عادة ما يسأل المفكرون السؤال التالي: هل يمكن للدين الإسلامي، وفق مدارسه التفسيرية الفقهية، المتعددة والمتباينة، أن يتوافق مع الديموقراطية؟ خاصة وأن الدين يعتبر من نتاج الماضي والحياة القديمة، بمعنى أنه ظهر قبل الحداثة وتغييراتها المادية والمفاهيمية أو العصر الجديد، في حين أن الديموقراطية حسب صورتها الحالية وتجربتها الراهنة وآلياتها، هي نتاج الحداثة.
لو تمعنا في نتاجات الحداثة (والديموقراطية كما قلنا تقع في إطارها) سوف نجد أنها تختلف مع النتاجات التي أسسها مفسرو الدين عن الإسلام عبر التاريخ. ففي حين أن من نتاجات الحداثة تأسيس إنسان “ناقد”، كان من نتاجات الدين الفقهي ومفسريه تهيئة إنسان غير ناقد، بل “منقاد ومطيع” للأوامر في جميع مناحي الحياة، خاصة وأن الإسلام يُطرح اليوم بوصفه دينا ودنيا. كما أن النقد لا يمكن أن يرتبط بسلوك المسلم المتديّن وفق ما هو متعارف عليه من نظرة فقهية تاريخية للإسلام، لأن ذلك لا يمكن أن يتماشى مع المبدأ الذي تأسس هذا المسلم وتربى في ظله وهو الطاعة والتسليم. في حين لا يمكن للإنسان الحديث أن يكون منقادا مستسلما مطيعا، لأن ذلك يتعارض مع الفطرة الحديثة ومع أطر الحياة الجديدة المستندة في أحد أسسها إلى النقد والسؤال وعدم التسليم إلا بعد الحصول على براهين عقلية. نتساءل: هل يستطيع النقد والسؤال أن ينفذا إلى جسم التاريخ الإسلامي؟ وهل باستطاعة أي باحث في التاريخ وفي الدين أن يواجه حياة رسول الإسلام والصحابة والأئمة بأسئلة ناقدة دون أن يثير ذلك غضب الإسلاميين وتكفيرهم له؟
كما أن من نتاجات الحداثة ولادة مفهوم “الاختيار” وتوسّعه، حتى أصبح أحد أسس الحياة الجديدة. في المقابل فإن الجبر أو اللااختيار كان ولا يزال أصلا من أصول الحياة الدينية وأساسا من أسس التديّن حسب التفسير الفقهي التاريخي التقليدي. فالمسلم مكلف وغير حر في اختياراته، وبالذات الدينية. في حين أن الاختيار يتعلق بجميع مناحي الحياة الحديثة، ومن جملتها الحياة الدينية والتجارب الإيمانية المعنوية. فالإنسان الحديث بات حرا في اختيار دينه، وأيضا في تغييره إذا اقتضت قناعاته الفكرية والإيمانية ذلك ولم يعجبه دينه القديم، وكذلك أصبح حرا في عدم انتمائه إلى أي دين، كما أن منظمات حقوق الإنسان التي تعتبر شريان الحداثة مستعدة للدفاع عن مطالبه تلك بكل ما تملك من قوة ونفوذ.
في المقابل لا يزال التفسير الديني الفقهي التاريخي يعتبر مفهوم الاختيار شرا من الشرور، خاصة في جانبه الديني، إذ لا يزال يعتبر تغيير الإنسان المسلم لدينه واختياره دينا آخر يوجب عليه أقسى العقوبات في الدنيا والآخرة. أما في الجانب غير الديني فإن تمسك التفسير بمفهوم اللااختيار ساهم في انتشار الاستبداد السياسي والاجتماعي والفكري وغيرها. فلا اختيار للمسلم أمام أوامر وأحكام وقرارات وتكاليف الولي أو المرشد أو الإمام الممثل للسلطة الإلهية، وكذلك أوامر ما يسمى بالمؤسسات التي تنبثق من تحت إبطيه، إذ لا يحق له الاعتراض عليها أو يرفض تنفيذها وإلا واجه عقوبات دنيوية وتهديد بعواقب أخروية.
“المنهج العلمي الحديث” لتفسير ظواهر الحياة وشرح حال الطبيعة هو أحد النتاجات المهمة الأخرى للحداثة. ويقف في الضد منه المنهج الديني الذي يرجع تفسير تلك الظواهر إلى العقل الديني المرتبط بالنص، أي عقل ما قبل الحديث المرتبط بالتفسير التاريخي للكتاب المقدس وبالرؤية الغيبية والقسمة الربانية والقدر الديني. فالتفسير الديني الفقهي التاريخي لايزال متشبثا برؤيته الغيبية في شرح ظواهر الطبيعة كالزلازل والعواصف والأمطار والكسوف والخسوف وغيرها. ولنا أن نتساءل هنا: كيف يحق لهذا المنهج القديم أن يفرض استنتاجاته التاريخية غير العلمية على واقعنا الجديد وعلى العقل البشري الحديث، بالرغم من الاستنتاجات المذهلة للعلم الحديث في جميع مجالات الحياة؟ إن ذلك يستدعي ثورة على النهج القديم وتصحيح العقليات الماضوية ومواجهة الفكر الفقهي التكليفي. فالمنهج الديني فشل في وضع حلول ناجعة لغالبية المشاكل، وأثر تأثيرا سلبيا في وصف ومعالجة العديد من ظواهر الحياة الطبيعية والاجتماعية، ما جعل أي مسعى في اتجاه اصلاحه وتغييره بمثابة تجاوز على قدر الباري وقسمته، وهو ما عطل ظهور العديد من التطورات والابتكارات العلمية التي كان لزاما اتخاذ قرار بشأنها في البرلمانات الديموقراطية. لذا كان لزاما أن نقول بأن الكثير من اكتشافات المنهج العلمي لا تزال غير مقبولة عند المدرسة الفقهية حتى يومنا هذا، لأنها ،حسب تفسيرهم، تتعارض مع الدين!. والنتيجة أن المنهج الديني الفقهي في تفسير أمور الحياة لا يمكن له أن يتوافق مع مفهوم الديموقراطية وآلياته وكذلك مع الحداثة.
على الصعيد السياسي لا يزال “رضى الخالق” لدى أنصار الإسلام الفقهي التاريخي مخلوطا ومعجونا مع “رضى الخلق”، وهو ما يعرقل صدور العديد من القرارات الديموقراطية البرلمانية باعتبار أنها تتعارض مع أحكام الدين. فقرار حقوق المرأة السياسية الصادر عن البرلمان الكويتي عام 2005 اعتبره الإسلاميون في الكويت يتماشى مع رضى الخلق، لكنه يتعارض مع رضى الخالق. وعلى هذا الأساس نجد أن بعض التشريعات البرلمانية الإصلاحية التي تحقق رضى الإنسان وتجلب له المساواة والكرامة، تُقبر بزعم أنها تتعارض مع الدين ومع أحكام الفقه التاريخي، في حين تصدر وتنتشر بعض التشريعات الفقهية رغم أنها تعارض هوى الإصلاح وتخالف مفهوم الحرية والمساواة، كقرار مجلس الأمة الكويتي في منع الإختلاط في الجامعات الحكومية والأهلية في مسعى لمنع الاختلاط في المدارس، ومن ثم في جميع قطاعات المجتمع وصولا إلى ما يسمى بـ”أسلمة” المجتمع.
إذن، لا يمكن للديموقراطية أن تتعايش مع تلك المفاهيم الفقهية التي يؤكد عليها مفسرو الدين الإسلامي ويرفضون أي تراجع عنها، في حين أن ما يقابلها من مفاهيم يعتبر أرضية رئيسية للممارسة الديموقراطية وللعيش في إطار الحياة الحديثة. فإما أن نختار من بين الاثنين، وإما تغيير الفهم الديني ليواكب تطورات الحياة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com