إشكالية التعامل مع التراث الإسلامى لم تعد مسألة إسلامية وأنما هاجس وهم عالمى بعد إستخدام هذا التراث بكثافة من قبل الإرهابيين لتبرير قتل الابرياء حول العالم. مسلمون يقتلون مسلمين معتمدين على هذا التراث،مسلمون يقتلون غير مسلمين معتمدين على هذا التراث،، إنتحاريون يفجرون أنفسهم فى ضحايا ابرياء من الاطفال والنساء معتمدين على الوعود التراثية بالحور والخمور والولدان المخلدون.
مئات المليارات رصدتها أجهزة الامن حول العالم لحماية الابرياء من هؤلاء الذين يبررون كل شئ معتمدين على تصور أوامر الهية تدفعهم للقتل. فى كل مكان فى الغرب انت مراقب من كاميرات التصوير، فى المطاعم ومحلات الشراء ومحطات الوقود وعند مداخل البنوك والمطارات والمبانى الحكومية… والجديد هو ما اعتمدته المدن الكبرى مثل لندن ونيويورك بوضع آلاف الكاميرات لمراقبة الناس والسيارات وهى تسير فى الشوارع بما فى ذلك إنشاء الحواجز المرنة التى تغلق الشوارع والكبارى والانفاق فى دقائق معدودة لمحاصرة الإرهابيين.
التكنولوجيا الآن فى مواجهة التراث الإسلامى، والحرب دائرة على اشدها بين من يستخدمون هذا التراث كتبرير للإرهاب حسب تفسيرهم له ومن يستخدمون التكنولوجيا للحفاظ على ارواح الناس. بالتأكيد سينتصر العلم والعقل والتكنولوجيا ولكن بعد أن تتكبد البشرية ضحايا أبرياء لا عدد لهم وأموال لا طائل لها عبر حرب كونية ممتدة.
لا أحد يتحدث أو يقترب من الإسلام كدين وإيمان وعقائد وطقوس وعبادات وأركان خمسة، ولكن المعضلة تكمن فى التراث المبرر للإرهاب والذى يقف كحائط صد فى مواجهة الحداثة والتقدم والعولمة والتمدن والحضارة ومسيرة التقدم الإنسانى.
ورغم أن العالم كله يدرك أن هذا التراث معضلة تواجه الإنسانية جمعاء ونتائجه الكارثية تصيب البشر على اختلاف اديانهم إلا أن التعامل مع هذا التراث بجدية من آجل إصلاحه هو شأن إسلامى متروك للمسلمين، وكل ما يقدمه العالم هو تشجيع للمصلحين المسلمين لمواجهة هذا الموضوع بشجاعة تتطلبها المرحلة من آجل سلام العالم وفى نفس الوقت تحديث المجتمعات الإسلامية والحفاظ على سمعة الإسلام.
فى مسألة التعامل مع التراث الإسلامى هناك عدد من الاتجاهات فى المجتمعات الإسلامية يمكن تلخيصها بإيجاز فى الأتى:
الاتجاه الاول:الإنغماس فى التراث
وهو الوضع الحالى الذى تعيشه المجتمعات الإسلامية حيث يحاصرهم التراث فى كافة مناحى حياتهم ويطاردهم فى كل تصرفاتهم حتى أصبح كل شئ يحكمه كلمتى “حلال” و “حرام”. وهذا الحصار الخانق أصبح سيفا مسلطا على المجتمع وتحميه الدولة وتزايد به فى مواجهة ممن يدعون انهم حراس التراث من الإسلاميين. فى مواجهة هذا الوضع الخانق هناك عدد من الإتجاهات الاخرى التى تحاول لحلحة هذا الوضع تجاه الحداثة.
الاتجاه الثانى:تنقية التراث
ويرى مصلحوا هذا الاتجاه أن الحل يكمن فى تنقية التراث من الكثير من معوقات الحداثة ومبررات العنف والكراهية، ولكن يؤخذ على هذا الاتجاه أن عملية التنقية هذه شاقة جدا وشديدة الصعوبة أمام هذا الكم الهائل المتنوع والغريب والمتناقض فى نفس الوقت، كما إنه لا توجد معايير محددة وواضحة يتم بناء عليها تنقية هذا التراث، أضف إلى ذلك أن التراث ليس ملكا لاحد ليقوم بتنقيته وانما هو ملك للتاريخ وللحاضر وللمستقبل والاقتراب منه هو عملية تزوير فاضح للتاريخ.
