واضح أن التساؤل الجوهري ليس هل يصمد اتفاق قطر بين الفرقاء اللبنانيين أم لا، وإن كان ما حدث من حماس في غزة، بعد سويعات من اتفاق مكة مع السلطة الفلسطينية، يعطي لهذا التساؤل مبرراً وأهمية على المدى القصير، فاتفاق قطر لم يعالج إشكالية، ولم يؤسس لقاعدة يمكن للبنان الانطلاق منها إلى المستقبل، إذ يقتصر الإنجاز الذي تحقق على إطفاء النيران المشتعلة في بيروت، وهذا بالطبع إنجاز عظيم لمطلب ملح لا يحتمل التأجيل، ويستحق ما قد تم فيه من تنازلات قد تكون على حساب شكل المستقبل اللبناني، وأبسط تلك التنازلات سابقة فرض الإرادة السياسية بقوة السلاح والقتل والتدمير.
أرجأ الفرقاء اللبنانيون إذن فتح أجنداتهم الخاصة بأجزائها العلنية والخفية، معتمدين على عنصر الزمن، على أمل أن يأتي لهم بما تشتهي سفن كل منهم ، فمما يصدر عن الطرفين المتناقضين في لبنان، جماعة حزب الله وملحقاتها من جهة، والأكثرية النيابية تحالف 14 آذار من جهة أخرى، فيما يتعلق بسقف مطالب كل منهما من الآخر، والتي لابد يتوقع كل طرف أن تأتي نتائج أي حوار بينهما أدنى منها، هذا إن كان ما تتمخض عنه لقاءات الطرفين يصح تسميتها بالنتائج، واضح أن الكل يحتفظ في جيبه أو في قلبه بالجزء الأكبر من أجندته . . فعندما يكون سقف مطالب حزب الله مثلاً هو تشكيل حكومة وحدة وطنية، تتمتع الأقلية فيها بالثلث المعطل، وبقانون انتخابات جديد.. ويكون سقف مطالب الأكثرية انتخاب رئيس الجمهورية، والحوار بعد ذلك على تكوين حكومة وحدة وطنية، يعلق فيها الثلث المعطل بيد رئيس الجمهورية وفقاً للمبادرة العربية، علاوة على ما استجد من طلب الأكثرية بحث علاقة حزب الله بالدولة اللبنانية.. ثم نجد أن الخلاف يستعر حول تلك النقاط الهامشية أو القشور، فتنعقد الاجتماعات المطولة وغير المطولة وتنفض، دون التوصل إلى أي قرار جدي وعملي، لابد لنا من أن نترك ما يقال ويعلن من كلا الطرفين، وأن لا نلقي بالاً إلى ما يجري الاختلاف والحوار حوله، لنتحسس الجزء المغمور من جبل الجليد لدى كليهما.
المشكلة والتناقض الحقيقي تحت السطح، وليس أبداً فوقه، أو في بضع الكروت التي أخرجها كل منهما ليقتل بها الوقت والملل على موائد الحوار المزعوم، فما تريده الأكثرية حقيقة أن يحكم لبنان دولة واحدة ديموقراطية، قوية تنظيمياً وعسكرياً، لا دولة ضعيفة هشة، بجانبها أو بداخلها دولة غير شرعية ذات أيديولوجية إرهابية، وتمتلك من القدرة العسكرية ما لا قبل للجيش اللبناني الشرعي به، وتتلقى من الخارج تمويلاً مالياً وعسكرياً، بالإضافة للتوجيهات السياسية والأيديولوجية.. باختصار تريد تصفية سلاح حزب الله وفقاً لقرارات مجلس الأمن، ليتحول الحزب بعد ذلك إلى حزب يمارس السياسة الخالصة، دون هيمنة أو إرهاب عسكري، شأنه شأن باقي الأحزاب والقوى اللبنانية.
في المقابل فإن سقف مطالب حزب الله ليس مجرد الثلث المعطل في مجلس الوزراء، فهو يريد الشاة كاملة بين فكيه.. يريد تحويل لبنان إلى دولة دينية شيعية على الطراز الخوميني الطالباني، لينطلق منها للسيطرة على كافة دول ما يسمى بالعالم العربي، وإلى هنا نكون مازلنا دون طموحات صاحب الانتصارات الإلهية، فهو لابد بعد ذلك سيزيل إسرائيل من الوجود، ليتفرغ بعدها لمهمته الأساسية، وهي السيطرة على أمريكا والغرب الأوروبي، أو على الأقل تدميرهما، وربما إذا امتد به الأجل يعلن السيد حسن نصر الله بعد ذلك نفسه مهدياً منتظراً، وليس ما نقول من قبل الافتراء أو التخويف أو التحريض الباطل، فلا أحسبني قد أتيت فيما ذكرت بجديد لم تقله وتصرح به عناصر تلك العصبة متعددة الأجنحة بطريقة أو بأخرى، وفي هذه المناسبة أو تلك، ولم نقم بأكثر من تجميع الحروف مع نقاطها داخل إطار محدد، وهذا ما يعرفه ويعيه جيداً الجلوس حول ما يسمى بموائد الحوار، فكل منهم لا ينصت لما يتفوه به محدثه، لأنه مشغول عما يقال بما لم يقل، لكنه يطل من الأعين ويتوارى وإن عبثاً خلف الكلمات، وإذا كان ذلك كذلك، فما هي اللعبة التي يلعبها هؤلاء جميعاً، إن لم تكن الاعتماد على ورقة الزمن . . كل يريد توظيفها لصالحه، فمع من يا ترى سيكون الزمن حقيقة؟
يلعب الزمن مع حزب الله دوراً إيجابياً من وجوه عدة، فمع الوقت يزداد تسليحه، كما يزداد رجاله عدداً ومهارة قتالية، ويزداد تغلغله في المجتمع والمؤسسات اللبنانية، هذا من ناحية الداخل، أما في جانب دور الحزب الإقليمي، الذي يلعبه لحساب إيران بالدرجة الأولى، وسوريا بالدرجة الثانية، فالزمن يعني له الاستمرارية والنجاح في إعاقة أي حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي، ووضع أمريكا والغرب تحت ضغط اضطرابات المنطقة، تخفيفاً للضغط على المشروع النووي الإيراني، بالتوازي مع يحاوله رفيقه مقتدى الصدر في العراق، علاوة بالطبع على ما تضطلع به منظمة حماس وأخواتها في فلسطين، ذلك على الأقل إلى حين تمكن إيران من وضع العالم وجهاً لوجه أمام حقيقة امتلاكها للقنبلة الذرية.
في الناحية الأخرى تدرك جماعة 14 آذار تأثير الزمن باتجاه زيادة نفوذ وقوة بل وتوحش حزب الله، لكنهم كما لو يعتمدون على مقولة “ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت”، فهم يمدون حبال الزمن والصبر لحسن نصر الله، واثقين بأنه سيشنق بها نفسه، وذات التكتيك مفيد أيضاً لفضح تكتيك التقية الذي يتبعه نصر الله، حين يدعي أن سلاحه هو لمقاومة إسرائيل، مستغلاً تابو العداء العربي الإسرائيلي الأبدي، والحلم العربي بإزالتها من الوجود، وليس لنا أن نقول أن لا أحد يصدق أن حزب الله وسلاحه مكرسون من أجل مسمار جحا أو مزارع شبعا، ولا أن يصدق أنه يدافع عن لبنان، بدليل أنه اعتبر نفسه حاز نصراً إلهياً على إسرائيل، رغم ألف قتيل ودمار واسع لحق بلبنان، وبالأولى مستحيل الظن بأنه قادر على تحقيق الحلم العربي بإلقاء إسرائيل في البحر، وذبح اليهود كالنعاج، لا نستطيع أن نقول لا أحد ينخدع بأكاذيبه أو تقيته، مادامت الدهماء بطول عالمنا العربي وعرضه تصدقه، والدهماء في عصرنا السعيد هذا هم وقود النيران التي يشعلها مروجو الكراهية والمتعيشون على إشعال العداوات الأبدية.
تنتظر جماعة 14 آذار إذن مع الوقت أن يفضح حزب الله نفسه بنفسه، وأن يبلغ السيل الزبى بتماديه في طغيانه وتوحشه، سواء في نظر اللبنانيين أو الغرب والعالم الحر، وليس عبثاً ما ذهب إليه البعض من أن الأحداث الأخيرة لم تكن أكثر من فخ نصب لصاحب النصر الإلهي وعصابته، والأمر فعلاً كذلك سواء كان فعلاً مبيتاً، أم كان التطور الطبيعي للأمور، نتيجة تضخم قوة غاشمة، فلابد أن تسعى من تلقاء نفسها لتصطدم بالصخور.
ربما يبدو من استعراضنا أن التساؤل عن دور الزمن قد صار أكثر تعقيداً، مادام للزمن تأثيره السلبي والإيجابي على الطرفين، لكن إذا كنا ممن يعتقدون أن الأمور في لبنان والمنطقة لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، وأن العصر والعالم لا يحتمل تمدد ما تمثله إيران في العالم وفي المنطقة أكثر مما احتمل، وأن الحل –الصعب في جميع التوقعات- قادم لا محالة اليوم أو غداً، فإن طبيعة هذا الحل هي التي ستحدد تأثير الزمن، فلو كان الحل القادم عبارة عن تصفية حزب الله موضعياً داخل لبنان، سواء عن طريق إسرائيل أو تحالف دولي، وترافق معه تصفية وضع حماس داخل غزة، يكون بإمكاننا القول أن الزمن يلعب لصالح قوى الإرهاب في المنطقة، لأنه يمكنها أكثر وأكثر من التغلغل في القاعد، وبالتالي يجعل اقتلاعها أكثر صعوبة ودموية.
أما إذا كان الحل سيأتي من الخارج بضربة قاصمة لإيران، لا تقوم بعدها لنظام الملالي قائمة، مع توجيه ضربة كسر ركبة لنظام البعث السوري الأسدي، لكي تنتهي وتسقط تلقائياً قصة حزب الله وحماس، دون عناء الاشتباك معهما من بيت إلى بيت، ومن غرفة نوم إلى أخرى، في هذه الحالة يكون الزمن في صالح قوى الحرية والاستقرار، لأن كل يوم يمر يفضح أكثر فأكثر ليس نوايا وإنما ممارسات قوى العنف والظلامية، حتى تصل إلى أن تعري نفسها بنفسها . . هنا يكون ما أقدم عليه حزب الله أخيراً هو الخطوة الأولى على هذا الطريق.
kghobrial@yahoo.com
* كاتب مصري- الإسكندرية
إيلاف