مرة أخرى يصلنا أنا وصديقتي فوزية العيوني خبر مصادقة محكمة الإستئناف في “الخُبر” على الحكم الجائر الذي صدر في حقنا، وذلك بالسجن لمدة عشرة أشهر، والمنع لسنتين من السفر بتهمة “تخبيب المرأة”. تنفيذ الحكم قد يتم في خلال الأيام القليلة القادمة.
بهذه النهاية التي صاغوها بحنكة وخبث يبعثون رسالة شديدة اللهجة لجميع النساء السعوديات فحواها أن من تطالب بعدالة اجتماعية لبنات جنسها ستلاقي هذا المصير، وستُجابه بما هو أفظع لو احتاج الأمر لذلك.
لكن ثمة تساؤل هنا يدور في الأذهان المتبصرة، هل حقاً من فعل هذا بنا يريد أن يبعث تلك الرسالة فقط أم أنه جزء من منظومة عالمية مجبولة على الشر وتريد أن ترث للناس ما هو أعظم من ذلك؟
لنبتعد قليلاً عما يجري لنا في بلدنا وفي خليجنا وننظر لشعوب العالم كافة. فمنذ عقود طويلة ونحن نرى في الشرق وفي الغرب أن الشر دائماً يتربص بالخير ويفتك به، والظلم ينتهك العدالة ويزهق روحها، والباطل يلتهم الحق ويبدد اشلاءه في كل مكان، والحرب تقتل السلام وترديه صريعاً ليلفظ انفاسه الأخيرة، والكبت يخنق الإبداع والحرية ويتفاخر بفعله. لكن تلك الظواهر اللاانسانية ازدادت وتفاقمت بين الناس في هذا العقد من الزمان، خاصة بعد فاجعة 11 سبتمبر، واشتداد قرع طبول حروب الإرهاب وامتداد دويها في العراق وافغانستان، ومن ثم الإنتكاسة الاقتصادية التي أصابت دول العالم بوباء الإفلاس المروع المزمن. لكن في السنوات الثلاث الأخيرة مع بزوغ ربيع العرب الدموي ساءت حالة الإنسان أكثر، وصار سحقه على أرضه وقهره وحتى قتله امراً عادياً لا يلتفت اليه احد.
حقيقةً، ما الذي يريدون أن يقولوه الأقوياء لضعفاء الأرض ولللأجيال القادمة؟ ما معنى أن نرى كل يوم في وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذا الكم الهائل من الأبرياء الذين يقتلون في الأسواق والطرقات والمقاهي وفي دور العبادة وغيرها، بينما القتلة المدبرون لهذه الجرائم يجوبون الأرض عرضاً وطولاً بدون مساءلة؟ ماذا يعني ان تُسجن امرأة وتُجلَد في مكان ما لعدم ارتدائها حجاباً، بينما الفاسدون في بلدها يسرقون الثروات ويبددونها؟ ماذا يعني أن اطفالاً هزيلين جياع تسرق منهم طفولتهم فيتحولون الى آلات يعملون لساعات طويلة من اجل ان يوفروا لقمة عيشهم، وكروش الأثرياء تتمدد من التخمة وجيوبهم تتضخم من المال الحرام؟ ماذا يعني ان تتستر بعض الحكومات على المتاجرة بالبشر والمخدرات وتتشدق بحفظها لحقوق مواطنيها؟ لماذا الذين يطالبون بالسلام لا تُسمع أصواتهم، بينما أمراء الحرب يحصلون على التغطية الإعلامية طوال الوقت؟ لماذا أصحاب رؤوس الأموال يدمرون البيئة ويخلقون النزاعات العسكرية من أجل الإستحواذ على الموارد الاقتصادية والتلذذ بمدخولها؟ ماذا يريد سياسيو العالم أن يفهومنا حين يجتمعون من أجل وقف سفك الدماء في بقعة ما من هذه الأرض بينما أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء من نساء واطفال وشيوخ؟ ماذا يعني أن يقف الناس في صفوف “الأخيار” الصامتين ليصبحوا في يوم ما مشاريع قتلة ومقتولين بسبب أهداف سياسية ومنافع اقتصادية؟ لماذا البشر في كل مكان صاروا يعتقدون أن الشر أكبر من ان يُهزم، وأن الظلم هو نمط حياة يجب أن يتعاطوه البشر بصمت ورضا، وأن الرشوة ضريبة مستحقة للفاسدين وأصحاب السلطة، وان القضاة من المفترض ان يكونوا في صف أصحاب النفوذ وأصحاب الذوات، وأن الحب والسلام والمساواة عملات فاقدة الصلاحية ولا عزاء لأهلها!
كيف أصبحت مفاهيم الإنسانية وقيمها الحقة كالعدالة والسلام والحرية والخير والمحبة والمساواة والأمان وحق الحياة الكريمة مفاهيم شاذة وبالكاد تتواجد كلها في بلد واحد؟ حتى في البلدان التي تتنعم بأنظمة ديموقراطية باتت شعوبها تتألم من شدة الخوف من المستقبل وشغف الحياة وذل لقمة العيش والفاقة. ماذا يريد قادة العالم أن يخبروا شعوبهم، أن الحياة الكريمة حكر لهم ولحاشيتهم، وغيرهم مصيره الجحيم وبؤس المصير؟ إلى متى ستظل شعوب العالم بكل فئاته تتظاهر في الشوارع وتـُعتقل وتُضرب وتٌهان وهي تطالب بحقوقها المشروعة؟ كل رجال الأمن في كل بلد من هذا العالم أصبح لهم نفس السحنة ويتعاملون بنفس الطريقة مع المتظاهريين؟ ماذا يريد جبابرة هذه الارض أن يفهموننا؟ أن مصارف الإنسانية قد افلست مدخراتها، وأنه لم يعد ثمة حياة ذات قيمة في هذه الحياة؟ وأنه لا جدوى من البحث عنها؟
لا.. لن نقبل ابداً ان تجردونا من قيمنا الإنسانية ومن حلمنا بحياة كريمة! فبإسمي، وبإسم صديقتي فوزية العيوني، وبإسم جميع الأخيار والمصلحين على هذه الارض، نرفع أصواتنا في وجه الشر ونقول إننا نرفض الإيمان بإفلاس مصارف الإنسانية. فهي مصارف لا تـُفلس ابداً، فالحق أشد وطأة وصلابة من الباطل، والخير يحتل المساحة الأكبر في قلوب الناس اكبر بكثير من الشر، والحب جذوره راسخة في الأعماق وامتداده أطول من امتداد الكراهية، والسلام أنصاره أكثر عدداً ولديهم نـَفس أطول من نـفَس أنصار الحرب وامرائها، والعدالة أهلها أشد صموداً واصراراً وأكثر انتشاراً من أهل الظلم. والحرية والمساواة وقيم الديموقراطية هي الطرق المُثلى للحياة الكريمة.
فيا من اخترتم أن تصطفّوا بجانب الظلام، أفعلوا ما شئتم، لكن تأكدوا بأنكم لن تستطيعوا أن تحركونا قيد انملة عن قيمنا الإنسانية، فنحن أهل النور نتكاثر بالمحبة وأبناءنا وأحفادنا هم الباقون هنا، بينما أنتم أيها العابثون بالأرض انتم عابرون ومغادرون لا محالة.
salameyad@hotmail.com