الحرب، كما يَصفها الفيلسوف الإغريقي “هرقليطس” (Héraclite)، هي أمّ جميع الأشياء، “فهي تجعل من بعضهم آلهة، ومن آخرين عبيداً أو رجالاً أحراراً”. وهذه الخلاصة لا تَسترعي حكماً انتباه الرئيس باراك أوباما الذي يُفضّل دوام ارتباط إسمه بجائزة نوبل للسلام من دون أن يصنع السلام، ولذا حرص منذ تفاقم الازمة السورية على الابتعاد عن كل خيار عسكري وعن أي سياسة متماسكة وفعالة، إذ لم يستوعب ايضا مبدأ هرقليطس الآخر وهو: “كل شيء في حركة مستمرة وتغيّر”.
بعد عامين ونصف على اندلاع الصراع في سوريا وحولها، نشهد اليوم الكارثة الكبرى الأولى في القرن الحادي والعشرين. على رغم هول الكارثة والاستعصاء، لم يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته نتيجة احتجاز روسيا والصين لمجلس الأمن الدولي وغياب الارادة السياسية الاميركية، مما اعطى الانطباع بأننا أمام شريعة الغاب في فوضى عالمية تلائم سياسات موسكو وبكين، وتعكس ضعف الغرب وانهيار الزعامة العالمية ومفهوم الحوكمة بحد ذاته.
في خضم احتدام النزاع التدميري، أتَت مجزرة الغوطة الكيماوية في 21 آب الماضي لتشكل منعطفاً حاداً انكشفت فيه اوراق اللاعبين الإقليميين والدوليين، ووضعت سياسة أوباما على المحك بعد تعهداته (أو تورطه في هذه التعهدات أو اقتصار التعهد الفعلي حيال إسرائيل) حول الخطوط الحمر بالنسبة الى السلاح الكيماوي.
وفي هذا الصدد، يلاحظ الديبلوماسي الاميركي السابق فريديريك هوف الذي كان يتولى الملف السوري أنّ “الجديد تمثل في قيام الأسد بإذلال رئيس الولايات المتحدة وتدمير مصداقيته، سواءً في منطقة الشرق الأوسط أو في العالم”.
ويضيف هوف، “أن اعتقاد الأسد بأنه يستطيع فعل ذلك من دون عقاب، كان حساباً خاطئاً”. هكذا لولا التحدي الشخصي لأوباما لما كان فكَّر باستخدام القوة ورد الاعتبار لواشنطن أمام تحدي روسيا وايران لها في بلاد الشام.
في الايام العشرة الاخيرة، كانت الادارة الاميركية متخبطة ولم تفكر للوهلة الاولى في ردة الفعل أو الضربة العسكرية المحدودة في الزمان والمكان، لكن ضخامة المسؤولية الاخلاقية وبشاعة المجزرة وصورة الولايات المتحدة كانت عوامل كافية ليُغيّر أوباما تكتيكاته.
لكن الضجيج الاعلامي ودق طبول الحرب لم يأتيا بالنتيجة المرجوة، إذ افرغت دمشق بنك الاهداف المفترض، وسرعان ما اتسم موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتشدد استناداً إلى موقف ايراني مصمّم على المواجهة ولو حيال ضربة محدودة ورمزية.
ووفق الاوساط الاوروبية المطلعة، لم تنجح زيارة جيفري فيلتمان مساعد الامين العام للأمم المتحدة إلى طهران (كان بمثابة ناقل الرسائل الاميركية للرئيس حسن روحاني) في تبديد هواجس إيران، ولم يصمد موقف روحاني المعتدل والمتفهم أمام موقف الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، ذراع الحرس الثوري الايراني في الخارج، الذي هدَّد بالويل والثبور وتحويل بلاد الشام إلى كتلة نار تصيب اسرائيل والغرب ومصالحه.
أمام التلاحم في المحور المؤيد للنظام السوري، أتى التصويت السلبي لمجلس العموم البريطاني ليعقد قرار الدول الراغبة في معاقبة النظام السوري، وزاد ذلك من تردّد أوباما على رغم التزام هولاند بوقوف باريس إلى جانب واشنطن للدفاع عن مصالح مشتركة في شرق المتوسط. وليل الجمعة 30 آب، اتخذ اوباما قراره بتأجيل الضربة وربما الغائها تحت غطاء طلب موافقة الكونغرس. مرة جديدة، يثبت أوباما أنه ليس رجل القرارات الصعبة، ولا يملك جرأة اتخاذ المواقف الحاسمة.
من الناحية العملية، يركز اوباما على عدم التورط في الرمال السورية المتحركة ويصرّ على الابتعاد التدريجي عن الشرق الاوسط، وهو يحاكي الرأي العام الاميركي الذي هزَّه الانخراط المكلف في افغانستان والعراق. الأهم اذن بالنسبة الى أوباما ليس مأساة الشعب السوري وحمايته، بل العامل الداخلي اولا وتشريع الكونغرس لأي خطوة يتخذها.
من الاسباب الممكنة للتراجع الاوبامي عدم الرغبة في الصدام المفتوح مع روسيا، والأرجح تفضيل الرئيس الاميركي عدم القطيعة ومحاولة ايجاد مخرج مع بوتين على هامش قمة العشرين في سان بطرسبورغ يومي 5 و6 أيلول.
استناداً إلى هذه المعطيات تبدو الصورة غامضة ومشوشة، وسيكون لإسرائيل دور في تظهير الموقف الأميركي الأخير لأنّها سهلت المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في مقابل تشدد أميركي مفترض في الملف النووي الايراني، ولأن ثقلها في الكونغرس يمكن أن يقلب المعادلة.
إزاء كل هذه الاحتمالات يضع أوباما صدقيّته على محك تتمّات الأزمة السورية، ومن دون شكّ سيؤدي التراجع الاميركي أو عدم فعالية السياسة الاميركية إلى تقوية خصوم واشنطن، أي طهران من جهة والجهاديين من جهة أخرى، وترك المشرق مسرحا للسيطرة الروسية.
khattarwahid@yahoo.fr
الجمهورية