الاتجاه الثالث: إنتقائية التراث
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن التراث يحتوى على الخير والشر وعلى المجتمعات الإسلامية أن تتركه كما هو وتنتقى منه ما هو نافع ومفيد لشئون حياتهم، ولكن يؤخذ على أصحاب هذا الاتجاه أن الآخرين أيضا لهم الحق فى استعماله وانتقاء منه ما يناسبهم وما يؤمنون به ويريدونه، وفى هذه الحالة فالمتطرفون لهم نفس الحق فى إستخدام وإنتقاء الجانب الشرير منه. وفى أجواء المزايدات ينتصر التطرف فى لحظات الازمة وخاصة أن المتطرفين يقولون إنهم يستخدمون تراث صحيح وحقيقى وموجود بالفعل ولا يستطيع أن ينكر أحد صحته علاوة على قدسيته.
الاتجاه الرابع:عدم الايمان بهذا التراث
يرى فريق من المسلمين يطلقون على انفسهم ” القرآنيين” أن الحل الأمثل هو عدم الايمان بهذا التراث برمته واعتباره تراث غير إسلامى وأنما مدسوس ومختلق وكاذب وقليل منه ما هو صحيح. والقرانيون اصوليون بالمعنى الإيجابى للكلمة ومسالمون وينطلقون فى مسعاهم هذا بغرض حماية الإسلام والدفاع عنه ومن هذا المنطلق يرون أن اكبر إساءة للإسلام تأتى من هذا التراث. ويقدمون الحل بالقول أن هذا التراث فى مجمله مزور ومدسوس وبهذا يرون انهم يخدمون الإسلام بازالة ما يسئ اليه ويخدمون العالم بدعوة المسلمين بنبذ هذا التراث الملئ بالعنف والكراهية والشعوذة. ويتخذون نهجهم ” القرآن وكفى” لانهم يرون بختام القرآن قد اكتمل الإسلام ولا يحتاج إلى هذا الكم الهائل من الاحاديث التى كتبت منسوبة للنبى بعد قرنيين من ختام دعوته وإكتمال رسالته. ولكن القرانيين يمثلون مجموعة صغيرة جدا فى المجتمعات الإسلامية وهم تحت إضطهاد ومطاردة من الجهات الامنية آخرها ما حدث فى مصر بالقبض على مجموعة منهم وتقديمهم لمحاكمات بتهمة إنكار السنة والاحاديث النبوية وإعتبار أن ذلك قضية أمن دولة.ويؤخذ عليهم أيضا أن حصر الموضوع فى النص القرآنى لا يلغى مبررات العنف التى تتواجد بكثافة فى هذا النص، كما أن التراث يمكن تشبيهه بالائحة التنفيذية للقانون، فهو الذى يفسر النص القرآنى، فكبار مفسرى هذا النص هم تراثيون ،ويعتمد القرآنيون أنفسهم على هؤلاء فى قراءة هذا النص وتفسيره ومعرفة خلفياته التاريخية، والاحاديث تمثل الجزء الأساسى من هذا التراث الذى يعتمد عليه المفسرون للنص القرآنى.
الاتجاه الخامس: التعامل مع التراث كتاريخ
ويرى اصحاب هذا الاتجاه أن التراث الإسلامى هو تاريخ بما فى ذلك نصوص القرآن ذاته نزلت فى ظروف تاريخية محددة وللإجابة على أسئلة محددة فى زمانها تتعلق بوقائع مختلفة عن ما نحن فيه. فبأستثناء العبادات والقضايا الإيمانية فكل شئ بعد ذلك يبقى نصا تاريخيا لا يصلح لكل زمان ومكان وانما لزمانه فقط. وهؤلاء يمكن ان نطلق عليهم اصحاب ” التفسير التاريخى للنصوص” ، فهم يتعاملون مع التراث كوحدة واحدة ولكنهم يفسرونه تاريخيا وفقا لمقتضيات المعاصرة. ومن هؤلاء على سبيل المثال سعيد العشماوى والذى كتب كثيرا فى تفسير تاريخية النصوص لكى تتلائم مع الزمن المعاصر. ولكن هؤلاء ايضا افراد معدودون ومعرضون لاخطار التكفير والمطاردة، ويكفى ان نقول ان سعيد العشماوى يخضع لحماية أمنية منذ ما يزيد عن ربع قرن من جراء تهديد المتطرفين بقتله، كما إنه معزول إعلاميا وغير مرحب به فى أغلب وسائل الإعلام العربية، فهذه مدرسة فى حالة حصار شديد وغير مسموح لافكارهم بالانتشار.كما إنه كما يستعين هؤلاء بالتفسير التاريخى للاصلاح والتحديث فخصومهم أيضا يستعينون به للتكفير والتخريب بما فى ذلك تكفير أصحاب المدرسة التاريخية أنفسهم.
الاتجاه السادس: تأويل التراث
ويمكن القول أن بن رشد الفيلسوف العربى الشهير هو صاحب مدرسة تأويل النصوص الدينية، أى عدم قبولها كما هى وأنما إعمال العقل فى النص الدينى، أى تأويل النصوص. وحول هذا يقول بن رشد ” أن لا إجماع مع التأويل وبالتالى لا تكفير مع التأويل”، ولكن تلاميذه نادرون فى المجتمعات الإسلامية وأتباعه الكثر فى أوروبا الغربية وليسوا فى المجتمعات الإسلامية. وتعد حرق مؤلفاته وعددها 108 كتاب سنة 1189 بمثابة موت حقيقى لافكار هذا الفيلسوف الجليل فى المجتمعات الإسلامية.
الاتجاه السابع : تجديد التراث
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحل يكمن فى تجديد التراث بالاستعانة بالتراث ذاته ، أى بفكرة الإجتهاد وهى فكرة أصيلة فى التراث الإسلامى. ويمكن إستخدام مبدأ الإجتهاد فى خلق تراث جديد متكامل يتعامل مع العالم المعاصر بدون تفسير للقديم ولكن بتقديم تراث جديد متكامل يجيب على كافة الإسئلة والإشكاليات المعاصرة. بمعنى أوضح تقديم ” إسلام جديد” يتعامل مع روح العصر. ويؤخذ على هذا الاتجاه أن هذه مهمة قد تكون مستحيلة، فمن يقبل أن يقدموا له إسلام جديد وماذا عن القديم؟، كما أن اصحاب هذا الاتجاه متهمون بأنهم يفعلون ذلك لإرضاء الغرب، كما أن رؤيتهم الجديدة ضعيفة فى مواجهة كم مهول من التراث الذى يمحص النص الدينى ويقدم كل شئ عنه، فكيف يمكن تقديم تراث جديد فى عدة سنوات فى مقابل هذا الكم الهائل الذى تكون عبر قرون من الزمن؟.
الاتجاه الثامن: تجاهل التراث أى قطع الصلة بالتراث
واصحاب هذا الاتجاه ليسوا فى حالة عداء مع التراث، كما يرون أن عملية تنقيته أو تحديثه أو تجديده أو تقديم تفسير معاصر له هى مشاريع غاية الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، والحل لديهم يكمن فى تجاهل هذا التراث عبر الفصل التام بين الدين والدولة والسياسة والأخذ بأساليب التقدم بدون النظر فى توافقها أو تعارضها مع التراث الدينى، فالاولوية لفكرة التقدم كما أن الدين مسألة شخصية لا علاقة لها بشئون الحياة المعقدة. والدين ينتهى عند المسجد أو دور العبادة وخارج المسجد تحكم المجتمعات بقوانيين وقواعد الحياة المعاصرة. ومن رواد هذا الاتجاه الشيخ على عبد الرازق مؤلف الكتاب الشهير حول هذا الموضوع باسم ” الإسلام وأصول الحكم”.
ولكن رغم وجاهة هذا التيار وأخذه بأسس الحياة الحديثة إلا أن الأغلبية الكاسحة من المسلمين لا تزال تؤمن أن الإسلام دين ودولة وحكم وشريعة وقانون ونمط حياة. كما أن الإسلام منذ نشأته خلط بين الدين والدولة واستحالة الفصل بينهم بعد هذه القرون الطويلة بدون إلحاق ضررا بالغ بالإسلام ذاته.
هذا هو المأزق الذى تعيشه المجتمعات الإسلامية ويعيشه معها العالم كله حيث تم إجهاض كل المحاولات الإصلاحية، ويبقى التيار الكاسح فى تلك المجتمعات هو التيار المنغمس فى التراث حتى اذنيه.. ويبقى أيضا التعامل مع هذا التراث معضلة لم يظهر لها فى الافق حل مقبول من الجماهير حتى الآن.
magdi.khalil@yahoo.com