المسرح له جذر سياسي، لهذا يراقبه الحاكم بكل يقظة حتى لا يفلت أو يتهور احد من طرفي العرض. والعرض مستمر طالما بقيت الارض، فما الارض الا مسرح كبير وقعت عليها كل اشكال الدراما المسرحية. هكذا نشأت مصر الدولة على اساس سياسي منذ ان قام “مينا” بتوحيد القطرين. لم يكتب احد مشاهد العرض وعدد الفصول، حتة الابطال لم يتم اختيارهم مسبقا. فكل من على الارض كان مشاركا في إخراج هذه البانوراما الملحمية الرائعة بكل ما فيها من افراح ومآسي وانتصارات وهزائم. هذه المقدمة القصيرة ضرورية قبل ان يشرع المصريون في تشكيل لجنة كتابة دستور مصر الجديدة بعد الثورة وحتى لا تُخرج لنا اللجنة دستورا لا يصلح للمستقبل ولا يحفظ حقوقا ولا يصون تاريخا أو يحقق عدلا.
كسبت مصر الديموقرطية معركة كتابته عندما افشلت قواها الثورية محاولة احتكار الاخوان المسلمين ومعهم القوى السلفية فرصة الانفراد به. ووقف الازهر والكنيسة المصرية الى جانب الثوار والقوى الديموقراطية بكل انواعها بالانسحاب من اللجنة للحيلولة دون اختطاف مصر والمصريين مرة أخرى. كان إفشال القوي الديموقراطية لحق الاسلاميين في الانفراد بكتابته بإعتبارهم ممثلين لاغلبية الشعب المصري يثبت ان الشعب المصري بعد الثورة غير مقتنع بتمثيل هذه القوي له واثبت ايضا إمكانية ممارسة الديموقراطية خارج وداخل مؤسساساته البرلمانية مسمعا رايه ومحققا رغبته مع قدرته على إخضاع من اقتنص حق تمثيلهم في لحظة نشوة أو غش انتخابي لم يدرك الكثيرين وقوعها. بهذا اصبح الراي العام وحركة الشارع ممثلا لاحد اذرع الديموقراطية المؤسساتية في تاثيرها على مجريات الاحداث والقدرة على تصحيح الاوضاع. وتثبت الثورة بهذا الفعل أنها مستمرة ومتغلغلة في النسيج المصري تمردا على كل القيود وكل الانفرادات بكسر الاحتكارات. وكنتيجة منطقية لهذا الجدل الثوري وحركة المد والجذر فان القوى المضادة للديموقراطية لحق المصريين في تشكيل مستقبلهم لن تكف عن مناوأة الثورة واجهاض منجزاتها.
قوى الثورة المضادة معروفة لكن، ولمن عتمت شبكية العين عنده وعميت البصيرة لديه، فان كل من حاول الانفراد بكتابه الدستور الجديد ودافع عن حقه منفردا في وضعه هو من قوى الثورة المضادة. فالانفراد والاحتكار من صفات النظام الذي قامت الثورة لتقوضه من اساسه. فالدستور هو عمل هندسي وقانوني باقتدار لا يصح أن تشكل اجزاؤه تعارضا فيما بينها أو تناقضا يمكن لحاكم ان ينفذ من خلال ثغراته. القانون منطق، والمنطق لا يقبل التناقض، هكذا قال كل الفلاسفة واصحاب العقول السليمة. فلم يقبل افلاطون ان يدخل على مجلسه الا من كان مهندسا، اي قانونيا ومنطقيا في آن واحد. ذلك هو صلب وطبيعة الهيكلة المؤسساتية لمن يريد كيانا ايا كان موضعه وطبيعته ووظيفته حتى يبقي محققا استمرارية في التاريخ. فإذا كان الحق والحرية والعدالة هي الاهداف العامة للمجتمع والشعب فإن الصحة المؤسساتية لهذه الهيكلية الدستورية هي الكفيلة بتحقيق تلك المبادئ العامة التي يتطلع اليها البشر في مسعاهم اليها.
ستتشكل اللجنة مجددا بعد هزيمة الاسلاميين من احتكارها، وسيساهم اعضاؤها في كتابة دستور جديد، وكما اعلن مؤخرا فقد جاء ضمن استشارات تشكيلها عظماء دستوريين أكفاء وفقهاء للقانون الدستوري ممن استعانت بهم دول أخرى حديثة. حكمت مصر في الماضي بالظلم والجور والعسف والارهاب وباسم الدين الذي هو صناعة مصرية باقتدار لكنه لم يحمها من الوقوع في ظلمات التاريخ ومجاهل المعرفة ولم يحمها ايضا من غزو الاجانب لها.
