لم تكد الحكومة الجديدة تقسم اليمين في رام الله، حتى وقعت مفاجأة اتفاق “المصالحة” في القاهرة، مصحوبة بالكلام عن تواريخ محددة لتشكيل حكومة موّحدة جديدة، وإجراء انتخابات في فترة لا تتجاوز الستة أشهر.
كانت خلاصة مقالة الثلاثاء الماضي أن المصالحة غير ممكنة حتى وأن تحققت بطريقة شكلية في يوم ما. والتطوّرات الأخيرة لن تغيّر من هذه القناعة. على أية حال، سيجد المعلقون والمحللون في التطوّرات الأخيرة مادة خصبة للتحليل والتعليق، كما جرت العادة منذ سنوات. وهذا النوع من النشاط التحليلي غالباً ما يغرق في الجزئي واليومي على حساب الكلي، أي تقدير الموقف العام.
لتقدير الموقف العام مداخل مختلفة من بينها، مثلاً، رصد ظواهر تتسم بقدر من الديمومة، وتمتاز بديناميات خاصة، وملامح يمكن التعرّف عليها، وهي أشياء يصعب مع الغرق في الجزئي واليومي التعرّف عليها، وتعريفها، وتقدير أهمية حضورها في كل محاولة لتشخيص الواقع، كما هو لا كما ينبغي أن يكون.
يمكن، في هذا السياق، الإشارة إلى ظاهرتين جديدتين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي تكاد كلتاهما تكون نتيجة موضوعية للأخرى. والجدة، هنا، تعني أننا في الوقت الحاضر نستطيع التعرّف على الملامح العامة للظاهرة، أما جذورها فتعود إلى زمن أبعد بطبيعة الحال.
الظاهرة الأولى: استفراد الإسرائيليين بنا. والثانية: نـزع البعد القومي لصراعنا معهم. ما معنى هذا الكلام؟
رفض الإسرائيليون، دائماً، بعناد البغل، وعنف الثور، ومهارة الثعلب، توّسط طرف ثالث بيننا وبينهم. كان المدخل وما يزال تجاهل ورفض القرارات الدولية كمرجعية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وقد أحرزوا نقاطاً كثيرة في هذا الشأن لصالحهم.
وتجلت الترجمة العملية لهذا الرفض في إحباط، أو تجاهل، أو تفريغ مبادرات وجهود كثيرة من مضمونها سواء أكانت دولية أم إقليمية: مؤتمر مدريد، اتفاق أوسلو، مفاوضات كامب ديفيد، رؤية الرئيس بوش، خارطة الطريق والرباعية، مبادرة السلام العربية..الخ. كل هذه المبادرات والجهود (وهي وساطات تستدعي وجود مرجعيات متفق عليها) تحوّلت إلى هياكل بلا مضامين حقيقية.
الخلاصة هي إصرار الإسرائيليين على التعامل مع المسألة الفلسطينية باعتبارها مسألة إسرائيلية داخلية، تقع ضمن حدود السيادة الإسرائيلية، أي بين أغلبية يهودية في فلسطين الانتدابية، وأقلية فلسطينية تعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة على أرض مُتنازع عليها، ولا يحق لأحد أن يتدخل فيها، أو أن يفرض عليها مرجعيات من خارجها.
لم نشر إلى الأقلية الفلسطينية في حدود العام 1948 لأن مجرد التفكير في أمر كهذا مرفوض من جانب الإسرائيليين، وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع اللاجئين. بمعنى أن الإصرار على السيادة يفصل التكتلات الفلسطينية الديمغرافية عن بعضها، ويرفض التعامل معها كقضية قومية واحدة.
المهم في الكلام عن الظاهرة ليس جذورها التاريخية، ولا حتى كشفها باعتبارها البطانة الأيديولوجية والسياسية للمواقف الإسرائيلية، بل تحويلها إلى أمر واقع ومألوف يحظى بالقبول وإن على مضض، أو التغاضي، من جانب قوى إقليمية ودولية، وحتى من جانب بعض الفلسطينيين أنفسهم. وهذا هو الجديد.
نعود إلى الظاهرة الثانية، أي نـزع البعد القومي لصراعنا معهم. وهي نتيجة موضوعية للأولى. وفي هذا السياق يحظى البعد الإنساني بالأولوية على حساب البعد القومي. وتحت هذا العنوان تندرج تفاصيل تمس الحياة اليومية للمواطنين من نوع التسهيلات التجارية والاقتصادية، وحرية التنقل والحركة والحواجز..الخ.
هذه الأشياء كلها تموّه وجه نظام الأبارتهايد المفروض بحكم الأمر الواقع. أما الجدة في الموضوع فتتمثل في حقيقة أن البعد الإنساني هو الترجمة الموضوعية للقبول وإن على مضض، أو غض الطرف، عن استفراد إسرائيل بالفلسطينيين، وعن التسليم بغياب المرجعيات، من جانب قوى إقليمية ودولية مختلفة.
المهم أن هاتين الظاهرتين تتجليان في ظل ميزان للقوى محليا وإقليمياً ودولياً لا يمكّن الفلسطينيين من فرض ما يريدونه، ولا يمكّنهم من التصدي بنجاح لما يريده لهم الآخرون. ولسنا، هنا، في معرض الكلام عن الأسباب، أو تحديد المسؤولية. فهذه كلها خارج الموضوع.
وعلى الرغم من حقيقة أن صورة كهذه تبدو قاتمة، إلا أن التاريخ لا يشتغل بالأبيض والأسود، ثمة الكثير من الظلال والمكر والمفاجآت. فغياب المرجعيات، مثلاً، وإصرار الإسرائيليين على التعامل مع المسألة الفلسطينية كمسألة داخلية، وتجريدها من البعد القومي، وتعزيز جانبها الإنساني، كلها سيوف ذات حدين.
موضوع المسألة الداخلية، والأرض المُتنازع عليها، ونـزع الصفة القومية، وتعزيز البعد الإنساني تمويهاً لنظام الأبارتهايد كلها أشياء تعمل في اتجاه مضاد لمبدأ الفصل والانفصال، الفكرة المركزية في الصهيونية، وتخلق ديناميات يصعب في الوقت الحاضر التنبؤ بنتائجها النهائية، وإن كان من الممكن القول إن انقلاب السحر على الساحر مسألة لا تدخل، بالضرورة، في باب النادر والخارق والاستثنائي بقدر ما يتعلّق الأمر بفلسفة التاريخ. وهذا ما يمكن تأويله بطرق مختلفة.
المهم أن يجد الكلام عن تجليات جديدة لظاهرتين، على قدر كبير من الأهمية، طريقه إلى متن الخطاب في السياسة وعنها، ولا بأس من كلام عن “المصالحة”، وأشياء أخرى.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني