مع نهاية الشهر الحالى، نوفمبر 2010 تجرى فى مصر انتخابات مجلس الشعب، وفى مطلع نفس هذا الشهر فى 2 نوفمبر، جرت انتخابات الكونجرس الأمريكي، هذه وتلك الانتخابات التى يفصل بينها أقل من شهر، تفصل بينها فى واقع الأمر مئات السنوات من التقاليد الديموقراطية التى عرفتها الولايات المتحدة، والغرب بشكل عام، ولم تعرفها مصر أو أية دولة عربية أخرى، والفروق بين هذه وتلك هائلة. يمكن تلخيصها فى أنها الفرق بين الجد والهزل- أو بين الواقع الحقيقي والفانتازيا، فالانتخابات الأمريكية كانت تعبيرا صادقا ودقيقا عن رغبة الملايين من الناخبين الذين لم يدفع أحد لأحد منهم لكي يذهب للإنتخاب، ولم يمنع أحد أحد ا منهم من الترشيح أو حتى من الوصول إلى أماكن الاقتراع للادلاء بصوته.
والنتيجة فى الانتخابات الافتراضية التى ستجرى فى مصر محسومة ومعروفة سلفا، والتغير الوحيد والمؤكد الذى ستحققه هو مزيد من التوسع والتغول للحزب الوطنى الحاكم وتقليص لعدد من معارضيه من كافة الطوائف، وأساليب الحصول على هذه النتيجة قسرا قديمة ومعروفة ومعتادة، وتقول كافة الاحزاب المعارضة الرئيسية أن التزوير فى انتخابات مجلس الشورى السابقة هذا العام كان عريضا وفجا، ولا يتوقع أحد أن يختلف الأمر كثيرا فى انتخابات مجلس الشعب.
فى النهاية فإن ما يحدث هو مسرحية لمسرح العرائس، تتحرك فيها كل الدمى حسب رغبة الممسك بخيوطها من وراء الستار. لتظهر أمام الجميع مؤدية أدوارها المرسومة لكى يضحك بعض الحضور ويبكى بعضهم الآخر ،وكم فيك يا مصر من مضحكات، ولكنه ضحك كالبكا.
الواقع الراسخ وراء كل هذا الجهد الضائع فيما يسمى بالإنتخابات أن مصر ماتزال دولة فرعونية تدار بنفس الأسلوب الذى كانت تدار به أول دولة فى تاريخ البشرية والتى أسسها الفراعنة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، فقد أسسوا دولة مركزية قوية تحكم وادى النيل جنوبا وشمالا من نقطة واحدة ومن قصر واحد فى ممفيس – القاهرة الآن- ويحكمها فرعون واحد هو نصف إله – وأحيانا يرفع نفسه إلى مرتبة إله كامل متوحد مع رع ومع الشمس والأرض والنيل، ولا يعرف رعاياه فرقا كبيرا بين الخضوع للفرعون والتعبد للإله هذا أو ذاك من آلهة المصريين القدماء. فالفرعون – سواء كان هو صوت الإله وظله على الأرض، أو كان الإله بشحمه ولحمه وروحه التى لا تفنى- فالمصريون هم مبتكرو فكرة الأبدية والخلود التى لم يعرفها قبلهم بشر، فالأمر فى النهاية واحد فليس على المصرى سوى تقديم فروض الطاعة والخشوع والتقديس والتآليه للفرعون المالك للأرض ومن عليها، وهكذا ترسخت فكرة العبودية للفرعون فى الوجدان المصرى عبر آلاف السنين ومن جيل لجيل، ومنذ نصف قرن فقط كان الملك فاروق – أخر ملوك مصر- يخاطب المصريين قائلا: شعبى العزيز! إنهم شعبه ورثهم جميعا حلالا بلالا أبا عن جد. فهو الذى يمنحهم حق البقاء ويهبهم هويتهم وقوتهم وآمنهم.
وماتزال مصر فرعونية إلى اليوم، مازالت تدار بمركزية بالغة الثقل والترهل وبيروقراطية شاهقة الخمول واللامبالاة والاستغراق تحت أكوام القمامة بوجوه لا تتحرك حتى لهش الذباب الذى يحط عليها. وماتزال دولة الثمانين مليونا تدار بالتليفون، كما قال أيمن نور حينما وجد نفسه مطلق السراح من سجنه فجأة بلا مقدمات ولا أوراق ولا إجراءات. فعرف أن مصر تدار بالتليفون. وهو ما يعرفه المصريون البسطاء بالسليقة وبخبرة خمسة آلاف عام لذلك يأثرون السلامة دائما بامتداح الفرعون أو الملك أو الرئيس أو حتى رئيس المصلحة الحكومية أو الضابط الذى يصادفهم فى الطريق ويلقبونه اليوم بالباشا! هى إذن انتخابات وهمية لم تفرزها ديمقراطية ولن تفرز هى الديمقراطية وإنما هى مجرد استعراض لموكب الفرعون الخارج من قصره للتجول فى عاصمة ملكه ثم العودة للقصر من جديد بعد أن يخرج الآلاف للاشتراك فى الاستعراض المحفلى الكريم، هاتفين راقصين مادحين مرتلين تقودهم جوقة من المطبلين والمزمرين أعضاء فريق الإنشاد والمدح الملكى الخاص.
الحزن الوطنى!
المصرى الذى لم يستطع عبر أكثر من خمسة آلاف سنة أن يتوصل إلى آلية يغير بها الفرعون يلجأ إلى سلاحه الوحيد الذى أجاده إلى حد البراعة والتفرد وهو السخرية والدعابة لكى يعبر بها عن رأيه الحقيقى فيما يحدث، لذلك نراه يطلق على الحزب الوطنى الديمقراطى إسم “الحزن الوطنى” فإذا فى هذه اللفتة البسيطة العبقرية التى قوامها نقطة واحدة غيرت من موقعها، إذا به يمزج سخريته بحزنه العميق لأجل قلة حيلته أمام الكوميديا الدائرة أمامه وحوله بلا أمل فى نهاية، فإذا ما تذكرنا أن الحزب الوطنى هذا كان قد أسسه الرئيس أنور السادات بجرة قلم وهو فى أعلى السلطة فهرع للإنتماء إلى دفئه مئات الآلاف من المصريين الذين يفهمونها “وهى طايرة” لكى يكون لهم من عطايا ورضا الرئاسة نصيب! إنه الحزن الوطنى لأنه حزب قد هبط على رؤوس الأنعام من عل، فهو يعبر عن رغبة الرئيس وليس رغبتهم هم، والغريب حقا أنه لم يقم أى معارض مصرى حتى اليوم بالطعن فى شرعية الحزب الوطنى، فإية شرعية لحزب يؤسسه رئيس الدولة وهو فى السلطة؟!
لذلك كله كانت دهشتى بالغة وأنا أستمع للسيد جمال مبارك أمين لجنة السياسات بالحزب الوطنى وهو يشرح علي مدى يقرب من الساعتين برنامج الحزب الذى ينزل به للانتخابات هذا الشهر. والحقيقة أن حديث السيد جمال مبارك كان مليئا بالمعلومات التفصيلية عن كافة الجوانب المتعلقة ببرنامج الحزب. وكان حديثه مدعما بالأرقام والإحصائيات وبالمنطق الذى لا يبدو عليه أى غبار، وكان يمسك بيده ببرنامج الحزب مطبوعا بغلاف أنيق. وللحزب شعار يطلقه لم أتأكد إن كان ما يزال هو “من أجل مستقبل أولادك “، وكان جمال مبارك يبدو مخلصا وهو يدافع عن برنامج الحزب وخططه المستقبلية وسياساته الجديدة التى استحدثها- كما قال- منذ ما قبل الدورة الحالية، وتحدث عنها باعتبارها فكرا جديدا يطرح لأول مرة فى الحياة السياسية المصرية.
كدت أمام هذا الحديث المفصل الموثق المدعم بالأرقام أن أنسى أن هذا الحديث كله عن مصر وعن الحياة السياسية المصرية، ويبدو أن مقدم البرنامج خيري رمضان قد ساورته نفس المشاعر فتساءل: ولكن هناك من يقول أن مثل هذه البرامج الانتخابية الأنيقة قد تكون فاعلة وذات معنى فى أوروبا وأمريكا – ولكننا هنا فى مصر: فهل لهذه البرامج علاقة بحياة المصريين حقا؟ ودافع جمال مبارك عن البرنامج الذى وضعته لجنة السياسات باعتبار أن هذا هو الأسلوب الجديد الذى تحتاجه مصر، وقد حاول المذيع أكثر من مرة أن يسأل جمال مبارك عن شعوره نحو المصريين الفقراء الذين لا تشاركهم الجماعات الحاكمة هموم معيشتهم، فيجيب جمال مبارك بأن البرنامج الحزبى هو الحل.
لم يسأله مقدم البرنامج عن شرعية حزب تأسس بطريقة غير شرعية! لم يسأله عن معنى الانتخابات ومعنى الديمقراطية فى نظام يتحكم فيه الحزب الحاكم ورموزه فى إصدر صكوك المنع و المنح لأى حزب جديد يريد أن يؤسس نفسه من القاعدة الشعبية التحتية! لم يسأله عن معنى وعن مصداقية نظام قديم يحكم من ثلاثين سنة حين يتحدث عن فكر جديد وأسلوب جديد؟ من المسئول إذن عن الفكر القديم الذى أوصل مصر إلى مصاف جمهوريات الموز والمشمش؟!
