مئات من الغزاويات المنقبات يضغطن بقوة العقيدة والقهر على بوابة رفح المصرية، بعد ستة اشهر من الحصار. قناة «الجزيرة» تتابعهن لحظة بلحظة… لايف. على الجانب الآخر البعيد، عشرات التظاهرات الاخوانية تجول شوارع القاهرة مطالِبةً بفك الحصار عن غزة وفتح الحدود وابواب الجهاد.
الرئيس المصري يأمر بفتح ابواب رفح لأسباب انسانية. الجماهير الغزاوية تنفلت من عقالها بعد القرار. هرج ومرج، فوضى عارمة ومبتهجة واموال يحملها الانفار لشراء اي شيء وكل شيىء. وشخصيات مصرية معروفة بمعارضتها للنظام تهرع الى غزة، الى مكاتب الحكومة الحماسية خصوصاً، تلتقط الصور مع اسماعيل هنية وتكتب له أرقّ الكلمات عن القضية وفلسطين الأيقونة والتاريخ المشترك والسلام المزيف الخ. وتغطية اعلامية صاخبة عن مساعدات لا يسمح لها بالوصول الى مستحقيها… يقدمها شخصيات ونجوم وطبعا التنظيمات النقابية لـ»الإخوان المسلمين». وهؤلاء يستمرون بالتظاهر بالرغم من القرار الرسمي بفتح بوابة رفح…
يومان او ثلاثة، والحكومة تعلن عن إغلاق البوابة، مؤقتا، ريثما يتم الاتفاق على آلية لتشغيلها. ثلاثة ايام لا تكفي لإكتمال ضربة المعلم الحماسية: ملثّمون يفجّرون كذا نقطة حدودية بين غزة ومصر، لتعود الحشود الفوضوية وتجتاح رفح والعريش. الصدام في هذه الحالة حتمي: صور واخبار عن اشتباكات بين قوات الامن المصرية و»ناشطين» بالحجارة وبالرصاص… قتيل فلسطيني وعشرات الجرحى من قوات الامن المصري. يعلو الصراخ… ويسمي البعض هذه الواقعة «الانتفاضة الثالثة». حقاً… لا تبدو هذه الواقعة عفوية.
بعد ذلك، دعوات للتهدئة والحوار. الحكومة المصرية ومسوؤلون من «حماس» يتباحثون حول آلية ضبط المعبر. تصريحات حماسية توحي باتفاقها مع مصر على اشراف حماس عليه. نفي مصري، وتوضيح بأن المعبر يجب ان يخضع لإتفاق 2005 حيث السلطة (ابو مازن) والمجموعة الاوروبية مع مراقبة اسرائيلية عن بعيد. «حماس» ترفض طبعاً. والاخذ والرد ما زال جارياً…
لكن في هذه الاثناء، وبعيدها تماما، السجال الوطني المصري إندلع. والانقسام بدأت ترتسم ملامحه حول: مقاومة او سلام.
«الاخوان المسلمون» يتصدّرون الخط الاول وينظّرون له، ويحشدون ويعبئون من اجله. والصيغة باتت معروفة: فالقرار المصري إما «ان يكون في صالح مصر وفلسطين بتقوية الصمود والمقاومة (…) ضد الخطط الصهيونية الرامية الى تركيع فلسطين ومصر والامة العربية». وإما ان «يكون الاستسلام لتلك المخططات والرضا بالفتات واللهاث وراء السراب الاميركي…».
ويقف خلف «الاخوان» الناصريون والقوميون وبعض اليساريين، مع نخبهم. على درجات متفاوتة من الرفض لإتفاقية كامب دافيد. بين مُطالب بتعديلها ومطالب بالغائها نهائيا وفتح باب الجهاد.
