تكلمنا في مقالة الأسبوع الماضي عمّا يفسّر نجاح بعض “القصص” في العوم، وخروج البعض من “الخدمة” طالما أن قطع الغيار لم تتوفر بعد. وأشرنا إلى إمكانية فهم هذا الأمر على خلفية العلاقة بين قطع الغيار والسوق. وأوردنا نموذجين تفسيريين: “تحقيق ميرسو” للجزائري كمال داود، و”البنت في بيت العنكبوت” للسويدي ديفيد لاغركرانتس.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنموذج الثاني، الذي تبدو فيه العلاقة المعنية أوضح، فلنقل إن عودة ميكيل بلومكفست، وليزبث سلاندر، إلى الحياة، بعد الرحيل المفاجئ للشخص الذي ابتكرهما، محكومة، في المقام الأوّل، بمنطق العرض والطلب. وهذا ما سيتجلى بعد قليل.
في العام 2004، وقبيل وفاته، قبل الأوان، في الخمسين من العمر، قدّم سويدي يدعى ستيغ لارسن ثلاث روايات لناشر في ستوكهولم. نُشرت الأولى في العام التالي، والثانية والثالثة في عامين لاحقين.
اشتغل لارسن في الصحافة لتدبير لقمة العيش، ونشط في حلقات ماركسية (ماوية وتروتسكية) في سبعينيات القرن الماضي، وكان شغوفاً بروايات الخيال العلمي، إضافة إلى التزامه الأيديولوجي والسياسي، الذي وضعه في مجابهة مباشرة مع اليمين، والاحتكارات المالية والصناعية، علاوة على دفاعه عن حقوق النساء، والمهاجرين، والتضامن مع حركات التحرر القومي في “العالم الثالث”. وهذه الأشياء سلبته الإحساس بالأمن والأمان إلى حد أن عنوان شقته، ورقم هاتفه، كانا محجوبين.
لذلك، من المنطقي توقّع أن يشكّل ما سبق “مادة” لرواياته، التي لم تكن من جنس الخيال العلمي، بل شاء لها أن تكون حفريات أركيولوجية في البنية الاجتماعية، والثقافية، والسياسية للاحتكارات المالية والصناعية، والفساد في الجهاز الأمني والسياسي للدولة السويدية. وهذا ما وضعها في قائمة الروايات “البوليسية” (ثمة تسميات وأجناس مختلفة في الآداب الأوروبية، لكن العربية لا تعرف سوى “البوليسية”، وهذا ما يفي، الآن، بالغرض).
وطالما أن في الأمر “حفريات”، وجرائم ينبغي البحث فيها، وعن فاعليها، كان لا بد من وجود حفّارين ومحققين. وفي هذا السياق استنبط لارسن شخصيتين هما ميكيل بلومكفست، وليزبث سلاندر. الأوّل يمتهن الصحافة ويجمعه بلارسن نفسه أكثر من وجه للشبه، بينما تمثل الثانية نموذجاً للهامشية المتمرّدة، الفاقدة لكل مهارات التواصل الاجتماعي، والضحية المثالية لأخلاق ونفاق الطبقة الوسطى، ومع ذلك المُنحازة، دائماً، إلى الحرية، والحق، والعدالة، حتى وأن تصرّفت بطريقة تنتهك التسويات الأخلاقية المقبولة والمُتداولة.
جمّع لارسن العناصر اللازمة لإنشاء شخصية بلومكفست من تجاربه وخبرته في عالم النشر، والجماعات الراديكالية، وتبدو سلاندر توليفاً، وإعادة إنتاج، لشخصيات شائعة في قصص الخيال العلمي، والمغامرات، المكتوبة للفتيان من الجنسين، التي تحظى، عادة، بجمهور واسع في عالم البالغين، وإن كان يخشي الإفصاح عن نفسه.
والمهم في الأمر أن ما تقدّم لا يمثل سبباً كافياً لنجاح الاثنين، فالنجاح مشروط “بالقضية”، المشكلة الوجودية، أو الأخلاقية (السياسية)، وبالسياق والأدوات. ففي مطلع كل شمس تُنشر، يومياً، في لغات ومناطق مختلفة عشرات “القصص” الجديدة، التي لا تشكو غياب “القضية”، أو غياب السياق والأدوات، ولكنها لا تحتل مكان الصدارة نتيجة فشلها في فهم منطق السوق، والعلاقة بين العرض والطلب.
وهذا الجانب، بالذات، يحتاج إلى تفسير، ولعل فيه ما يفسّر نجاح لارسن، أيضاً. فحكاية البحث عن العدالة، والحقيقة، عن طريق الرأي العام، تنتمي إلى فكرة رومانسية تتصوّرها الصحافة عن نفسها، باعتبارها سلطة رابعة، في يوتوبيا ديمقراطية، وإلى فكرة لا تقل عنها رومانسية يتصوّرها المثقف عن نفسه باعتباره ضمير الجماعة، وحارساً لقيم العدالة، والحقيقة. ولنتذكّر أن ولادة المثقف بالمعنى الحديث للكلمة اقترنت بالصحافة، ومحاكمة درايفوس، ومقالة إميل زولا ذائعة الصيت “إني أتهم”.
ومع ذلك، لا يكفي أن تقول: “أنا أحرس” لتصبح حارساً. فلا الرأي العام يستحق أن يُرفع إلى مرتبة المُطلق، ولا اليوتوبيا ممكنة أو واقعية تماماً، وحتى فكرة الحراسة نفسها، والضمير، تبدو فائضة عن الحاجة، ومثيرة للسخرية.
تتردد في كل ما ذكرنا، للتو، أصداء فكرة البطل الضد، باعتبارها قطعة الغيار الضرورية، التي تمثل، في جانب منها، خلفية عامة “للقضية” في النصف الثاني من القرن العشرين. فبعد حربين عالميتين، وحرب باردة، وحروب الوكالة في “العالم الثالث”، وبعد انهيار اليوتوبيا السوفياتية، والحلم الأميركي، وأفول الإمبراطوريات القديمة، لم تعد عقلانية شرلوك هولمز، والدكتور واطسن، قابلة للعيش، فكلاهما نتاج أخلاق وذائقة وحساسية الزمن الفيكتوري، والإمبراطورية في ذروة صعودها.
وحتى المفتش هركول بوارو، الشخصية الرئيسة في الكثير من روايات أغاثا كريستي، المولود بين الحربين الأولى والثانية، أصبح سمجاً، ثقيل الظل، ولا يطاق، كما كتبت كريستي نفسها في أواخر حياتها، وكان يجب أن يموت، على الرغم من شهرته الفائقة، ومكانته الأيقونية، على مدار عقود. ومما له دلالة في هذا الشأن أنه الشخصية الروائية، الوحيدة في العالم، التي ظهر نعيها بصفة رسمية في النيويورك تايمز (في العام 1975) بعد نشر الرواية التي وضعت حداً لحياته. المقصود من هذا، كله، أن البطل الضد اصبح ضرورة فرضتها ذائقة وتحوّلات الزمن. وهذا يفسّر الخلفية العامة “للقضية”، ويُمهّد للكلام عنها، ومنها إلى السياق والأدوات في معالجات لاحقة.
وهنا، ثمة ما يستحق التوضيح، فقبل أسبوع تصوّرتُ أن الإجابة عن: “لماذا وكيف تعوم القصص” تستدعي نوعاً من التمهيد، وطرح مقارنات ونماذج تفسيرية، ويبدو أن التصوّر كان متفائلاً أكثر مما يجب، فالإجابة تستدعي أكثر من هذا بكثير.
لعلها إجازة من السياسة اليومية (ربما كانت سياسة من نوع آخر)، ولعل فيها، ومنها، ما ينسجم مع المزاج الشخصي، للبقاء مع البنت في بيت العنكبوت، هذه الأيام..
khaderhas1@hotmail.com