أشاعَ الاميركيون منذ غزوهم العراق فكرة «تصدير الديموقراطية» الى العالم العربي. ومارسوا ضغوطا على الحكام العرب ليفكّوا ممانعتهم للاصلاح والديموقراطية والتشكّل على الصورة الغربية. الذين استفادوا من هذه الصغوط ممن تحررت السنتهم مباشرة بعيد هذه الضغوط كانوا يرفضون ان تنْسب هذه الحرية النسبية الجديدة الى تلك الضغوط. فاميركا عندهم موطن الشر المطلق الابدي. لا تستطيع غير الكذب. وهي الآن تكذب بشأن ارادتها في تصدير الديموقراطية… ثم «شرق اوسط كبير وجديد» أو «الفوضى الخلاقة…» الخ. واذا سألتهم عن تلازم «حراكهم» المستجد مع صغوط ، يجيبون بثقة: نحن! نحن الذين منحنا انفسنا هذه الشجاعة بإعلان الخروج على الحاكم ومطالبته بالتنحي والانتخابات النزيهة الشفافة.
في هذا الربيع العربي الذي انتفخ فجأة، عُمّمت في الفضاء المكتوب وفي الفضائحيات كلمة «إصلاح»؛ كلمة جالت على الاحزاب والمجتمع المدني والنقابات والمنتديات والندوات والمؤتمرات وحتى المؤسسة الدينية (التجديد الديني، تحسين صورة الاسلام…).
كانت كلمة السر-العلن بعيد الحرب على العراق: ضرورة ان نصلح انفسنا قبل ان تحلّ علينا اهوال العراق. فسادَ الانطباع الغائم بأن الانظمة الحاكمة مهددة بديناميكيات وحِراك جديدة. وهي آيلة الى السقوط السريع… بسبب ضمني اميركي والغزو الاميركي للعراق. حتى الكلام عن ضرورة اتخاذ خطوات متأنية في الاصلاح واتباع مسيرة الخطوة خطوة لم يكن مرحبا به. الأنفس كانت لاهثة وراء ما تعتبره كذبة اميركية…
الآن، وفي اقل من ثلاث سنوات، انقلبت الالسن. بدل ان نبقى على ضرورة القيام باصلاح تجنبا لأهوال العراق ومآسيه… عنادا على الاقل، كما اعتدنا، صرنا نقول بضرورة تجنب اصلاح انفسنا كي لا نتعرض لأهوال العراق… ومن بعده لبنان وفلسطين المعرضين لكابوس ديموقراطي، كلٌ على طريقته. فتبخّر الاصلاح من القاموس المتداول وكذلك التجديد والتحسين.
السبب، حسبما بدأ يروج، هو الخيانة الاميركية للديموقراطية. اميركا مسؤولة عن الانتكاسة السريعة لحِراك نسبي ومحدود، لم يدم اكثر من ثلاث سنوات. واميركا خفّفت من هذا الصنف من الضغط على الحكومات العربية، هذا واضح؛ بالرغم من بقاء حماسها اللغوي على ما كان في بدايته. اما الشعوب، فمن كان محظوظا منها وعبر عن رأيه، اختار الاسلاميين: اعداء اميركا واعداء الديموقراطية في آن. فيما الاميركيون يلملمون خسائرهم لخروج مشرف من العراق. خروج من غير هزيمة ولا انتصار.
والحال ان هذا الذي اسمه «تصدير الديموقراطية» انجبه مناخ الصراع الحضاري والحرب ضد الارهاب. الاميركيون لم يخونوا، بل استجابوا لمجريات التصدير المترافق مع الحرب والصراع. وهذه المجريات تملي عليهم استراتيجية إعادة التمركز، إعادة الانتشار لمختلف الجبهات. والذين يقررون هذه الاستراتيجية يعلمون جيدا ان الديموقراطية نفسها متراجعة في بلادهم، ليس بسبب عيوبها فحسب، وطبيعة القيادة الحاكمة… بل ايضا بسبب الحرب على الارهاب. فبذريعة هذه الحرب، او بسببها الصادق، اصدرت تشريعات استباقية كانت نتيجتها تقييد الحريات المدنية للأميركيين. فكانت اولى الاصابات للديموقراطية.