والحجج تزخر في هذا المعسكر: الدواعي الانسانية لفتح الحدود، قداسة القضية، الاطماع الاسرائيلية في سيناء، «الدور المصري» الذي ضاع منذ عزل مصر عن العرب اثر اتفاقية السلام، قيود اتفاقية السلام، استعادة الدور المصري التاريخي الفاعل في القضية الفلسطينية، ضرورة بذل المزيد من اجلها… مع دخول مباشر في خط الانقسام الوطني الفلسطيني نفسه واتخاذ موقف صريح مع احد اطرافه: «فريق رام الله بقيادة عباس الذي القى بثقله في الصف الصهيوني الاميركي…» والذي «يضع شروطا مستحيلة لاجراء حوار وطني ومصالحة فلسطينية» الخ.
واكثر حجج الدفاع دلالة عن نوع هذا التلاحم مع «حماس»، تلك المقارنة بين النظام المصري والنظام الايراني: «نختلف مع بعض التوجهات الايرانية في العراق وفي عربستان (…) ولكن ألا تكفي المقارنة بين تجربة في التداول الديموقراطي في ايران سمحت بصعود ستة رؤساء، في نفس المدة التي حكم فيها السيد الرئيس واشقاؤه من الحكام العرب؟».
السلطة السياسية وبعض حزب «الوفد» الليبرالي وكذلك شخصيات وصحافيون مستقلون ليبراليون على اختلاف مواقعهم ومواقفهم يشكّلون «المعسكر» النقيض، الداعي الى عدم توريط مصر في الصراع واقفال باب»ساحته». واولوية اولوياته الامن القومي المصري. اما براهينه وحججه فهي ايضا زاخرة: التضحيات الكافية التي بذلتها مصر من اجل القصية الفلسطينية. التذكير بأن عبد الناصر نفسه كان مع مشروع روجرز وقرار 242 الدولي. التذكير بايلول الاسود في الاردن، وبدخول المنظمات الفلسطينية الى لبنان. طموح اسرائيل و»حماس» بسيناء في آن معا. التجاوزات الفلسطينية على المعبر. الدولارات المزيفة. تفريغ العريش من مواده الغذائية. تسلّل ارهابيين من المعبر الى عمق الاراضي المصرية.
انه انقسام وطني حول قضية وطنية ما زال في بدايته. وهو انقسام مرشح للتفاقم اذا لم تحلّ مسألة المعابر بين غزة وبين العالم، ومسألة محاصرة غزة. ولا يبدو في المدى المنظور انها سائرة نحو الحل. والبشائر جاهزة: اغتيالات اسرائيلية متسلسلة ضد الغزاويين، عملية ديمونة الانتحارية، انهمار الصواريخ مجددا على سديروت. وكلها مؤشرات الى المستقبل القريب.
قد يكون هذا الانقسام هو نصيب مصر من الزلزال الحاصل في المنطقة. العراق، لبنان، فلسطين… والآن مصر. هذا التشابك لم يغبْ عن ذهن معلق، يكتب عن إقتحام الحدود المصرية الغزية، وتحت عنوان «سورية لمصر: سيبكم من (اتركوا) لبنان… ومصر تردّ: لا يجوز التآمر مع حماس لإقتحام الحدود مع سيناء»، اذ يخلص الى «ان سورية تتحفّظ على الدور المصري في لبنان. ومصر تعتقد ان سورية لها يد في دفع حماس الى اقتحام الحدود المصرية. وكأنها تقول لمصر، سيبوا لبنان، نسيب سيناء، ومع وجود طرف ثالث ايران». (اسبوعية الفجر. 11-22-2008).
اي اننا بإزاء واقعة مطلوب من مصر الإجابة عنها وبسرعة. هل مصر مع احد المشروعين المتصارعين في المنطقة، الايراني-الاسلامي والاميركي؟ هل تملك مصر الوقت الكافي، الموارد الكافية، الطاقة الكافية لرسم تفاصيل موقفها من هذا الصراع؟ أو لرسم دورها الجديد؟ ام ان الوقت يداهمها؟ فتكتفي بالإنقسام على نفسها، وتدخل على خط الزلزال بعنوان واحد: مع المقاومة أو ضدها؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة