هذه بعض ذكريات القمص بولس باسيلى – عضو مجلس الشعب المصرى السابق – عن فترة مؤلمة من تاريخ مصر الحديث – حين وضع السادات رموز مصر السياسية والدينية والثقافية فى السجن فى سبتمبر 1981 من بينهم عدد من القيادات القبطية من رجال الدين من مطارنة وكهنة ومنهم والدى القمص بولس باسيلى
-مع قرار السادات بعزل البابا شنودة عن منصبه الدينى واحتجازه فى الدير “كمتحفظ عليه” – وهى فترة ماتزال آثارها المدمرة تنهش روح مصر الى اليوم حيث تنفجر بين الحين والحين احداث يطلق عليها صفة “الفتنة الطائفية” والتى لم تعالج حتى اليوم علاجا جذريا يحفظ امن مصر ووحدتها الداخلية ويجنبها اخطار الانقسام الداخلى والاطماع الخارجية.
**
فى الثالث من سبتمبر 1981 امر الرئيس السادات باعتقال ثلاثة آلاف من رموز مصر السياسية والدينية والثقافية، فكان هذا حدثا فريدا فى تاريخ مصر، اذ لم يحدث ان قام حاكم مصرى منذ الفرعون مينا موحد القطرين مرورا بكل من تعاقب على حكم مصر من فراعنة ثم من غزاة وطغاة- باعتقال مثل هذا العدد الهائل من رموز مصر فى كافة المجالات ومن كافة مناحى المجتمع المصرى فى ليلة واحدة. ولعل الحادث الوحيد الاقرب الى هذا هو حادثة “مذبحة المماليك” التى قام فيها محمد على بدعوة امراء المماليك الى القلعة حيث اغلق عليهم ابوابها وقتلهم عن بكرة ابيهم فى ليلة واحدة عام 1811.
وكان والدى القمص بولس باسيلى من بين من اعتقلهم السادات فى تلك الليلة الكالحة من تاريخ مصر- وكان فى الخامسة والستين من عمره.
وفى شهر مايو من هذا العام 2008 اتم والدى اثنين وتسعين عاما من العمر، وقد بدأت ذاكرته تغرب ولم يعد قادرا على الوقوف على قدميه فيستعمل كرسيا متحركا. ولكن ذكريات ليلة القبض على ابونا بوليس لن تضيع لانه سجلها فى عدد من كتبه، وله اكثر من اربعين كتابا منشورا فى مصر، ومن المفيد ان نستعيد دروس ومواجع وطرائف تلك الليلة الهامة فى تاريخ مصر، والتى بلا شك كانت الدافع وراء حادثة اغتيال السادات التى وقعت بعدها بحوالى شهر واحد.
ومن اللافت انه فى الاسكندرية وقبل اعتقال والدى بساعتين تم اعتقال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وكان هو رقم 9 فى عمليات تلك الليلة، وكان ذلك فى الثانية والنصف بعد منتصف
الليل وبعد ذلك بحوالى ساعة ونصف اى فى الرابعة فجرا وصلت حملة الاعتقال بضباطها وجنودها المسلحين الى ابو قير التى تبعد حوالى ساعة عن الاسكندرية لاعتقال القمص بولس باسيلى حيث كان يصطاف بها.
ومن مشاهير السياسيين الذين اعتقلوا فى تلك الليلة فؤاد باشا سراج الدين زعيم حزب الوفد، وفتحى رضوان وقيادات الاحزاب الاخرى مثل الدكتور حلمى مراد – حزب العمل- والعديد من اعضاء اللجنة المركزية لحزب التجمع والعديد من النواب المستقلين، ومنهم احمد فرغلى ومعظم اعضاء مجلس نقابة المحامين وفى مقدمتهم النقيب عبد العزيز الشوربجى – وعدد من اساتذة الجامعات مثل د. ميلاد حنا و د. كمال الابراشى والكثير من المثقفين البارزين مثل د. عصمت سيف الدولة، د.صلاح عيسى وحسين عبد الرازق وصابر بسيونى وحمدى صباحى .هذا بالاضافة الى شخصيات اسلامية شهيرة مثل الاستاذ عمر التلمسانى والشيخ كشك والشيخ المحلاوى .كما لم يخل الامر من النساء فاعتقلت قيادات نسائية بينهن د.نوال السعداوى ود.لطيفة الزيات الى جانب عدد من القيادات القبطية من رجال الدين ومن مطارنة وكهنة مع قرار السادات بعزل البابا شنودة عن منصبه الدينى واحتجازه فى الدير “كمتحفظ عليه” وتعيين لجنة خماسية لتولى شئون الكنيسة على رأسها الانبا صمويل والذى توفى فى حادث المنصة لاصابته برصاص الرشاشات التى قتلت السادات.
وانشر هنا تفاصيل حادثة القبض على ابونا بولس باسيلى وذكرياته فى السجن كما نشرها فى كتابه “الاقباط: وطنية وتاريخ” مع ايضاحات قليلة اضعها بين قوسين كلما لزم الامر. مع التنويه بأن مايسمى بالفتنة الطائفية فى مصر والتى كانت احد اسباب الاعتقالات فى تلك الليلة ماتزال تطل برأسها بين وقت وآخر حتى اليوم، مهددة بانشراخ الوحدة الوطنية فى اكبر دولة عربية.
ذكرياتى بين المرج ووداى النطرون
فى الساعة الرابعة بعد منتصف الليل وكنت وقتها فى مصيف ابو قير (على بعد حوالى ساعة من الاسكندرية) دق على بابى “زائر الفجر” وكنت اظن ان زوار الفجر قد انقضوا من زمان فقمت من نومى وفتحت الباب فاذا بى امام “جيش معمرم” ضباط وعساكر ومخبرين ورجال مباحث وعلى كل درجة سلم فى منزلى جندى شاكى السلاح وتقدم ضابطان بثيابهما البيضاء واشهد انهما كانا فى غاية الادب والخجل فهما يعرفاننى من مجلس الشعب ويفهمان انى لست مجرما او تاجر مخدرات او سارقا او متهما فى جناية قتل لكنهما مأموران ان يفعلا هذا فاستأذننى الضابطان فى ان ارتدى ملابسى وانزل معهما.. الى اين؟؟ “والله مانعرفش” هكذا كانت اجابتهما!! وارتديت ملابسى بسرعة واخذت حقيبة صغيرة فيها بعض ملابسى الخفيفة وذهبت الى مديرية امن الاسكندرية وهناك انتظرت اربع ساعات حتى اشرقت الشمس واعدوا لى “سيارة جيب” لم يكن فيها كرسى واحد وعندما هبطت درجات سلم المديرية تقدم عسكرى منى ووضع فى يدى “الكلابش الحديد” فانتهرته فتشفع لى الضابطان وحرمانى التشبه “ببولس الرسول” الذى وضعت فى يديه السلاسل.
وفى الساعة العاشرة بدأنا مع العسكر رحلتنا فقلت الى اين ياجماعة؟ ولكن بلا جواب.. ودخلنا مشارف القاهرة تتقدمنى سيارة “بوليس النجدة” وورائى سيارة امن مركزى، وكأنى الملك فاروق فى زمانه لاتنقصنى سوى المتوسكلات والهتافات!! وكل قليل اسأل رفقائى العسكر “على فين ياجماعة؟! ولا جواب!! واخيرا قال لى احدهم بصوت هامس “ياعم ده مش انت بس.. ده ودينا كتير زيك امبارح والنهاردة” واشار الى لحيته، ففهمت ان كثيرين من ذوى اللحى الكهنة سبقونى فتعزيت وعندما وصلنا “المرج” لمحت لافتة كبيرة على الباب: سجن المرج
وعند الباب لمحنى رجل عملاق فابتسم ابتسامة شماتة وقال لى فى صوته الاجش “اهلا.. هو انت شرفت؟” ووضع ذراعه القوى يتأبط ذراعى الضعيف وتوجه بى نحو غرفة “المأمور” وهناك فتشنى ولاول مرة ادخل السجن وافهم التفتيش، حيث خلعوا “جوربى” من حذائى فظننت انهم “سيمدونى علقة” على رجلى ولكنهم قصدوا مجرد التفتيش لئلا اكون قد اخفيت مطواة او “قرن غزال” شأن المجرمين فحكمت على نفسى بالغباوة لانى لم أعرف نظام السجون!
زنزانة رقم 11
وبعد التفتيش والذى منه سمعت صوت العملاق الاجش يصرخ ويقول “يالله زنزانة 11”
وسمعت اسماء اساقفة وكهنة كان بعضهم قد سبقنى والبعض الاخر لحق بى الى السجن.. واشهد اننى طوال دراستى للتاريخ الكنسى لم اعثر على حدث مثل هذا وكانت الكاتبة “صافيناز كاظم” قد نشرت مقالاً فى احدى الصحف سجلت فيه ان ما حدث للبابا وللاساقفة وللكهنة لم يحدث منذ 1400 سنة.
