في حياتنا الحديثة، عادة ما تكون منابع المعرفة ومفاهيمها عرضة للسؤال والنقد، ومهيأة للمراجعة وإعادة النظر باستمرار، وذلك إما لتعديلها وتحديثها، أو استبدالها بأخرى جديدة، في حين كانت المفاهيم في الحياة القديمة التاريخية الماضوية على حالها مستقرة لا تخشى التعديل والتغيير. وحينما أدرك الإنسان الراهن أن المنابع والمفاهيم القديمة، قد أصابها السكون، وباتت غير منتجة، وغير قادرة على الإجابة على مختلف أسئلة الحياة الكثيرة، ومؤثرة بشكل سلبي فى مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، شعر بأنه أصبح غير قادر على التعامل معها ومع قوانينها، بسبب فقدانها مصداقيتها وحركيّتها في الحياة، كذلك أدرك أنه يحتاج إلى منابع ومفاهيم وقوانين وإجابات جديدة، أي يحتاج إلى رؤية جديدة في السياسة وفي الاقتصاد وفي التربية وفي غيرها.
إن طريقة التفكير الجديدة التي جلبتها الحداثة في الحياة، أي التفكير العلمي المستند إلى العقل الحر، هي من الأسباب الرئيسية في هذا التغيير، فلولاها لما فكر الإنسان في أن ينقلب على الماضي الجامد، ولما احتاج إلى رؤى ومفاهيم جديدة تشبع حاجاته المعرفية الراهنة وترد على أسئلته الجديدة وتسد مكامن الجمود التي خلفتها المنابع والمفاهيم المعرفية القديمة.
كمثال على ذلك، نجد أن الإنسان الحديث لا يستطيع أن يعيش ويحيا في ظل تفسير ديني يلغي التفاسير الأخرى، أو أن يتواجد تحت سقف حياة ترفض الاعتراف بالديانات الأخرى باستثناء دينه أو تمنع التعايش مع اللادينيين أو اللاأدريين. إن سبب ذلك يرجع إلى تغيّر مفهوم الحقيقة الدينية، إذ كانت في الماضي تشير إلى الدين الواحد المطلق الصحيح غير القابل للنقاش، في حين باتت تشير الآن، بسبب تغيّر منهج التفسير ضمن التغيرات المفاهيمية في الحياة الحديثة، إلى نسبية الحقيقة وبالتالي إلى قدرة أنصار كل دين ومذهب وفكر على التعايش مع بعض، باستثناء الفقهاء ومعهم غالبية عظمى من المسلمين الذي لا يزالون يعتبرون دينهم هو المعبّر الوحيد عن الحقيقة، وهو المطلق الذي لا مطلق غيره. وهي رؤية تفسيرية إلغائية تاريخية لا يمكنها أن تتعايش مع الواقع الحديث الراهن، وبالتالي ساهمت في عزل المسلمين في هذه الحياة المتنوعة، وجعلتهم اللاعب الرئيسي في الفريق الرافض لأطر الحداثة ومفاهيمها وقوانينها، إذا استثنينا من ذلك وسائلها.
إن مفهوم الاختيار، أو الانتخاب، هو أحد الأسس التي ساهمت في حصول تغيير في فهم الحياة وانتقالها – أي الحياة – إلى الحداثة، ومن ثم التضييق على الحياة القديمة. ففي الماضي كان الانتخاب شبه معدوم، بل كان غالب الحياة يستند إلى ما يصل للإنسان من تكاليف جبرية صادرة من رجل الدين أو الخليفة أو السلطان الحاكم، في حين أصبح عكس ذلك هو الدارج في الحياة الحديثة، حيث بات الإنسان يقرر نوعية حياته وفق مفهوم الاختيار دون أن يعني ذلك التمرد على قوانين الحياة السائدة، وإنما السير في هذا الاتجاه وفق تلك القوانين. وهذا الاختيار ساهم بدوره في تضييق الخناق على أطر رئيسية قديمة مرتبطة بطرق التفكير والشعور والإدراك، حيث باتت مفاهيم متعلقة بأحداث جرت ووصفت بأنها كانت “مقدرة” من قبل الله أو أنها كانت “مكتوبة” على الإنسان أو أن الله “أراد ذلك” أو “لم يرد ذلك”، كل تلك المفاهيم والتفسيرات أصبحت أقل حضورا في الحياة الحديثة، باستثناء حياة المسلمين التي لاتزال تلك الأمور تلعب دورا أساسيا ورئيسيا فيها. فلو ألقينا نظرة فاحصة على الأحداث السياسية والأمنية في البلاد العربية والإسلامية لرأينا بوضوح كيف يدور الصراع في غالبه بين جهة تتبنى التفسير الديني الإلهي المطلق، وبين جهة أخرى مغايرة (قد تكون حداثية وقد لا تكون).
فمن خطاب بن لادن والظواهري وتنظيم القاعدة، مرورا بخطاب حركة حماس والجهاد وحزب الله، انتهاء بخطاب الحركات الدينية المحلية سواء في الكويت أو في غيرها، سوف نستنتج بوضوح كيف أنه بمجمله خطاب فقهي يستند إلى لغة الخطاب الماضوي المطلق ومفهومه المقدّر أمره من الله. فمثلما يعتبر بن لادن صراعه مع الغرب “إلهيا” وأن النصر “لا محالة” متحقق “بتقدير” من الباري، لأنه صراع بين “الخير” الذي يمثله زعيم القاعدة و”الشر” الذي يمثله “الغرب الصليبي”، كذلك فإن حسن نصر الله يستخدم الخطاب نفسه والمفاهيم نفسها لكنه يختلف في الوسائل والتكتيك، رغم أن كل طرف يلغي الآخر وفق تفسير ديني خاص بكل جانب. وهذا “النصر المزعوم” أساسه التفسير الديني الذي يردّ الأمور إلى “المطلق” و”المقدّر” و”المكتوب”. إن الصراع السياسي السني الشيعي، أي الديني – الديني، يسير من خلال الأطر نفسها غير أنه ينتهي إلى نتائج متباينة تؤكد وجود مفارقة عجيبة في الأمر، لكن أطراف الصراع غير مبالين بأهمية تلك النتائج أو بربطها بضبابية مفهوم “المقدّر” و”المكتوب” وفي كثير من الأحيان بفقدان مصداقيته، فأيهما في خضم الصراع هو الذي “قدّر” الله و”كتب” له النصر أو الهزيمة؟!!!
إن الفقهاء ورجال الدين لا يزالون يدافعون، بكل ما يملكون من قوة دينية وقدرة سياسية وتهديد قانوني قضائي، عن الأطر التي تشجع الحياة القائمة على مفاهيم “المقدر” و”المكتوب”، ولا يزالون يعتقدون أن أمور الحياة تسير وفق العقل التاريخي القديم المستند إلى تلك المفاهيم لا العقل العلمي المستقل عنها. لذلك هم لا يساهمون بأي حال من الأحوال في تحديث المجتمعات، بل هم مساهمون نشطون في تخلف المجتمعات وإرجاعها إلى الخلف التاريخي رغم أنهم أكثر المستفيدين من وسائل الحداثة لتحقيق مآربهم الشخصية الفئوية ومصالحهم الدينية الإلغائية.
ssultann@hotmail.com
* كاتب كويتي