كل هذه الإنجازات لم تشفع لتشين بالفوز مجددا بعمادة العاصمة تايبيه في الانتخابات التالية في عام 1998 ، بسبب استفادة الكوميتنانغ من دروس انتخابات العام 1994 وتمكنه من حصد أصوات أنصار ” الحزب الجديد” لصالح مرشحه. تعليقا على هذه الواقعة، كتب ” تشين” في سيرته الذاتية أن هزيمته لم تتسبب في شعوره بالإحباط ،بل فتحت له بابا للتأمل ولاكتشاف الأخطاء و تجنبها مستقبلا. بهذه القناعة المتطلعة الى انجازات اكبر، راح “تشين” بعد خسارته يتجول في البلاد، مستكشفا آراء مواطنيه حول قضايا عديدة. كما قام بجولة خارجية إلى اليابان و كوريا الجنوبية ومنغوليا من اجل تبادل الأفكار مع قادة الرأي هناك حول الأمن الجماعي لمنطقة آسيا و دور تايوان فيه.
وإذا ما عدنا إلى الانتخابات الرئاسية لعام 2000 ، نجد أن “تشين” لم يستطع الفوز الا بنسبة 39 % من الأصوات بسبب وجود مرشحين آخرين من الوزن الثقيل، مما جعله فاقدا للتخويل الشعبي المطلق. و قد اخذ الرجل هذا بعين الاعتبار، فعمد إلى تسمية ” تانغ فاي”، الجنرال السابق المنحدر من البر الصيني ووزير الدفاع في عهد سلفه، كأول رئيس وزراء في عهده، و منح نصف الحقائب الوزارية فقط إلى رفاقه الحزبيين، مفضلا أن تشغل بقية الحقائب بشخصيات مستقلة أو منتمية إلى أحزاب أخرى. وكي يثبت أنه رئيس لكل التايوانيين، قدم استقالته من رئاسة الحزب الحاكم. إلى ذلك، حرص الرجل على تعديل خطابه السياسي حول مصير تايوان و علاقتها بالبر الصيني ليصبح اقل حدة وأكثر ابتعادا عما كان يروجه أثناء الانتخابات، مؤكدا بذلك نزعته البرغماتية و ميله إلى التوافقية. ففي خطاب تنصيبه، تعهد بعدم إعلان استقلال تايوان أو تغيير دستورها طالما ظلت بكين ممتنعة عن استعمال القوة ضد بلاده.
و كنتيجة لهذه الخطوات و غيرها، ارتفع رصيد الرجل في الشارع واستطاع أن يحوز على تأييد نحو 70 % من مواطنيه في الأشهر الأولى من رئاسته. غير أن نسبة التأييد و الرضا هذه راحت تنحدر تدريجيا حتى وصلت في نهاية العام الأول إلى 25 %. في الأسباب يمكن تحميل تحالف المعارضة ممثلا في ” ائتلاف عموم الزرق” بعض المسئولية لأنه ظل يستخدم أغلبيته البرلمانية في إعاقة سياسات “تشين”، الأمر الذي ولد لدى رجل الشارع شعورا بضعف مواهب الرجل القيادية. ثم جاء موقفه المتخبط ما بين الرفض و الموافقة على مسألة بناء المفاعل النووي السلمي الرابع في البلاد لتلقي بظلال أكثر قتامة على صورته و هيبته، كونها تسببت في زيادة رقعة الشقاق بينه و بين البرلمان، ناهيك عن تسببها في خلافات داخل الحكومة و خلافات أخرى في الشارع، بدليل تهديد رئيس الوزراء “تانغ فاي” علنا بالاستقالة في حالة إلغاء مشروع المفاعل الذي كان من مشاريع الحكومة السابقة ويلقى تأييدا من رجال الأعمال المؤيدين لحزب الكومينتانغ، و هو ما نفذه تانغ بعد أربع اشهر و نصف من تنصيبه، ثم بدليل تظاهرات أنصار البيئة ضد المشروع.
إصلاحا لهذا الخلل، بادر “تشين” في عام 2001 إلى القيام بزيارة إلى نيويورك ولوس انجيلوس حيث التقى فيهما برموز الكونغرس الأمريكي، الأمر الذي لئن استحسنه الكثيرون من التايوانيين باعتباره تحديا لسياسات بكين في فرض عزلة دبلوماسية على بلادهم، فانه أثار قادة بكين و دفعهم إلى إطلاق التهديدات ضد تايبيه، مذكرين الأمريكيين بوجود تفاهم سابق حول عدم السماح لقادة تايوان بزيارة نيويورك أو واشنطون.