وهكذا نرى المطارنة والاساقفة والكهنة وكبار الشعب يساقون الى السجون والزنازين وكأنهم من المجرمين الخطرين!!
رأينا “الانبا بنيامين” اسقف المنوفية وهو “بلديات” الرئيس وكم حسدناه على انه “هيئة سياسية” -وهذا الانبا بيمن اسقف ملوى الراحل وقد كان دائما فى مقدمة الاصدقاء لرجال الدولة وهذا “الانبا بيشوى” اسقف دمياط وكان اسقفا مرموقا لانه الابن البكر لقداسة البابا وهذا “الانبا فام” اسقف طما ولم يكن قد مضى على رسامته شهور، وهذا “الانبا ويصا” اسقف البلينا- وهذا “الانبا امونيوس” اسقف الاقصر وهذا “الانبا بموا” اسقف الاديرة القبلية، الرجل الذى لم يكن له فى السياسة ناقة ولا جمل والذى عقدت حوله الروايات والحكايات – واخر زبون يشرف الزنازين كان “الانبا تادرس” اسقف بورسعيد وقد كان فى تلك الفترة فى قبرص وهناك علم بأمر القبض عليه وحاول ابناؤه ابقاءه فى قبرص او رحيله الى امريكا التى كان يعمل فيها لسنوات ولكنه ابى الهروب مفضلاً بالاحرى ان يذل مع شعب الله على ان يكون له تمتع وقتى فى قبرص او فى امريكا، وهذه رواية قصها علينا الاب المحبوب القمص بيشوى غبريال راعى لوس انجيلوس.
ومن الطرائف ايضا ان احد العلمانيين الذين كانوا معنا الصحفى “سمير تادرس” وكان قد اختار موقعه فى رأس الزنازين بالقرب من باب السجن ليتخاطب من “شرفة” زنزانته ” – الزنزانة رقم 1″ وتقع على مدخل السجن مع الزنزانة رقم 8 وهى الخاصة “ب د.ميلاد حنا” المناضل الشجاع الذى ادخلوه معنا على سبيل الخطأ لانه احد رجال السياسة ولكن نظروا اليه كقبطى فقط لم يفطنوا الى موقعه السياسى ولو انهم تنبهوا الى ذلك بعد حين!! فخسرنا صحبته الجميلة مدة من الزمان!!
برج المراقبه والاذاعة
كان “سمير تادرس” فى موقع “برج المراقبة” وهو سجين مخضرم له “سوابق كثيرة” فى السجون ولكننا نحن “مساجين كورك” اى “طاظة” حديثى العهد بالسجون فكان “سمير” كل حين يذيع الاخبار علينا من شرفة زنزانته ولايظن القارئ ان الزنزانة لها شرفة كلا يااخى فشرفة الزنزانه اقصد بها “النافذة” ولاتظن ايضا ان للزنزانة نافذة كنافذة الحجرات فى بيوتنا كلا انها “فتحة” مساحتها 10 x 10 سنتمتر مربع هى كل متنفس الحجرة وزنزانتى بهذه المناسبة كانت محظوظة لان رفيقى فيها كان الزميل “القمص باسليوس سدراك” كاهن المنيا وهو طويل عملاق فاتفقنا معه على ان يشتم لنا الهواء من “الفتحة” العالية اما انا فيمكننى ان اتنفس من “عقب الباب” فكنت انبطح على الارض واتلقى الهواء العليل من ذلك المكان الجميل!!