إن أداء لجنة السياسات، فى حد ذاته، قد يكون معقولا باعتبارها لجنة مهمتها هى التنظير والتخطيط للبرامج التى يريد الحزب تحقيقها، كما أن أداء السيد جمال مبارك نفسه – وهذه أول مرة نراه فيها فى حديث طويل به أخذ ورد وليس من وراء منصة الحزب فى مؤتمراته السابقة – قد يكون جيدا فى حدود إحاطته بما فى البرنامج من معلومات وخطط وأرقام وآليات، ولكن الإفراط الذى شاهدته فى التعويل على مثل هذه البرامج، والاستغراق فى تفاصيلها وأرقامها البيانية بشكل يكاد أن يكون معزولا عن الواقع الشديد البؤس لقطاعات هائلة من المصريين اليوم وفي معزل أيضا عن الواقع غير الديمقراطى الذى ترزح تحته الحياة السياسية المصرية برمتها، يجعلنى شديد القلق على مستقبل مصر، فمادام السيد جمال مبارك مهتما إلى هذا الحد بأليات العمل الحزبى الديمقراطى فالأولى به أن يطالب بحل الحزب الوطنى وفتح المجال أمام أحزاب جديدة دون دخول رموز النظام الحالى إلى أى من هذه الأحزاب حتى تتكون قاعدة حزبية شعبية سليمة تكون هى نواة الديموقراطية الحقيقية التى يطمح لها المصريون اليوم.
حزب الوفد وخيانة التاريخ!
هو حزب ينفرد بتاريخ وطنى باهر بلا شك، ولكنه حزب يخون تاريخه، فقد رأيناه فى العقدين الآخيرين يفقد بوصلته، فيتحالف يوما مع جماعة الأخوان، وهو الحزب الليبرالى العلمانى الذى كان لرئيسه مصطفى النحاس يوما موقفا شهيرا مع الشيخ حسن البنا، طالبه فيه بشكل حاد وواضح بأن يبتعد عن السياسة ولا يخلطها بالدعوة الدينية، ثم رأينا رئيس حزب الوفد مؤخرا يلعب دورا بالغ الخطل ، حين ذهب السيد البدوى وشارك فى شراء جريدة الدستور وطرد رئيس تحريرها المعارض القوى إبراهيم عيسى ليقضى بذلك على أحد أهم منابر المعارضة السياسية، فيما هو يرأس حزبا يدعى أنه حزب معارض، مما يؤكد مخاوف البعض من وجود صفقة بين الحزب الحاكم وحزب الوفد يجنى بمقتضاها الوفد بعض المقاعد فى مجلس الشعب مقابل القضاء على المعارضة الحقيقة التى كان يمكن أن يقوم بها حزب له مثل هذا التاريخ الزاهى والقاعدة الشعبية العريضة، ولكن من مأسى الواقع السياسى الراهن أن الحزب الوطنى لايكتفى بأنه يملك كل شئ ولكنه يمنع الأحزب الأخرى من لعب أى دور فعال، فى حالة من الجشع السياسي الذى يعترى من يسكر بنشوة السلطة الجامحة التى لا ترى سوى نفسها فى المرآة فتروح تعزف على قيثارة ولهها بذاتها بينما روما تحترق!
بشكل ربما أقل فجاجة نرى البعض فى الأحزاب المعارضة الأخرى يسقط فى غواية السلطة التى يعارضها فيقبل أن يراقصها ولو لسويعات قليلة فيقبل منصبا فى هذا المجلس أو ذاك أو يرضى بأن يكون ممثلا كومبارس فى مسرحية الانتخابات ليظهر على المسرح لفترة يستمتع فيها بالفتات من الأضواء والتصفيق قبل أن يطرده مخرج المسرحية مرة أخرى من الساحة.
ولكن لابد من الإشادة بموقف عدد من الأحزاب والجماعات المستقلة والمعارضة التى رفضت أن تكون طرفا فى هذه الملهاة المأساة الدائرة على أشلاء المصريين المطحونين فى العشوائيات المطرودين خارج العصر من قبل نظام فشل فى تحقيق أدنى مستويات العيش الكريم لهم ولم يقدم لهم ولأولادهم على مدى ثلاثين عاما سوى التعليم الفاشل والصحة الفاشلة والمدن الفاشلة والقرى الملوثة والدروشة الدينية المتهوسة والتمزق الطائفى والفساد المنهجي والانحسار الثقافي والإنحدار الحضاري والإنسحاق أمام قوى الخارج المتربصة. هذه الاحزاب والجماعات أبت إلا أن تفضح ألعوبة الاحزاب التي بلا شرعية والانتخابات التي بلا ديمقراطية وتفقأ الفقاعة وتصرخ بحقيقة إن الإمبراطور بلا ثياب، ومنها حركة كفاية والجبهة الوطنية للتغيير ومؤيدو الدكتور البرادعي وأحزاب الكرامة والعمل والغد والوسط والجبهة الديمقراطية واليسار وغيرهم.
فى هؤلاء كلهم يظل لنا أمل فى مستقبل أجمل لمصر والمصريين.
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك