تحول دون تفكير السوريين ببلدهم كموضوع خاص، إيجابي، ومستقل ذاتيا للمعرفة، عوائق متعددة تتوحد في أنها تترك سورية بلدا غير مقروء من نخبه، ومجتمعا «بورا»، غير مدروس وغير متمثل لنفسه. هذا وضع شاذ، قد لا يكون له نظير في العالم كله.
أول العوائق هو التسييس البالغ للثقافة والمعرفة في البلاد. في سورية كل شيء سياسي. والسياسة تهتم بالظرفي، أو بالزمنية القصيرة؛ وصفتها الصراعية والاستقطابية بارزة في منطقتنا وفي كل مكان. والأمران كلاهما متعارضان مع ما يقتضيه شاغل المعرفة من تجرد ومن نظرة تاريخية، وبالخصوص من استقلال المعرفة، منهجيا ومؤسسيا. ففرط التسييس يقترن من جهة بنقص المأسسة، ما يتمثل في عدم توفر البلاد على مراكز مستقلة للمعرفة العلمية؛ ومن جهة أخرى بأدلجة محمومة لكل شأن عام، تحبط أي مسعى علمي أو تضعف مردوده إلى أقصى حد. وينبع التسييس ذاته من تكوين البلد الفتي نسبيا، المفتقر إلى تقاليد ومؤسسات سياسية، كما من قلقيه الجيوسياسي (احتلال بعض أرضها واضطراب بيئتها الإقليمية…) والاجتماعي (التركيب التعددي للمجتمع السوري…).
لكن مفعول التسييس المضاد لاستقلال المعرفة يتعزز بالبنيان التسلطي للنظام السياسي السوري. ستبدو هنا كل معرفة مشبوهة سياسيا و»غير بناءة». ذلك أن المعرفة تفترض أصلا نزع القداسة عن المدروس (وبالطبع نزع الأبلسة عنه أيضا). وهي نقدية جوهريا ومستقلة جوهريا. وتستبطن جوهريا أيضا روح تهكم وسخرية (أصلها لا تطابق كل ما هو إنساني مع ذاته). ينبغي أن يمكن الكلام على الحاكمين والحزب الحاكم والإيديولوجية الرسمية… إما بمنطق نقدي متهكم، أو بمنطق وضعاني دونما تورط وجداني إيجابي أو سلبي. هذا غير متاح، لا فكريا ولا مؤسسيا ولا سياسيا. وإنما لذلك لم تتطور لغة كتابة وتفكير منضبطة وهادئة في سورية. لغاتنا إما محمومة وهائجة، أو محبطة ومنسحبة. هي في كل حال لغات الهوى والانفعال، وليس النقد والتهكم والتحليل والتأمل المثقف.
إن المعارضين الذين يفترض أن تعريفهم يتركز حول الاهتمام بالشأن السياسي السوري يقصرون هذا الاهتمام على مسألة السلطة بصورة أساسية. هذا نابع من بنية الوضع السياسي السوري، لكنه أيضا خطأ في التوجه، محصلته أننا قلما نتوفر على تحليلات ذات قيمة لبنية النظام نفسه وآليات عمله. قد يقال إنه لا ينتظر أصلا من السياسيين أن ينتجوا معرفة. بالتأكيد، لكن السياسة اجتذبت في الغالب أنبه الأذهان، ولطالما أسرتْها في تقابلات المواقف وفي صراعات عقيمة، لا يسيطر أي من المتصارعين على أسبابها وعملياتها ومآلاتها.
أما النظام ذاته فيطابق نفسه مع سورية دونما باق. وهو غير محتاج إلى المعرفة من أجل هذا التطابق الذي هو مصادرة نابعة من هويته أو تعريفه لذاته، سابقة كل معرفة وكل سياسة. هذه المطابقة بين النظام والوطن تعريف للاستبداد في كل مكان.
وفضلا عن التسييس أو السياسوية السورية العريقة، وعن البنيان التسلطي للنظام، ثمة عائق إيديولوجي معروف: العروبة في صيغتها السياسية، أي القومية العربية. من منظار العقيدة القومية لا تبدو سورية، أو أي بلد عربي آخر، جديرة بالمعرفة. إنها واقع عابر، مصطنع، هش، مرفوض، غير شرعي، لا يمكن ولا يجوز التماهي به، الأمر الذي يخفض من قيمة أية معرفة ممكنة لها ويجعلها غير مستحقة للجهد. وكيان هذه صفته يفتقر إلى العمق التاريخي، إلى الروح المتميزة، إلى الكثافة الثقافية والنفسية، كيف لنا أن نفكر فيه وندرسه؟ ولما كانت الذات الوحيدة المعترف بها لنا هي الذات العربية، فإن واقعا اسمه سورية، لا يمكن أن يكون موضوعا تنكبُّ عليه الذات هذه بغرض المعرفة أو العمل أو الهوية. وإذا كنا مع ذلك نعرف سورية بصورة ما ونعمل لها وعليها ونتماهى بها بدرجة ما، فلن تكون معرفتنا وعملنا وولاؤنا إلا من جنس واقعها: أشياء هشة، غير مقصودة لذاتها، متصنّعة ومصطنعة، نقوم بها «بلا نفس».
تدرك العقيدة القومية أن معرفة بلداننا غير ممكنة دون الاعتراف بها، وأنها تتضمن الإقرار بشرعيتها وتتوافق مع تقوية شخصيتها واستقلالها الذاتي. لعلها لذلك لا تبدي اهتماما يذكر بمعرفة ما هو ليس في النهاية إلا «أقطارا». لكن عبر فصلها بين الواقع الفعلي («القطري») وبين المعرفة تركت العقيدة القومية الواقع أعمى، مَراحا مُباحا لنوازع غير مشذّبة (الاستبداد في السياسة، والفساد في إدارة الموارد الوطنية، والانقسام في المجتمع المحلي، والتنازع في المجال العربي)، والمعرفة كلاما مبذولا بلا أي رصيد واقعي، بلاغة لا تعوض عن افتقارها إلى المعنى وعطلها عن الفاعلية بغير إثارة الانفعال والهياج، وتغذية روح العراك والشجار. وإذ يعني الفصل ذاته تعطيل إمكانية موضعة سورية، فإنه يعود ويعزز امتناع تكون ذاتية سورية، تفكر في بلدها فتنزع عنه إبهامه، وتعمل له فتصلحه وتطوره، وتتماهى فيه فتقوّي شخصيته وجاذبيته.
ليس غرض عجالة كهذه تقييم الفكرة القومية العربية. الغرض فقط لحظ دورها في إضعاف الاستقلال الذاتي لسورية كموضوع للمعرفة. إن لها بالمقابل أدوارا أساسية، قد يكون أبرزها وأكثرها خفاء عن الفكرة القومية نفسها أنها الوعي الذاتي للوطنية السورية التي لم تطور، خلافا لأغلب الدول العربية، وعيا ذاتيا متمحورا حول واقعة الكيان والدولة المستقلة، والمضطرة لاستعارة الوعي الذاتي العربي أو المثابرة على الالتصاق به. لهذا الشرط أصول تاريخية، جوهرها هو القلقان اللذان أشرنا إليها فوق. قد نضيف إليها مقتضيات الحاجة إلى توحيد طاقم الحكم ودواعي ممارسة دور إقليمي فاعل.
على أننا نلاحظ أن دور القومية العربية في تهدئة قلق البنية الاجتماعية السوري أضعف اليوم مما كان في أوقات سابقة، وهو ما يوجب مزيدا من الاعتراف بالاستقلال الذاتي للوطنية السورية ومزيدا من الانتباه إلى ما يجري داخل العلبة السورية المغلقة.
تدارس أكثر تنقيبا وتدقيقا للعوامل التي تجعل سورية غير مرئية معرفيا يمكن وينبغي أن يكون خطوة نحـو اكتشاف سورية من قبل مثقفيها ونخبها. وبقدر ما نعرف سورية ونعترف بها فإننا نسهم في دعم استقلالها، ما من شأنه أن يساعد على انسلاخها من التسلطية. وليس في ذلك ما يحول دون إقبال سورية على تعاون أكثف وأفعل مع مجالها العربي. لعل العكس هو الأصح.