مثل معرض الرياض الدولي للكتاب الذي افتتح في 27 فبراير/ شباط الماضي وحتى 9 مارس/ آذار الجاري، تظاهرة ثقافية، وعرس حضاري، تفاعلت وتواصلت عبره شرائح واسعة من المجتمع – من كافة المناطق – بمختلف مكوناته وأطيافه الثقافية والفكرية، وقد تميز المعرض لهذا العام بسعة المشاركة لدور النشر والتي تجاوزت 600 دار نشر، ونحو مئتي ألف عنوان للكتب والمطبوعات العربية والأجنبية، وفي بادرة لتكريم رواد الثقافة في السعودية أطلقت أسماء خمسة عشر من الرواد ممن تميزوا بمساهمتهم في الحراك الفكري/ الإبداعي المحلي، كما ننوه بحفل التكريم الذي رعته وزارة الثقافة والإعلام (التي أنيط بها للمرة الأولى مهمة التنظيم والإشراف على المعرض وفعالياته المصاحبة) لـ 17 شاعراً من السعودية، من اللذين أصدروا دواوين شعرية قبل العام ,1975 هذا وقد نظمت الكثير من الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض شارك فيها نحو 70 باحثا من قارات مختلفة. حضوري كان بناء على دعوة من وزارة الثقافة والإعلام التي استضافتني، ومعي ثلة من مثقفي ومثقفات المنطقة الشرقية بناء على ترشيح النادي الأدبي في الشرقية، فلهما مني كل الشكر والتقدير.
مع انه لم يسعفني الوقت للبقاء حتى نهاية الفترة المحددة للمعرض، مما حرمني من الاطلاع على أجنحة دور النشر كافة وما تحتويه من إصدارات، والأمر كذلك في ما يتعلق بالأنشطة الثقافية المرافقة، غير إني استطيع القول من حصيلة ما شاهدته، ومن دون مجاملة، انه مثل حدثا ثقافيا رفيعا بامتياز، أمل أن لا يكون استثنائيا وان يتواصل ويتطور في المستقبل، على رغم كل المعوقات، والضغوط، والتخويف، والابتزاز، والتشويه التي مارسته وتمارسه بعض المجموعات الدينية المتشددة والمتزمتة، وجهات وقوى اجتماعية محافظة، التي راعها وكدرها سقف الحرية، والتعددية، والانفتاح، والحراك الثقافي الصحي، واستشعرت الخطر على مصالحها، امتيازاتها، هيمنتها، وتسلطها الذي امتد عقودا طويلة، وساعد على خلق البيئة الفكرية والاجتماعية المولدة للعنف، التطرف، والإرهاب، والتي تشهد السعودية منذ سنوات وحتى اليوم تجلياته الدامية.
وفي هذا الإطار خرج بيان 18 من المتشددين التكفيريين، الذي تضمن هجوما وتحريضا صريحا ضد معرض الكتاب، ووزارة الثقافة والإعلام في المملكة، ووسم المنظمين بأشنع الأوصاف، والنعوت، والاتهامات البذيئة والكاذبة، مثل فتح الباب أمام دور النشر العربية والعالمية لترويج وتشجيع ‘’ الرذيلة ‘’ ومحاربة ‘’الإسلام’’، جاعلين من أنفسهم حراسا للعقيدة، ومعبرين عن الفرقة الوحيدة الناجية، ويمثلون الإسلام الصحيح ومن هذا المنطلق، آخذو يتهمون دور النشر بالتواطؤ على نشر كتب المبتدعة ‘’كالرافضية والاباضية والزيدية’’ أو ‘’كتب الديانات المنسوخة كالتوراة والإنجيل’’ وكتب ‘’الوثنين كالصابئة والهندوسية’’ إلى جانب ‘’كتب الحداثة والجنس’’ ومهاجمين ما اعتبروه اختلاط بين الرجال والنساء، وبكلمة فإن بيانهم التكفيري الخطير، الذي يحرض على الفتنة الداخلية بين المسلمين، ويؤجج الصراع مع الديانات التي يدين بها غالبية البشر في العالم، هو نموذج للفكر البنلادني الظلامي والانعزالي التكفيري، الذي لايزال متواجدا ومؤثرا – وأن ضعفت مواقعه – من خلال قنوات وجهات معروفة، هذه البيانات والمواقف، تعبر عن الحصار وعمق الأزمة التي بات يعيشها هذا الفكر، غير أن من شأنها تقديم خدمة ومساعدة مجانية، لتدعيم وجهة نظر أولئك الذين يرسمون صورة قاتمة عن الأوضاع في السعودية، وهو ما يتطلب اتخاذ إجراءات وسن قوانين رادعة، تحرم وتجرم، أي دعاوى عنصرية (دينية ومذهبية واثنية وقبلية) تشجع وتحرض على بث ثقافة الكراهية، والعداء، والإقصاء، والتهميش ضد الأخر المختلف.
وفي هذا الصدد من حق الجميع، وكل شخص وجهة ومجموعة في التعبير عن أرائها، وتصوراتها بصورة مستقلة، ولكن في حدود الالتزام بالثوابت الوطنية والدينية، واحترام حقوق الآخرين وخياراتهم، والقبول بمبادئ الحرية والاختلاف والتنوع والتعددية.
وفي الواقع فإن نجاح معرض الرياض للكتاب يعود في الدرجة الأولى إلى التزام الجهة المنظمة (وزارة الثقافة والإعلام) وخصوصا اللجنة الثقافية التي رأسها وكيل الوزارة للشؤون الثقافية عبدالعزيز السبيل، بهذه القيم والمفاهيم الحضارية الرفيعة، والتي من مؤشراتها إتاحة المجال لدور النشر العربية – من دون استثناء – للمشاركة على اختلاف بلدانها أو توجهاتها الثقافية والسياسية، وكان لافتا غياب مقص وسطوة الرقيب (المحلي) المباشر، مما أتاح لدور النشر الحرية في عرض مطبوعاتها المختلفة، التي عكست الى حد كبير ألوان الطيف الثقافي/ الفكري/ السياسي من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، التي تزخر بها المجتمعات – بما في ذلك السعودية – العربية، وقد شملت عناوين لكتب وروايات سعودية، لاتزال محظورة، والتي نأمل أن يرفع عنها الحظر بصورة نهائية، وفي الواقع فأن دور النشر كانت تعي مسؤولياتها الأخلاقية، والأدبية، واحترام سقف الحرية الممنوح لها، وخصوصا مراعاة تجنب عرض الموضوعات والعناوين الحساسة، مثل التي تتعلق بالوضع الداخلي في السعودية، أو قضايا فاقعة، تمس أمور الدين والجنس، ومع أن بعض المتشددين حاول أن يفرض حضوره، ووصايته، غير أن دور اللجنة المنظمة، كان حاسما في التصدي لهم، وتحديد جهة الاختصاص المخولة بالفسح والمنع. وللحديث صلة.
na.khonaizi@hotmail.com
(الوقت البحرينية)