية…) هذه الخصائص من التقوى الكاذبة تحولت إلى نموذج نمطي يتخطى الفرد إلى مستوى (النمذجة) ليكون مثالا أو قل : (تمثالا) لـ(فضيلة نضالية جماعية) يلهج بها الجميع في صيغة (الكذب بمنتهى الصدق) “دون أن يرف له جفن وهو يحدق في عيني محدثه” على حد وصف صديقنا الفرنسي…
هذه الصيغة التي يمكن أن نتقصاها ايديولوجيا بالخطاب (القومي) الذي يؤسس لانتصارات البلاغة المغلفة للهزائم على الأرض، وهي كما هو معروف استمرار لا واعي لميراث (الميثوث) السحري (التعزيمي) حيث القول يستحضر الفعل ويحل محله، ولعل أهم نمذجة نمطية لذلك : هي توصيف هزيمة حزيران 1967 بأنها ليست هزيمة بل هي نكسة ، هذا من جهة…. ومن جهة ثانية : إنها ليست هزيمة لأنها لم تسقط الأنظمة التقدمية (الناصرية والبعثية )، هذه المصفوفة (الكذب بصدق وإخلاص) ستستمر قوتها التفسيرية البارعة بسيكولوجيا واستقلابيا وتعويضيا (لتقميط الهزائم بقماط الانتصارات ) حتى يومنا هذا متجددة بتجدد القوى الشعارية من صورة (المناضل) إلى صيغة (المجاهد) …وهذا أيضا ما يفسر لنا كل هذه (الانتصارات الإلهية ) في تدمير لبنان في تموز 2006…ومن ثم انتصارات (مذبحة غزة )على اعتبار أن إسرائيل عجزت عن (إسقاط القوى (الثورية) /الجهادية :حزب الله وحماس)، كما عجزت من قبل عن إسقاط القوى القومية واليسارية منذ هزيمة حزيران حتى هزيمتهم اليوم في بغداد…. حيث الأمريكان اليوم –وفق (الخطاب التقميطي)- يشدون الرحال مفرنقعين تحت ضربات المقاومة الباسلة لعزت الدوري ورفاقه الميامين الأشاوس الذي سلموا الأمريكيين العراق لاستدراجهم إلى حتوفهم ليذيقوهم كأس المنون….!!!
يتبع
مفهوم القانون والقضاء في الخطاب الأمني (الأسدي) :”الكذب بمنتهى الصدق” ؟؟؟
محاولة لفهم دلالة مذكرات توقيف (الدولة اللبنانية) من خلال 33 شخصية لبنانية…!!!
د.عبد الرزاق عيد
ثمة واقعة ذات دلالة مجازية مهمة متداولة في الوسط السياسي والثقافي السوري ،تتحدث عن ذلك السفير الذي قال :أنه أتى إلى سوريا ولديه معلومات ومعارف وافرة عنها.. لكنه بعد إقامته لسنوات عديدة خرج منها وهو لا يعرف شيئا عنها على حد تعبيره..
هذه المحنة التي يعيشها السياسي الأجنبي الذي يزداد جهلا بسوريا كلما عاش بها أكثر ،هي التي تفسر واقع الجهل العالمي بحقيقة النظام السوري الذي يعتاش على التباسات هذه الحقيقة منذ خمسين سنة حتى هذه اللحظة التي يراهن المجتمع الدولي (ساركوزي فرنسا مثلا) والعربي (السعودية مثلا) أنهم بإمكانهم المراهنة على إبعاد النظام عن إيران أو وحزب الله للحفاظ على الاستقرار في لبنان أو الكف عن اللعب بالورقة الفلسطينية وتقسيم الحركة الوطنية الفلسطينية… أو الكف عن إرسال السيارات المفخخة والانتحاريين إلى العراق …الخ من أدوار التخريب وإشاعة الاضطرابات والفوضى للإمساك بأوراق تفاوضية لحماية الذات التي تكونت تاريخيا كذات بالتضاد مع ذوات الآخرين وبدلالة الصراع معها (ثوريا) ليس مع إسرائيل فحسب، بل والمحيط العربي (الرجعي والاستسلامي) حتى تم اكتشافهم (الثوري/الطائفي) لصداقة إيران…
يعتقد الطرف (الغربي) المراهن على التغيرات السياسية للنظام، أنه يكفي أن يقدم عروضا سخية :اقتصادية وسياسية تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني والمصالح العليا للمجتمع السوري، بل بما فيها دفع عملية السلام بما يخدم قضية عودة الجولان لسوريا حتى تستجيب السلطة الحاكمة…. يظنون أنه يكفي منطقيا أن تفعل ذلك حتى يستجيب النظام وفق منطق سياسات المصالح.