وربما من اجل الهدف ذاته، تراجع الرجل ابتداء من منتصف 2002 عن بعض المبادرات التي كان قد أطلقها تجاه أنصار الكومينتانغ تحت شعار المصالحة الوطنية، بدليل أن فترته الرئاسية الأولى شهدت اختفاء صور الزعيم “تشيانغ كاي شيك” وخليفته ” تشيانغ تشينغ كو” من المباني الحكومية، والاستعاضة بكلمة “تايوان” عن عبارة “جمهورية الصين الوطنية” التي ظلت تستخدم منذ عام 1949 كاسم رسمي للبلاد، و تنقيح المناهج المدرسية من كل ما يشير إلى تمثيل حكومة تايوان لكامل التراب الصيني، و تضمين المواقع الالكترونية الرسمية ما يفيد بان تايوان والصين شيئان مختلفان.
وهنا أيضا، بقدر ما دغدغت هذه الإجراءات عواطف التايوانيين، فإنها تسببت في إثارة بكين، لا سيما بعد إقدام تايبيه في يناير 2003 على تأسيس مؤسسة جديدة معنية بالتعاون ما بين شعبي تايوان و التيبت. و على خلفية هذا التطور، دعا “تشين” زعماء الصين إلى إجراء محادثات رسمية لحل جميع الإشكالات، إلا أن بكين اشترطت لعقد مثل هذه المحادثات أن تلتزم تايبيه مسبقا بمبدأ وجود صين واحدة، وهو ما رفضه “تشين” وغالبية رفاقه. و في هذا السياق أوضح “تشين” مرارا أن المشكلة ليست في المبدأ الذي ترفعه بكين، و إنما في رفض أغلبية التايوانيين لفكرة أن تتحول بلادهم إلى “هونغ كونغ” أخرى، أي إلى منطقة إدارية خاصة تابعة للصين، و أن تستبدل حكومتهم المنتخبة ديمقراطيا بحكومة تعينها بكين.
و يمكن القول أنه بسبب مصاعبه الداخلية الناجمة عن الشكوك التي أحاطت بفوزه بالرئاسة مجددا، و التهديدات التي أطلقتها بكين ضده، و تحميله مسئولية أية سياسات أو خطوات انفصالية، عاد “تشين” في عهده الثاني إلى خطاب التهدئة وإطلاق المبادرات التصالحية. من ذلك انه تراجع عن فكرة وضع دستور جديد يستفتى الشعب حوله، لصالح فكرة تنقيح و إصلاح الدستور القائم.
ومن الأمور المثيرة للجدل التي أقدم عليها “تشين” في فترة رئاسته الثانية محاولاته الحثيثة في عام 2004 لإحداث نوع من توازن القوة مع الصين في المنطقة، و ذلك بمحاولة تمرير قرار يسمح للحكومة بإنفاق 18 بليون دولار على شراء أسلحة أمريكية، وهو ما وقفت المعارضة ضده بدعوى أن تلك الأموال الضخمة يفضل إنفاقها على مجالات أخرى غير الأمن الخارجي الذي تتكفل به واشنطون. و كرد منه على المعارضة، أعلن الرئيس في ديسمبر 2004 أن كل المؤسسات العامة ستجرد من اسم “الصين” لصالح اسم “تايوان” بما في ذلك الناقلة الجوية الوطنية و مؤسسة الصلب والحديد العملاقة. غير انه في هذه الفترة تلقى صفعة ثانية تجسدت في نتائج الانتخابات التشريعية في 14 ديسمبر 2004 ،و التي كان يأمل أن يفوز فيها أنصاره من “ائتلاف عموم الخضر” بالأغلبية ليتاح له الحكم من دون عراقيل برلمانية، فإذا بالائتلاف يحقق نتائج هزيلة خلافا لكل التوقعات، الأمر الذي أحبطه كثيرا.
هنا أيضا لجأ “تشين” إلى مداواة جرحه الداخلي بالتطلع إلى تحقيق انتصارات دبلوماسية خارجية. فطار في عام 2005 إلى أوروبا، ليكون بذلك أول زعيم تايواني يزور القارة العجوز. و كانت الحجة هي المشاركة في جنازة البابا يوحنا بول الثاني، والتي ما كانت لتتم لولا تفاهمات مسبقة مع الحكومة الإيطالية التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تابيه، و بالتالي لا يمكنها استقبال زعماء تايوان على أراضيها حتى وإن كان الهدف هو المرور عبرها إلى الفاتيكان. ثم سافر لاحقا إلى دول الكاريبي لحضور ندوة إقليمية مع التوقف في ميامي الأمريكية، و العودة عن طريق ابوظبي وجاكرتا حيث حظي في الأخيرتين باستقبال رسمي من قادة الإمارات واندونيسيا، رغم اعتراضات بكين وانزعاجها. و في مايو 2006 قام بزيارة إلى أمريكا اللاتينية لحضور حفل تنصيب الرئيس الكوستاريكي “اوسكار أرياس”، وهي الزيارة التي أثير حولها لغط كبير بسبب رفض الأمريكيين تحقيق رغبته بالتوقف في نيويورك أو سان فرانسيسكو، و اقتراحهم ألاسكا كبديل، وهو ما رفضه “تشين”. وقد فسر المراقبون وقتها ذلك الموقف الأمريكي بأنه رسالة تعبر عن ضيق واستياء واشنطون من سياسات الرجل التصعيدية فيما يتعلق باستقلال تايوان والعلاقة مع الصين.