تعارف مع مأمور السجن
وبمناسبة الطول والقصر فهناك فصل طريف وهو مرور “محمود الجميل” مأمور السجن مع بعض الضباط علينا للتعارف فى اول اسبوع فوقف كل سجين امام باب زنزانته لاستقبال هؤلاء فعندما وصل المأمور ورفاقه الينا قدمت نفسى “القمص بولس باسيلى” قالوا “اهلا وسهلا.. عضو مجلس الشعب؟” قلت نعم واما زميلى العملاق فقد قدم نفسه باسمه وبلدته “المنيا” فقال المأمور “يعنى تبع الانبا بيمن؟” قال له “لا مطران تانى وهو الانبا ارسانيوس” فقال المأمور “وده مجاش ليه معاكم؟” فقال ابونا “اصله ياافندم مطراننا قصير وانا اطول منه مرتين.. وهمه بياخدوا بالطول” فضحك المأمور واخذ يحكى هذه القصه على كل الضباط للتفكهه والترفيه وكان لهذا الجواب مغزى اى مغزى!! (اذ لم يعرف الكثيرون سببا لاعتقالهم)
معاملة طيبة حقا
وبالمناسة فلا ننسى ان نسجل كلمة شكر واشادة بمعاملة العميد محمود الجميل مأمور السجن فقد كان لطيفا معنا يحس احساسنا ويتفهم ظروفنا وموقفنا وقد اكتشفنا اخيراً ان السيدة حرمه وهى طبيبة فاضلة كان لها زميلات طبيبات مسيحيات.
اما طبيب السجن الدكتور مجدى فقد كان لطيفا وكان قد اتفق معى سرا ان يعطينى فرصة اطول من الربع ساعة فى طابور الصباح بل اكثر من ذلك سمح لى بطابور آخر فى المساء مع بعض المرضى امثالى ولكنه على سبيل الخطأ غير المقصود بالطبع كان قد اعطانى “علبة اشرطة اختبار” اقيس بها درجة السكرى عندى ولكنها غير فعالة فكنت اطمئن ولا اتعاطى ادوية السكر الى ان فاجأنى السكر بغيبوبة خطيرة سقطت على اثرها فى السجن مغشيا على وقد بلغت درجته فى الدم عندى 520 بحسب التقرير الطبى وامتلأ جسدى بالاسيتون حتى ان نيافة الانبا بشوى اسقف دمياط قال لى بعد ذلك “لقد كنت اشتم رائحة الاسينون تتصاعد من فمك!!” وحملت بسرعة الى مستشفى القصر العينى “عنبر 14” الخاص بالمقبوض عليهم –عفوا- المتحفظ عليهم!! وبعد حملى الى المستشفى علمت ان الزملاء جميعا وقفوا يصلون فى ساحة السجن من اجلى والدموع تطفر من عيونهم ظانين انهم قد لايرون وجهى بعد!!
دخلت الانعاش واستمريت فيه نحو العشرة الايام اعالج واصارع الموت وكانت “مباحث امن الدولة” تسأل عنى تليفونياً يومياً وتتوقع الموت لى بين الساعة والاخرى وتخشى من ذلك لئلا يفسر هذا وخصوصا بالنسبة لى تفسيرات لا ترضاها سيما وانه قد مات فى السجن منذ ايام الوزير السابق عبد العظيم ابو العطا رحمه الله.
ذكرياتى فى السجن
لقد تحول السجن الى كنيسة فالصلوات السبع اليومية تتم فى مواقيتها تماما “وطابور الصباح” للرياضة يقوم به احد ابنائنا المعتقلين معنا وكان مدرسا للالعاب الرياضية وكان الاخ د. ميلاد حنا بين الحين والحين يقدم لنا استعراضات لعضلاته، وينوب عن المدرس المذكور فى بعض الاوقات!!
وانقلب السجن ايضا الى كلية اكليريكية فأقوم شخصيا بالوعظ يوميا ويقدم المتنيح الانبا بيمن تفسيراته لرسائل بولس الرسائل التى كتبها فى السجن والانبا بيشوى يدرس الكتاب المقدس فى العهد القديم مع القمص تادرس يعقوب والانبا فام بتدريس التسبحة والالحان والقمص ابراهيم عبده بتعليم الترانيم.
ومن العجيب اننا قمنا بصلوات قداسات ليلة الميلاد وليلة الغطاس وكانت هذه اخر ليلة اشارك فيها وافارق بعدها “سجن المرج” الى “القصر العينى” وهكذا كانت قداسات تاريخية تحدث لاول مرة فى تاريخ الكنيسة ويصلى فيها 8 اساقفة و 42 كاهناً والباقى من العلمانيين اشتركوا كشمامسة واما “الشعب” فكانوا المساجين المسيحيين الذين عليهم احكام وعقوبات مختلفة فقد استأذنا مأمور السجن فى ان نستدعيهم ليعيدوا معنا ليالى الاعياد ويعترفوا بذنوبهم ويتناولوا من الاسرار المقدسة.
وايضا رسمنا شمامسة فى السجن الدكتور نبيل طبيب من سوهاج والاستاذ عبد المسيح مدرس من بنها نالا درجات شماسيه بل وفى السجن ايضا تلقينا انباء عن “حادث سعيد” للقمص صموئيل ثابت واخر للقمص ابراهيم عبده حيث وضعت زوجة كل منهما ولدا وهما فى السجن فتلقينا هذه الانباء السعيدة مع صور المولودين السعيدين واقمنا لهما حفل “السبوع” واشعلنا بعض الشموع التى استحضرها لنا الابن الشهم الاستاذ جرجس مندوب اسقفية الخدمات الذى تعب كثيرا معنا وهون كثيرا علينا!!
الطاولة .. والشطرنج
وكما قال الكتاب المقدس “افعلوا هذا ولاتتركوا تلك” فالى جانب الصلوات والتأملات المنتظمة لم ينس الانبا ويصا “لعبة الشطرنج” المفضلة عنده والتى كان “الشامبيون” فيها مع جميع الذين لعبوها معه فى السجن بلا منازع!!
واما الطاولة فكان استاذنا بلا منافس القمص لوقا سيداروس واشهد انه اتعبنى كثيرا وحيرنى فى هذه اللعبة التى انتصر فيها كثيرا على وعلى كثيرين امثال القمص ابراهيم عبده والقمص صرابمون عبده فمع القمص لوقا لافائدة من الاجتهاد والمحاولات حتى اننى حسبته محترفا فيها !!
ترقية من السجن الى الليمان!!
وعندما نقلنا من سجن المرج الى “ليمان وادى النطرون” – والحقيقة كانت هذه “ترقية” لنا.. فالليمان اعظم مركزاً من السجن – ونحن كنا قد انهينا حوالى شهر ونصف فى المرج وخشيت الحكومة ان يهجم علينا احد فيقتلنا جميعاً كما حدث فى الهجوم على الامن المركزى بأسيوط لذلك نقلونا الى مركز اعظم حراسة من المرج وفى ساعة متأخرة من الليل ركبنا “لورى” المساجين المحكم الغلق الى اين لانعلم ولامأمور السجن يعلم- كما اقسم لنا- الله وحده هو الذى يعلم .. واخذت السيارة تنهب بنا الارض نهبا فى جنح الظلام الى ان رست عند لافتة كبيرة تقول “ليمان وادى النطرون” ونشهد ان الحال هناك كان افضل بكثير مما كنا عليه فبدل “البرش” والاسفلت ارتقينا على اسرة من حديد كل سرير له ثلاثة ادوار وكان الدور الذى فى وسط السرير فوقه اسقف وتحته اسقف وانا بين اسقفين واحمد الله اننى لم اكن بين نارين ففى السجن لم يكن هناك فارق بين اسقف او قس او علمانى فالحق ان الاساقفة الثمانية كانوا على قدر كبير من التفهم والوعى فهم يقدرون ظروفنا جميعا ويتعاملون معنا الند بالند “ومفيش حد احسن من حد!!”
كبير الضباط يرحب بنا
وبعد ثلاثة ايام ونحن فى الليمان فوجئنا بكبير ضباط مصلحة السجون جاء يزورنا ويطمئن علينا فعندما وصل الى العنبر رآنا نصلى فانتظر فى المكتب الى ان انتهينا من الصلاة ثم تقدم ليحينا “اهلا.. اهلا.. شرفتوا المكان.. اى خدمة .. احنا كلنا فى خدمتكم.. اى استفسار او اى شكوى!!”
وهنا سأل احد العلمانيين سيادة اللواء “لو سمحت سعادتك عاوزين نعرف امتى الافراج؟؟”
اجاب المدير “والنبى يا سيد انا نفسى ما اعرفش” ولا اى حد يعرف.. ومع ذلك انا جيت لقيتكم بتصلوا.. صلوا.. ياتقلبوها زى ماقلبتوها، ياتعدلوها!! وكان هذا الكلام ذا مغزى لان السادات كان منذ ايام قليلة قد مات (برصاص مغتاليه)
من المآمور.. الى البواب!!
ومن ذكرياتى التى لن تنسى اننا منذ دخلنا “المرج” ونحن نصلى كل صباح ونسجد 400 سجدة بصوت منتظم يدوى بين رحبات الزنازين ونحن نقول ” كيرياليصون كيرياليصون” فكانت الصرخات تزعزع اعمدة السجن بشهادة مأمور السجن الذى جاءنا يوما يقول “ايه اللى بتقولوه ده؟ ايه يعنى سون سون؟!!” فقلنا له هذه كلمات يونانية معناها “يارب ارحم” وهنا شهد الشهادة التاريخية “انا باحس ان السجن بيزلزل.. على مهلكم شويه ياجماعة” والمأمور الواعى يعلم ان صرخة الانسان المظلوم كالصاروخ تصل الى علياء السماء تصرخ من ظلم الانسان لاخيه الانسان- وبعد حادث المنصة جاءنا يتبسط فى الحديث ويقول “والنبى انا خايف على روحى انا كمان!! ياجماعة ان كان حد سمع منى كلمة وحشه يقولى!! ابدا ياسيادة العميد.
ونشهد مرة اخرى أن معاملة السيد المأمور وجميع اجهزة السجن كانت معاملة طيبة فالحراس يقولون لنا “احنا عمرنا مشفناش زباين زيكم ابدا” وكانوا كلما يصدر قرار بالافراج عن اثنين ثلاثة يتألمون لانهم كانوا يريدوننا محبوسين “تأبيدة” وصدق من قال “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
4 كتب فى السجن
ورغم ان دخول الاوراق والاقلام الى المساجين ممنوعة الا انها كانت تدخل الينا ومراقبو السجن كانوا يتجاوزون عن القوانين ويسمحون لنا بها ولذلك استطعت بنعمة الله ان استغل اوقات فراغى فى السجن واضع النقاط الرئيسية لاربعة مؤلفات قمت بطبعها بمجرد الافراج عنى وومارسة نشاطى الروحى والاجتماعى والثقافى (من بين هذه الكتب كتاب “الاقباط وطنية وتاريخ” وكتاب “انت اخى وانا احبك” عن المحبة وعلاقات الود التى يجب توفرها بين ابناء الوطن الواحد والانسانية جمعاء.)
— — — — —
كانت هذه بعض ذكريات القمص بولس باسيلى عن تلك الفترة المؤلمة فى تاريخ مصر الحديث وهى فترة ماتزال آثارها المدمرة تنهش روح مصر الى اليوم حيث تنفجر بين الحين والحين احداث يطلق عليها صفة “الفتنة الطائفية” لم تعالج حتى اليوم علاجا جذريا يحفظ امن مصر ووحدتها الداخلية ويجنبها اخطار الانقسام الداخلى والاطماع الخارجية.. اذ كانت التهمة الموجهة للقمص باسيلى والتى القى بموجبها فى السجن دون محاكمة هى الرد على الاتهامات والتهجمات المتلاحقة التى كان يوجهها الشيخ الشعراوى للأقباط ومعتقداتهم كل اسبوع فى تلفزيون الدولة والتى كانت تثير غضب الاقباط وشعورهم بالاضطهاد فى وطنهم. وللأسف استمر هذا الوضع بعد السادات مع زيادة التشدد الدينى للمجتمع المصرى بما يقرب من حالة الهوس الجماعى.
وفى مقدمة ديوانى الشعرى “تهليلات ايزيس” كتبت عن زيارتى لوالدى فى السجن مايلى:
ويدخل الشاعر من باب سجن الى باب سجن ليصل فى النهاية الى حجرة صغيرة يرقد فيها والده المسن طريح الفراش فيرى الرجل الذي علمه الوطنية راقداً، بينما يجلس بجواره حارس مسلح يطل المسدس من جرابه، وكأن والده الذي طالما دافع عن الوطن ووحدته الوطنية، كأنه اخطر الخطرين وأشقى الأشقياء، فيتمزق قلب الشاعر حزناً على وطن لا يعرف عدوه من صديقه، يبطش بالحبيب والقريب، فيما هو عاجز أمام العدو والغريب، ويتأبط الشاعر ذراع والده المنهك بعد أن سمح لهما الحارس بالتجوال المحدود تحت عينه المراقبة فيشعر وكأنه يتأبط ذراع وطنه المتعب المتهالك الذي وصل أمر تخبطه وقتها إلى حد وضع كثير من ابنائة المخلصين في السجون.
*كاتب و شاعر من مصر يقيم في نيويورك
fbasili@gmail.com
مصر من الوحدة الوطنية الى الفتنة الطائفية: ليلة القبض على ابونا بولس باسيلي
Mr. Basili,
Thanks a lot for sharing some parts of your father’s book, I did enjoy it a lot