ولكن مع ذلك فإن الغرب يفاجأ بأن عروضه ترفض ببساطة ولا يؤبه لها ويظل النظام يعلن أن علاقته استراتيجية مع إيران وأنه لا يتخلى عن تمثيله لقلعة الصمود والتصدي…فيفاجأ المجتمع الدولي بالرفض الرسمي دون أن يدرك مبرراته سوى ما يبدو أنه تشدد في المواقف الوطنية…
يفاجأون دون أن يدور في خلدهم –على طريقة الديبوماسي الذي غادر سوريا بعد سنوات طوال وهو لايعرفها- أن المسألة ببساطة : هي أن الجميع يحاوره على أساس المصلحة الوطنية العليا لبلده جاهلين حقيقة مفهومه ومعاييره في تقدير المصلحة الوطنية العليا وفق المنظور الاستراتيجي البعثي ولاحقا (الأسدي)، وهي ممارسة فن البقاء إلى الأبد بوصف البقاء في السلطة هو ذروة المشروعية الوطنية…!
أي يفوتهم ببساطة أن أولوية الأولويات (الوطنية) وفق معاييره:هي كيف يمكن فك رقبته –ولاحقا- رقبة حلفائه _حزب الله) من حبل المحكمة الدولية…!!!ولهذا يمكن ببساطة –أيضا- أن نفهم مسألة المذكرات الهزلية القاتمة (الكوميديا السوداء) توقيف (لبنان :33 شخصية) بوصفها ورقة للمقايضة مع العالم حول مسارات المحكمة الدولية…دون أن يرف لهم جفن خجلا من المنطق وقوانين العقل كما سنرى…
ولهذا تسود بداهة سياسية على شكل أدلوجة معتقدية: وهي أن أي نقد للنظام إنما هو نقد يوجه إلى سوريا…وعلى كل حال فإن أخواننا اللبنانيين يعززون فحوى هذا الخطاب الأمني بحديثهم النقدي الدائم لممارساته من خلال تسميته بـ(السوري أو السوريين) وهم يقصدون النظام المخابراتي…!!!
بهذه السلاسة الاعتقادية تتشكل “رؤية العالم الأسدية” للسياسة والمجتمع والحياة ،وهي رؤية مدججة بكل القوة العسكرية والأمنية (المخابرات) وموازنات البلاد للدفاع عن هذه الرؤية التي تحتل (أجهزة المخابرات) فيها وظيفة سدنة هيكل مقدساتها (الوطنية)، إذ هي تنتشر على كل الحيزات الحزبية والمنظمات (الجماهيرية) والإدارية والإعلامية ، حيث كل هذه الدوائر تشكل (صفات) متشابهة لـ (لذات واحدة) هي ذات المخابرات التي قد حل بها روح القدس الأسدي ، فأصبحت قادرة على فعل ما تريد…
المخابرات تفعل ما تريد، إذ هي محمية بفرمانات أسدية من (الآب إلى الابن) إذا ما ارتكبت جرائم القتل ضد العدو الأول (المجتمع)، والأعداء القوميين (اللبنانيين والفلسطينيين ولاحقا العراقيين … أما العدو الإسرائيلي فمن الحكمة عدم تحرشه لأن يده دائما على الزناد…وهو الوحيد الذي يمتلك عناصر القوة لتبادل الاعتراف في البقاء (بقاؤه في الجولان ضمانة للبقاء في السلطة)…
ولهذا فإنه يقتصر على حكمة واعتدال القتل الوطني والقومي الأخوي لكل أولئك الذين لا يعرفون مفهوم الوطنية كما عرفها السيد حسن نصر الله وحركة (8آذار) بأن تعريف سوريا هو (سوريا الأسد)، وكل من خالف أو ظهر أنه ليس شديد الإيمان بهذا التعريف الوطني، يسحل وطنيا بالإبادة الجماعية كما في تدمر وحماة سوريا، وقوميا (لبنانيا) منذ كمال جنبلاط إلى رفيق الحريري: القتل المباشر أم بالوكالة عبر الشركاء (الثوريين المقاومين) ،وكل من لا يعترف بهذه الشرعية (الثورية ) ترفع بحقه مذكرة توقيف كمثال 33 لبنانيا خائنا للوطنية الأسدية المستمرة بالوريث (ابن أبيه الأسدي)، بل وهي مذكرات دولية اكتسبت دوليتها من توقيع الولي الفقيه في إيران عليها ،إذ لم تعلن إلا بعد أن عاد الشاب الوريث من طهران غانما البعد القداسي لختم ممثلي آل البيت المخطوف في قم… فالقتل الوطني هو (ثوري مقاوم) بداهة، وهو لذلك فإنه تكليف شرعي ولايتي :أي أنه قتل مقدس….
هذا العنف المقدس ربما يحمل بعض التفسير لظاهرة الخوف الميتافيزيقي المعمم في سوريا، والذي يراد له أن يعمم في لبنان، حيث قادة حزب الله يهددون اللبنانيين ويدعونهم للشعور بـ(الذعر) إن دافعوا عن دمائهم وحقهم في معرفة قتلتهم عبر المحكمة الدولية… نقول :لعل هذا العنف الدموي المقدس هو الذي يفسر ثقافة الخوف الميتافيزيقي الذي يخترم العظام ويطال النفوس وهي في الأرحام قبل أن تتخلق… على حد تعبير الشاعر…
تأسيسا على منظومة المقدس إذ يحتوي عار المدنس (ثقافة الخوف والنفاق والزحف الغرائزي الذليل استجابة لقيم العالم السفلي)، ربما يمكن تفسير عدم شعور أي بعثي بالعار عندما يكتب التقارير(الوطنية) التي تكشف (قلة وطنية) زملائه في العمل ، ولا يشعر مدير المدرسة أو المعلم بأنه ينتهك قدسية الطفولة عندما يوظف (تلاميذ) ينقلون لمدير(جهاز المدرسة) ما يقوله المعلم أو يقوله زملاؤه ضد الوطن ( ضد الرئيس: حيث هذه خطيئة كلفتها 13سنة لإحدى التلميذات التي ألهمها ضميرها النقي وحدسها السليم بأن تضع للرئيس الطاغية الأب أذني حمار كما هو معروف، فقضت طفولتها في السجن….طبعا هذا يذكرنا بإخلاص الابن لنهج أبيه الاعتقادي (الممهور) من قبل حدس الطفلة الصغيرة بأذني حمار للأب رب السلالة الأسدية ، وذلك عندما يحبس سليل أبيه الوريث :الصبيتين الصغيرتين (طل الملوحي وآيات أحمد)، ثم تتدرج عقوبات (الآثام) هبوطا حسب درجة مسها بروح القدس (الأسدي) الذي يتنفس دنسا شيطانيا لا تطهره حتى الدماء… إذا لم يشرب خمرته المقدسة بجماجم ضحاياه…
في هذا السياق لابد من الإشارة إلى ظاهرة تستحق الوقوف انثربولوجيا عندها مطولا، وهي ظاهرة الفرق الباطنية التي نشأت على ضفاف المذهب الرسمي (السني) تاريخيا…فإنها بمقدار ما كان العنصر (الميثي الفانتازي) في منظومة العقيدة يلعب دورا مهما في القطع مع غرائبيتها الإعتقادية الخرافية ومن ثم الاستعداد للانخراط في الحداثة بدون ضغوط ثقل الميراث المؤسسي الرسمي الشرعي….بمقدار من جهة أخرى ما أعد بيئة عصبية ثقافية ونفسية لتقبل فكرة (التقديس) عبر مبدأ الحلول والتناسخ وغيره من الثقافات القديمة… وهذا ما استفاد منه (الأسد الأب ) في التأسيس لطغيانه المغلف ببطانة من التقديس ، سيما لدى نموذج (الشخصية الوسط)، أي الشخصية المتوسطة الموهبة والذكاء…وهذه هي الشخصية النموذجية التي تحتل مؤسسة الجيش والمخابرات في سوريا ،حيث بمعظمهم من أصحاب التعليم والذكاء المتوسط، مع الإفراط في الاعتداد بالقوة الجسدية وفائض العنف، حيث يتباهى أهم نجم همجي اليوم في مخابرات (أمن الدولة) المدعو(زهير حمد) الذي سبق أن اختطفنا رجال عصابته من الشارع… يتباهى بقوته الجسدية بأن يحمل الشاب الرهيف عقلا وإحساسا المحامي (مهند الحسني) داعية حقوق الإنسان، بساعده خارج النافذة ويهدده برميه منها…
فهؤلاء يرتقي عندهم الولاء لـ(المعلم) إلى درجة التقديس بالتصاعد ارتفاعا حتى المعلم الأول…ويجدر الإشارة في هذا السياق كمثال على نموذج (شخصية الوسط ) أن أحد قادة فروع الأمن السياسي الشهيرين في سوريا المدعو (عدنان بدر حسن) تحدث منبها ومحذرا لبعض المعارضين قائلا : (إن حافظ أسد خط أحمر…فهو إن لم يكن الله ذاته فهو دونه بإصبعين…).
إن قيادة مثل هذه النماذج(درجة وسطية الذكاء) لسوريا عبر خمسين سنة من خلال مثلهم الأعلى الأسد الطاغية الأب الوثن (رمز وسطية الذكاء هذه وفائض العنف الدموي)، هي التي أتاحت مناخا ثقافيا ونفسيا لا يجد الشباب (الطلائعي الثوري) بينهم حرجا أو عنتا في أن يرفعوا بعض الهتافات التي تؤله الطاغية بدو استشعار بالإثم الديني أو النفسي أو الاجتماعي: (يا ألله حلّك…حلّك…الأسد يقعد محلّك….).
هذه المحنة عبر عنها ذات مرة صديق دبلوماسي فرنسي أجاد العربية (السورية- الدمشقية ) وأحبها إلى درجة أنه يستشعر آلام هذا البلد الذي أحبه أكثر من الكثيرين من أبنائه (الوطنيين)….نقول : بلغ حبه لسوريا حدا فائقا من الحساسية في تلمس الوباء الأخلاقي الذي يخترم عظامها… هذه الحساسية الأخلاقية العالية نحو سوريا تضعه في صفوة الصفوة من المنخرطين في إنقاذها وطنيا وإنسانيا أكثر من كثيرين من الذين يبحثون عن نقاط مشتركة لوحدة القضية (الوطنية والقومية) مع نظام ليس له من قضية سوى التشبث الذليل بالبقاء، حتى ولو اضطر أن يساوم كل يوم على جزء من أرضه مقابل بقائه كمستأجر أو مستوطن لا فرق ، بدءا من الجولان وصولا إلى اسكندرون…
هذا الصديق تلمس الوباء بحسه الأخلاقي النبيل، بعد أن أقام علاقات واسعة ليس مع المعارضة فحسب، بل ومع أوساط واسعة من أطقم السلطة ذاتها فعرفها عن كثب…فقد كان يعبر عن دهشته من قدرة الطاقم السلطوي أن يمارس هذا النوع من (الازدواجية الجماعية)، في صيغة ما يمكن أن يسمى بـ(الكذب بمنتهى الصدق أو الدناءة والفساد بمنتهى الورع والتقوى النضالية)، حيث يتقدم هذا الطاقم المتشابه المتسلط من خلال النموذج المنغمس حتى القاع بحاجاته الحسية والرغبوية والغريزية الملتصقة بأديم الأرض وغبارها ووسخها، بمثابته كائنا أعلى في درجة التصاقه بالمثل الوطنية والقومية العليا…إذ استوطنه داء الكذب حد بلوغ درجة عالية من الورع والتبتل الكاذب ، حيث يتمظهر عن كائنية مصطنعة ومصنوعة لتؤدي دورا حياتيا يقدم من خلاله صورة المناضل الذي لا يعيش من أجل ذاته أبدا، بل من أجل القضايا الكبرى (الوحدة العربية –فلسطين – والمعركة الأبدية ضد إسرائيل والامبريالية…) هذه الخصائص من التقوى الكاذبة تحولت إلى نموذج نمطي يتخطى الفرد إلى مستوى (النمذجة) ليكون مثالا أو قل : (تمثالا) لـ(فضيلة نضالية جماعية) يلهج بها الجميع في صيغة (الكذب بمنتهى الصدق) “دون أن يرف له جفن وهو يحدق في عيني محدثه” على حد وصف صديقنا الفرنسي…
هذه الصيغة التي يمكن أن نتقصاها ايديولوجيا بالخطاب (القومي) الذي يؤسس لانتصارات البلاغة المغلفة للهزائم على الأرض، وهي كما هو معروف استمرار لا واعي لميراث (الميثوث) السحري (التعزيمي) حيث القول يستحضر الفعل ويحل محله، ولعل أهم نمذجة نمطية لذلك : هي توصيف هزيمة حزيران 1967 بأنها ليست هزيمة بل هي نكسة ، هذا من جهة…. ومن جهة ثانية : إنها ليست هزيمة لأنها لم تسقط الأنظمة التقدمية (الناصرية والبعثية )، هذه المصفوفة (الكذب بصدق وإخلاص) ستستمر قوتها التفسيرية البارعة بسيكولوجيا واستقلابيا وتعويضيا (لتقميط الهزائم بقماط الانتصارات ) حتى يومنا هذا متجددة بتجدد القوى الشعارية من صورة (المناضل) إلى صيغة (المجاهد) …وهذا أيضا ما يفسر لنا كل هذه (الانتصارات الإلهية ) في تدمير لبنان في تموز 2006…ومن ثم انتصارات (مذبحة غزة )على اعتبار أن إسرائيل عجزت عن (إسقاط القوى (الثورية) /الجهادية :حزب الله وحماس)، كما عجزت من قبل عن إسقاط القوى القومية واليسارية منذ هزيمة حزيران حتى هزيمتهم اليوم في بغداد…. حيث الأمريكان اليوم –وفق (الخطاب التقميطي)- يشدون الرحال مفرنقعين تحت ضربات المقاومة الباسلة لعزت الدوري ورفاقه الميامين الأشاوس الذي سلموا الأمريكيين العراق لاستدراجهم إلى حتوفهم ليذيقوهم كأس المنون….!!!
يتبع
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري- فرنسا
مفهوم القانون والقضاء في الخطاب الأمني (الأسدي) نبيل السوري مفهوم القانون والقضاء في الخطاب الأمني (الأسدي) إن كل المهتمين بالشأن السوري العرب و غيرهم، باستثناء وحيد وهو إسرائيل، لايفهم كنه وجوهر النظام السوري هذا أمر مضحك مبكي فهل يعقل ألا يفهم من يدّعون الخضرمة في السياسة والحنكة الدبلوماسية نظاماً واضحاً كهذا النظام؟؟؟ طبعاً “الشقيقة” إسرائيل فهمته كما نقول بالعامية حلّة نسب، أي بالظاهر والباطن، وهذا سبب دفاعها المستميت على بقائه أكثر حتى من نظام مبارك في مصر. وما وقوفها كالطود في وجه المحاولات الأميركية العبثية بإسقاط النظام، وإرسال رسالة شكر من أولمرت إلى ساركوزي على دعوته لرأس النظام بشار إلى… قراءة المزيد ..