هناك حيوية سياسية غير مسبوقة، في مصر المحروسة، منذ ثورة اللوتس في 25 يناير 2011. ومن مظاهر ذلك، كثرة الحوار والجدل، حول إعادة بناء مصر. ولم يقتصر ذلك على المصريين في الداخل. وآية ذلك أن المصريين في أمريكا، وأوروبا، واستراليا، عقدوا عدد من المؤتمرات للحوار حول التعديلات الدستورية.
وقد نظم أحد الشباب الذين يدرسون في كندا، واسمه إيهاب عبده، مؤتمراً بعنوان “معاً نبني مصر”، واختار أن يكون مكان انعقاده في أحد قاعات جامعة جورجتاون، بواشنطن العاصمة. وأشرك الشاب النشط، كل المنظمات المصرية بأمريكا الشمالية. واختار موعداً له، التاسع عشر من شهر مارس، وهو الموعد المُقرر للاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي اعتمدتها لجنة المستشار طارق البشري.
ورغم الاختلاف بين المُشاركين في المؤتمر، كما في الوطن، بين مؤيد ومُعارض للتعديلات، إلا أن الجميع كانوا يشعرون، بأن هذه هي المرة الأولى في حياة هذا الجيل، بل وربما في حياة الجيل السابق له، التي تُتاح له فرصة حقيقية للتعبير الحُر عن رأيه في الشأن العام.
من ذلك أن زوجتي المصرية ـ الأمريكية، سألتني في مُكالمة تليفونية، إذا كنت حقيقة مع التعديلات، كما ذكرت بعض الصُحف. وقلت لها “نعم”، رغم تحفظات كثيرة. وأخبرتني هي أنها ستستخدم حقها في التصويت، لأول مرة منذ أن حصلت على الجنسية المصرية، قبل رُبع قرن، وأنها ستقول “لا”. وداعبتها على الهاتف، ما إذا كان اختلافنا في التصويت، يمكن أن يُهدد حياتنا الزوجية… وردت “بأن ذلك أمر مُحتمل!؟”
وبعيداً عن هذه المُداعبات العائلية، فإن فرحتها، وفرحة كل الأهل والأصدقاء والزُملاء، كانت بالحماس الشديد، والمظهر الحضاري الراقي الذي ظهر به المصريون، في ذلك اليوم المشهود، والذي لا تقل روعته عن يوم بداية ثورة اللوتس المصرية، وهو يوم 25 يناير 2011.
فقد استجاب مُعظم المصريين ممن لهم حق التصويت، ولهم بطاقات انتخابية. نعم، فقد قيل لنا أن حوالي خمسين في المائة ممن لهم هذا الحق. وهي أربعة أمثال من أدلوا بأصواتهم في آخر انتخابات برلمانية في عهد الرئيس السابق، حسني مُبارك، في خريف 2010.
فما تفسير هذا التغير الهائل في سلوك نفس الناخبين المصريين، خلال ستة أشهر؟
لا يحتاج الأمر إلى عبقري للإجابة على السؤال فقد كنا قد لاحظنا منذ سنوات، أن الإقبال على المُشاركة في انتخابات الأندية الرياضية، والنقابات المهنية، يصل إلى عشرة أمثال هذه المُشاركة في الانتخابات التشريعية، وأن ذلك للإحساس بأن الأولى ستكون أمينة إلى حد كبير، بينما هذه الأخيرة ستكون “غير حُرة وغير نزيهة”.
وهذا هو فعلاً ما حدث في أول انتخابات برلمانية عقب ثورة 1919 ( وتحديداً بعد صدور دستور 1923)، وحيث كانت مصر في حالة من النشوة الوطنية، والإحساس بالانتصار على المُحتل الإنجليزي والاستبداد الملكي بالسُلطة. ومنذ ذلك الوقت (1919)، والشعب المصري يحرص على الاستقلال والديمقراطية معاً، ويعتبرهما توأمان، أو وجهان لنفس العُملة.
وكما حرصت وسائل الإعلام العالمية على مُتابعة أحداث ثورة اللوتس، منذ يومها الأول (25/1/2011) إلى يومها الأخير في ميدان التحرير، فإنها فعلت نفس الشيء يوم الاستفتاء. وكأن العالم بأجمعه يُريد الاستمرار في بهجته بمصر وثورتها، رغم أن أحداثاً أخرى لا تقل أهمية، كانت أولى بالمُتابعة ـ مثل الزلزال الهائل في اليابان والانتفاضات الشعبية في كل من ليبيا واليمن والبحرين.
وسط كل هذا، عقد المصريون في أمريكا الشمالية مؤتمرهم، والذي كان نموذجاً مُشرفاً لثورتهم الجليلة، من حيث الحضور، وانضباط الجلسات، والمُناقشات. وكان لافتاً أن نسبة كبيرة من النساء والأقباط وأبناء النوبة قد شاركت في المؤتمر، وفي رئاسة جلساته. كذلك شاركهم أخوة عرب وأفارقة وأسيويون.
وقال بعض هؤلاء، أنهم حضروا للتضامن مع مصر، وأن العرب والأفارقة والمسلمون يتطلعون إلى عودة مصر الديمقراطية إلى مواقع القيادة في عوالمهم المختلفة.
لقد كان الحدث مهرجاناً مصرياً كبيراً بامتياز وقد شاركت المنظمات المصرية الأقدم، بكهولهم وشيوخهم في هذا المهرجان. ولم يفت أحدهم، وهو الناشط المُخضرم، الدكتور أمين محمود، أن ينتهز الفرصة، فأعد صندوقاً زجاجياً شفافاً، ودعى المُشاركين من المصريين، للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء، الذي كان يتم في نفس اليوم على أرض الوطن. وفعلاً، أقبل مُعظم المُشاركين، ولبّوا نداء د. أمين محمود. وفي نهاية اليوم، أعلنت النتائج، والتي كانت 55 في المائة بالموافقة على التعديلات الدستورية، و45% برفضها. وصفق الجميع، موافقون ومُعارضون، لهذه المُمارسة الحُرة، والتي ذكّرتهم بنتائج الانتخابات في البُلدان الديمقراطية (مثل كندا والولايات المُتحدة) حيث يعيشون. فنادراً ما يحصل الفائز، سواء كان شخصاً أو حزباً، على أكثر من 60 في المائة.
أي أن البهجة والحفاوة، كانت بسبب الإقلاع عن النتائج “المطبوخة” مُسبقاً، والتي كانت تُسمى تهكناً “بالأربع تسعات”، أي 99.99% لصالح من يُريده النظام المُستبد. وهو ما تعوّد عليه جيلان من المصريين خلال العقود الستة الماضية.
فوداعاً لعصور الاستبداد والفساد، ولمُمارسة الأربع تسعات، ومرحباً بمُمارسة الاختلاف الديمقراطي الحُر. وتحية لأقدم أمة تُبعث حية من جديد.
وعلى الله قصد السبيل
semibrahim@gmail.com