المطلوب دستور جديد، وببساطة بديهية – البديهية هو من وحدات بناء المنطق– مطلوب دستور يعبر عن الثورة وقيمها الجديدة لان الثورة قامت لتقوض نظاما بكل ادبياته الفكرية والايديولوجية والقانونية والدستورية، فالنظام هو كل هؤلاء. معايير الدستور الجديد منطقيا هي نقيض معايير دساتير مصر النظام الذي ادي للثورة عليه.
أبرز ما سيواجه لجنة الكتابة بعد تشكيلها هو كيفية وضع الدستور، هل بالمقارنة بالدساتير القديمة وكتابة ما يصلح منها واضافة ما اغفلته في بنوده، أم بهدم تام لكل ما كتب في الماضي وحسم الامر للتعبير عن مصر جديدة خارج كل الاطر التي ادت للثورة. الموضوع إذن مرتبط بمدى قناعة لجنة الكتابة بما في الثورة من آمال وما للمستقبل من طموحات.
الدستور توافق وطني جامع لا علاقة بمبدأ كل حسب رؤيته ولكل حسب نواياه. التوافق شرط ضروري للجميع بان يغادروا الماضي بكل سوءاته. فالدستور يوضع للمستقبل وليس لتكرار الماضي والا فلماذا كانت الثورة؟ ولان الماضي لازال حاضرا في المخيال الوطني ودم ضحاياه لم تبرد بعد ولازالت قواه الفاسدة والمفسده فاعلة في الحياة اليومية فان كل بند من بنود دستور ما بعد الثورة، صياغة ومعني، عليها مغادرة ما في بنود الدستور القديم. فمن البديهيات الجديدة التي اصبحت من اسس السياسة الجديدة في مصر الثورة مدد رئاسة الحكم. يتفق الجميع علىمحدوديتها ويستحيل قبول الشكل القديم لها. رئاسة السلطة التي كرسها نظام يوليو هي استعادة لاقدم نظم الحكم الدينية وخاصة الاسلامي منها حيث البقاء في كرس الحكم حتى وفاه صاحبه او قتله والانقلاب عليه. فرغم ان دستور عبد الناصر الذي تركه للسادات نص على فترتين الا ان غياب مؤسسات تفرز قيادات جديدة وخلق كوارث وطنية وهزائم عسكرية متعمدة جعل بقاء الحاكم في كرسي السلطة سهلا وامرا واقعا يصعب تغييره الي حين انتهاء المعركة التي لا صوت يعلو عليها. وجاء السادت ليغير بنود الدستور بكل فجاجة بعد انتصاره علىخصومة في الحكم واصبح لدي المصريين دستورا كحد السكين على رقبتهم. أضاف الرئيس المؤمن الالف واللام في المادة الثانية من دستور ١٩٧١ القائلة «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع» لتصبح « … مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع» فعلها السادات ليتغزل بها في الجماعات الاسلامية وعلىراسهم الاخوان المسلمين مقابل تمرير مادة اخري تم تعديلها تقول بجواز مد فترات الرئاسة مددا أخري. بهذا وجد نظم الحكم الاستبدادي الابدي متكأ له في الشريعة والدين لجلب الاستبداد. غازل السادات بالالف واللام القوي الدينية التي قتلته وهي ذات القوي التي اصبحت بعد اربعين عاما تحتل مجلس التشريع الاول في الدولة. فالحكمة المستخلصة من دستور السادات اتكاءا على الشريعة والحكم المطلق ادت الي فساد الدولة ومقتل الحاكم وهو ما يثبته التاريخ الطويل للاسلام السياسي في المنطقة باسرها. فمن بقي في السلطة هو الاستبداد ومن ضاعت حقوقه هو الشعب. فكم مرة تكرر سيناريو السادات ولاية وقتلا في تاريخ الدولة المحكومة بالاسلام؟
في موضع المزايدة على السادات ولضخ مزيد من الافساد حاول أحد أعضاء الاغلبية البرلمانية من الاغلبية الاسلامية لما بعد ثورة 25 يناير استبدال كلمة مبادئ ووضع لفظ أحكام بدلا منها. ولنتذكر ان احد زملائه من ذات التوجه قام ورفع الآذان بالمجلس سعيا لتحويله من برلمان الي زاوية للصلاة واستمرأ الوضع ثالثهم بمشروع قانون يمنع تدريس اللغة الانجليزية في المدارس باعتبارها لغة كفار واقترح رابعهم فرض الحجاب كزي موحد للنساء … الخ تلك التوجهات التشريعية النابعة من الهوية دينية لصاحبها محمد انور السادات ومرر معظمها حاكم مصر المخلوع في الثورة. فرغم بقاء الانجليزية ضمن مواد الدراسة الا ان التعليم برمته بالعربية لم يعد يفي بمطلب اخراج جيل قادر علىالقراءة والكتابة بكفاءة بذات اللغة واصبحت نساء مصر في غالبيتهن محجبات بفعل اعلام السلطة الاستبدادية ووصل الي حد وجود نسبة كبيرة نسبيا ترتدي النقاب مزايدة بالدين علىالمجتمع كليا. مثل هذه المظاهر تؤكد حقيقة يمكن بمنطق استلالي سهل اكتشافها من ان النظام الذي اسسه السادات بحرفي الالف واللام لقاء بقائه في السلطة فترات لا حد لها وورثه الرئيس المخلوع ومن بعده القوي السلفية التي في البرلمان كعنقاء جديدة، لازال يعمل عبر من جلسوا علىكراسي البرلمان. ولم يُكشف الخطأ فيما بعد الثورة الا لفشلهم النابع من ايديولوجتهم الدينية الاستبعادية وجذوة الثورة التي ظلت حارسة للحقوق ومطالبة بها بكل وسيلة ممكنة في الشارع والميدان وبمزيد من الدماء في ساحات اخري مثل ساحة البالون وماسبيرو ووقعة شارع محمد محمود ومجلس الشعب والمجمع العلمي واخيرا في بور سعيد بابطاله من جمهور الالتراس.
الدين إذن كان حاضرا بقوة في عصر االفساد المؤدي للثورة عليه بل ولا زالت تستدعيه الاغلبية البرلمانية الان. فإذا كانت الثورة تطالب بدستور يتجاوز فساد الماضي؟ فكيف يمكن تحديد احداثيات وموقع البرلمان باغلبيته في هذه المعادلة حسب كل ما سبق؟ فالمادة الثانية من الدستور هي المادة اللغم في طريق بناء مستقبل افضل للمصريين تلاعب بها الحاكم واستغلها حاكم ويستخدمها حاليا برلمان اتي في لحظة نشوة لم تتح للمصريين فرصة الافاقة منها.
انها المادة الثانية التي تحدد الهوية، لكن اليست الهوية حسب دستورالنظام أو الاعلان الدستوري المؤقت المستخلص من دستور 71 المنحل هي التي اتت بكل هذه الكوارث قبل وبعد الثورة؟ ربما تلك هي اهم ما علىالمشرعين اخذه في الاعتبار عند تاسيس دستور جديد. فمصر ليست حكرا علىدين فعلىارضها كل الاديان وليست حكرا لفئة لان علىارضها كل الفئات والمطلوب سحب كل ما ينفي علاقة المواطن بوطنه أو يجعل لفئة وصاية علىفئة. فما الخطأ طالما الجميع يقر ويعترف ان المسيحية ديانة سماوية مثلها مثل الاسلام ولها اتباع لا يقل تعدادهم عن 15 مليونا علىارض مصر اضافة لليهود والعلمانيين والبهائيين والملحدين ان ينص الدستور علىأن مبادئ الشرائع السماوية احد مصادر التشريع نزعا لحصرها في الاسلام وخاصة ان الجميع الان يعلم علم اليقين ان الدولة لا دين لها لانه مسالة فردية خاصة بالانسان وليس بالكيانات المعنوية. فالقوانين الوضعية العلمانية بجانب ما يصلح من شرائع الاديان وتتفق ما ما يقوله الاعلان العالمي لحقوق الانسان يمكن بهما تجاوز سلبيات الجكم بالدين منفردا التي لازال كثيرون يتربصون للشعب المصري به.
الثورة ليست من الاديان والاعلان العالمي لحقوق الانسان ليس من الاديان. الاولي اقر بها المصريون كافضل انجاز لهم في العصر الحديث رغم غالبيتهم المسلمة والاعلان العالمي تاسست عليه اكثر الدول صيانه لشعوبها وتحقيقا لرفاهيتهم وحقوقهم، الا يكفينا تنازلا بالاقرار بما في مبادئ الشرائع السماوية لندمجها في الدستور ولو مؤقتا للتوافق مع بقايا نظام مبارك ولتجاوز ازمة وضع الدستور.
elbadry1944@gmail.com
كاتب مصري