اما الصرع الحضاري الذي ولد قبيله، واخذ بعدا غير مسبوق، فقد ايقظ العنصرية الغربية ضد كل مسلم وعربي. ارض خصبة حرثت منذ عقدين ربما، فانتجت الغيتوات العربية المسلمة الجديدة والمجموعات الدينية المتطرفة المنادية بإقامة دولة الخلافة الاسلامية في هذه او تلك من العواصم الغربية: جهاد وارض حرب وشريعة… فاغلق الغرب حدوده الشرعية مع مواطنينا «البسطاء»منعا للمزيد، فما كان منا الا ان صدّرنا له انفسنا عبر القوارب الشراعية غير الشرعية التي يديرها اللصوص… لنصل الى شواطئه تسللا… او موتا.
وهكذا: نرجو الغرب ان يقبلنا بسبب رثاثة حالنا. ثم عندما يفعل، مدفوعا لشعوره بالذنب تجاهنا بسبب استعماره لنا ونهبه لخيراتنا… نطالبه باحترام قوانيننا وحدودنا غير الديموقراطية. هنا سيكون الغربي عنصريا في دفاعه عن الديموقراطية. سوف تتسم ديموقراطيته بالتفرقة والشوفينية والتعالي. ونكون بذلك قد ساهمنا في قتل افضل ما في الحضارة الغربية، اي الديموقراطية؛ وفي إحياء أسوئها، اي التعالي والعنصرية.
«الحرب ضد الاساءة للرسول الكريم»، التي رافقتها الحرائق والتظاهرات الغوغائية والجرائم الهمجية والتهديدات بالموت… لم تبخل في المساهمة بهذا القتل. ما كان حرية السخرية والتخيّل والرسم والوصف والتعبير… صار تقيّداً وحذراً وخوفاً وتحسّباً؛ بدل ان يكون مفْعما بالاحترام والاقتناع والتبادل الحر…
في احدى المدن الايطالية الشمالية، إرتأت سيدة مسلمة ان ترتدي النقاب لدى خروجها من البيت. ولمنعها من ذلك، أعادت بلدية المدينة قانونا قديما من ايام عصر النهضة، يمنع بموجبه المواطن من الخروج الى الملأ وعلى وجهه قناع. اي من غير ان يكشف عن وجهه… عشرات القصص تحصل اليوم في العمق الغربي، في مدنه وبلداته. كلها تعبر عن مساهمة المغترب المتشدد في اصابة مكامن المواطنة ومجالات الديموقراطية.
أميركا خانت الديموقراطية. فاعادت تأسيس الانظمة من جديد. وبشائر هذه الخيانة بدأت تطل علينا من لبنان…
القذافي سخر من الديموقراطية قولا وعملا. واشاد بالارهاب قولا وعملا ايضاً. ولدى زيارته فرنسا، تعرّض مضيفه ساركوزي لحملة عنيفة بسبب الارهاب والممرضات البلغاريات… فكان ردّ ساركوزي: نستقبله ونكرّمه لأن هناك عقوداً بيننا وبينه. سيشتري من بضاعتنا فينمو اقتصادنا.
الديموقراطية ليست بضاعة. بل مثل السعادة؛ بحاجة الى محيط يحميها. والمحيطات في هذه الايام منفلتة… وحرب الحضارات فيها ما زالت مستعرة.
الحياة
dalal.elbizri@gmail.com
معركة الديموقراطية والتسلط في سياق حرب الحضارات
الد مقراطية بضاعة مودرن في عالم قدامي قروسطي مفوت مشبع بقيم الاستبداد و سلط المشايخ الطء فيين والعشاءريين