و كأنما كل هذه المصاعب لم تكف الرجل، فإذا به يقف للمرة الأولى في حياته في مواجهة فضائح تمس سمعته و نزاهته اللتين لطالما استخدمهما كورقة انتخابية رابحة، و إذا بهذه الفضائح تنزل شعبيته إلى الحضيض، ليس في أوساط الشارع فحسب وإنما أيضا في أوساط رفاقه الحزبيين الذين سارع بعضهم إلى المطالبة بفصله خوفا من أن تؤثر تلك الفضائح على موقع الحزب في الاستحقاقات النيابية والرئاسية التالية.
ففي مايو 2006 اعتقلت الشرطة زوج ابنته بتهمة الاحتيال المالي، الأمر الذي قاد إلى تحقيقات أدت بدورها إلى اتهام السيدة الأولى “وو شو تشين” بارتكاب مخالفات مالية و قبول هدايا بصفة غير مشروعة. وفي يوليو من العام نفسه اتهمت المعارضة الرئيس بالتزوير في الفواتير التي قدمها كمصاريف لحملاته الانتخابية من اجل إخفاء ما لا يقل عن 300 ألف دولار، و هو ما دعا السلطة القضائية إلى فتح تحقيق في الموضوع، رغم تأكيدات “تشين” بسلامة ذمته، ووصف ما حدث بالاتهامات الكيدية من قبل المعارضة. لكن الأخطر من كل هذا حدث في نوفمبر 2006، حينما اتهم القضاء زوجته و ثلاثة من كبار موظفي مكتبه بالفساد و سرقة ما مجموعه 450 ألف دولار أمريكي من أموال الدولة عن طريق تزوير المستندات المالية الخاصة بالإنفاق على الشئون الخارجية السرية، مع اعتبار الرئيس شريكا لهم في المسئولية، لكن دون تقديمه للقضاء بسبب حصانته الدستوري و التي تؤجل محاكمته إلى ما بعد خروجه من السلطة.
لم يكن “تشين” ليرضى بأن تكون زوجته أول سيدة أولى في تاريخ البلاد توجه إليها تهم الفساد، كما لم يكن مستعدا لدخول التاريخ كأول زعيم تايواني يجبر على ترك منصبه – مثلما طلبت منه المعارضة تحت التهديد برفع الأمر إلى البرلمان من اجل اتخاذ قرار بطرح موضوع عزله في استفتاء شعبي. فكبرياؤه وثقته بنفسه، ألحتا عليه خوض معركة سياسية/قانونية ربما كانت الأشرس في حياته، واستحضار كل ما درسه وتعلمه في الماضي في أروقة كليات الحقوق و دهاليز المحاكم.
ووسط جو مشحون بتهديدات المعارضة تلك و بحملات وسائل الإعلام الداعية إلى استقالته حفاظا على هيبة الرئاسة، توجه “تشين” بخطاب متلفز إلى الأمة في يونيو 2006 خصصه للرد على الاتهامات الموجهة له ولزوجته. في هذا المؤتمر استخدم الرئيس كل ما أوتي من بلاغة ليثبت انه لم يرتكب طيلة السنوات الست التي قضاها كرئيس أي جرم يمكن أن يدينه. بل أضاف انه فؤجي عندما تبوأ كرسي الرئاسة أن مخصصات الرئيس اكبر بكثير مما اعتقده، فسارع إلى التخلي عن نصفها، متسائلا كيف يمكن لشخص أن يتنازل طواعية عن مبلغ ضخم من مخصصاته ثم يتورط في اختلاس شيء اقل من ذلك بكثير، و معربا في الوقت نفسه عن استعداده للاستقالة والاعتزال إذا ما ثبت بالدليل و من خلال محاكمة عادلة انه و زوجته مذنبان.
*محاضر أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
(1) إنتخابات تايوان: الشعب يُفوِّز الحزب الديكتاتوري ويسقط الاصلاحيين