المقدمة
يتقدم حزب الشعب الديموقراطي إلى الشعب السوري بموضوعاته للمؤتمرالسابع، عاقداً العزم على مواصلة النضال، إلى جانب حلفائه وأصدقائه ، من أجل إنهاء الاستبداد وبناء النظام الديموقراطي الوطني والدولة الحديثة في سورية. دولة سيادة القانون، والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية.
كانت موضوعات المؤتمر السادس من أولى مرجعيات الحزب لدى كتابة موضوعاته الجديدة، لما تحمله من مضامين وقيم تغييرية وتقدمية هامة. وارتأى أنه من الضروري أيضاً الرجوع إلى النقود الهامة والغنية التي وجهت لهذه الموضوعات من كثير من الرفاق والأصدقاء. وكذلك كان لابد من أن تؤخذ بعين الاعتبار التطورات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية.
لا ينظر الحزب إلى الموضوعات كوثيقة إيديولوجية، وإنما يعتبرها خطوطاً عامة لتوجهاته الفكرية والسياسية والتنظيمية، يستنير بها خلال المرحلة القادمة. في كل الأحوال، تبقى أية عملية تجديد في مسيرة حزبنا هي في خدمة ودعم الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
يركز الحزب جهده الرئيسي في تجديد موضوعاته على، مسألة الانتقال من نظام الحكم الشمولي الاستبدادي إلى النظام الديموقراطي والدولة الحديثة، والبحث في آفاق وإمكانيات ووسائل وآليات هذا التغيير. وكذلك يركز على موضوعة المجتمع المدني ودوره باعتباره المجال والفضاء الذي يسهم في عودة السياسة إلى المجتمع. ويعتبر الحزب تحرير منظمات المجتمع المدني التي سيطرت عليها السلطة، من نقابات وجمعيات ومؤسسات ونوادٍ وصحافة، أولوية نضاليةهامة وضرورية.
مثل هذه المهمة الكبيرة، يجب أن تدفع حزبنا، باعتباره جزءاً من قوى التغيير والمعارضة في مجتمعنا، إلى توطيد نهج خطابه النقدي، وطرح هذا الخطاب للمراجعة والتصويب على ضوء الممارسة والواقع. وعليه أن يعمل على تكريس حياة حزبية داخلية أكثر ديموقراطية وانفتاحاً على ممارسة حرية التعبير والرأي وعرض وجهات النظرالمختلفة. وهذا يتطلب اجتراح أسس واساليب تنظيمية جديدة، تتلاءم مع التغيرات العصرية التي طرأت على حياة المجتمع.
وكذلك كان لا بد من أن تتناول الموضوعات قضايا العلمانية، ودور المرأة في المجتمع، وتطويرالقوانين بما فيها قانون الأحوال الشخصية بما يوطد الاندماج المجتمعي والانتماء الوطني.
و كان منوطاً أيضاً بموضوعات المؤتمر السابع، أن تكون أكثر وضوحاً في موقفها من الدولة السورية الوطنية كمجتمع متنوع ومتعدد الثقافات ، وكذلك في موقفها من القضايا العربية والمشاريع القوميةً الوحدوية وآفاقها والأسس الموضوعية لتشكيلها.
وكان مطلوباً من موضوعاتنا توضيح توجهات حزبنا الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتحديد مواقفه من الليبرالية والرأسمالية ومرحلتها العولمية وتناقضاتها وصيرورتها.
الفصل الأول
فشل بناء الدولة الحديثة في سورية
1/1- السوريون وعلاقتهم مع الحرية والديموقراطية:
ليس صحيحاً ما تروجه السلطة وحلفاؤها دائماً، حول خصوصية يتسم بها مجتمعنا، بما يحمل من تقاليد وتراث ، تجعله متناقضاً مع الديموقراطية. وكذلك ليس أمراً عابراً، أن تعود الديموقراطية لتطفو على سطح مجتمعنا اليوم كضرورة ومطلبٍ عام.
فلقد تعرف شعبنا على مفهومي الحرية والديموقراطية منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومنذ ذاك الوقت أخذت تشغل مسألة الحرية والديموقراطية، حيزاً كبيراً من تفكير المثقفين والكتاب والنهضويين السوريين. وكانت إعدامات 6 ايار عام 1916 في كل من سوريا ولبنان، رمزاً لكفاح ونضال شعبنا من أجل الحرية. وقد جسدت تلك الاعدامات مدى الخوف الذي تشعر به سلطة الاستبداد من الحرية حينما تتحول إلى مطلب عام. فدفعها هذا الخوف آنذاك لكي تلفق للناشطين من أجلها، تهمةَ الصلة بالخارج والسفارات الأجنبية، كما هو الحال في هذه الأيام. ولقد توجت نضالات الناشطين السوريين بانعقاد (المؤتمر السوري العام) سنة 1919، الذي كان أول اختبارديموقراطي لهم في طريقهم إلى تأسيس دولتهم الوطنية.
وفي عهد الانتداب، تعرف السوريون على الحياة الديموقراطية، والتنظيمات الحزبية والنقابية. وأقيمت منشأت تعليمية وقانونية وقضائية شكلت في ذلك الحين خطوة تأسيسية عملية على طريق الحداثة. وكانت هذه الإنجازات في سياق التأثير الموضوعي لنظام حكم دولة المستعمِرعلى البلد المستعمَر.
وبعد الاستقلال خرجت سورية من الانتداب دولةً تستند إلى الشرعية الدستورية، ولها دستورها منذ عام 1928. ونظام الحكم فيها يقوم على أسس نظام ديموقراطي برلماني، ومجلس نيابي منتخب، وتعددية حزبية ونقابية وقوانين ناظمة لها، وصحف حرة، وفصل للسلطات الثلاث، وسيادة للقانون، واستقلالية للقضاء. وأخذ يتشكل فيها مجتمع مدني، يتطور باتجاه مزيد من الحداثة والتعددية والاعتراف بالآخر، والتواصل مع العالم، المختلف سياسيا واجتماعيا ودينيا ومذهبيا. واستمر نمو هذه الدولة الديموقراطية الناشئة، إلى أن قطع مساره حكم الشرعيات “الثورية ” في أواخر الخمسينات من القرن الماضي.
2/1 – معوقات الدولة الديموقراطية في سورية
اصطدم بناء الدولة الديموقراطية في سوريا بمعوقات وكوابح كثيرة موضوعية وذاتية، من أهمها:
أ- تأخر وضعف البنية الوطنية: لعبت الولاءات ما قبل الوطنية الموروثة، دوراً رئيساً في عدم توطد الهوية الوطنية الجديدة؛ التي بقيت ضعيفة أمام مفاعيل الانتماء إلى الهويات الأخرى مثل الدين والمذهب والعشيرة والمنطقة والعائلة.
وترافق تأخر البنية الوطنية الاجتماعية السورية، بسيطرة الإقطاعيين وملاك الأراضي وزعماء العشائر على النخبة السياسية الحاكمة، وبنفوذ المؤسسة الدينية التقليدية المحافظة على موروثها العثماني، في الوقت الذي كانت البرجوازية الوطنية (الرأسمالية) لا تزال في بداية نموها، وتعاني من هشاشة بنيتها الاقتصادية وضعف نفوذها الاجتماعي والسياسي.
لم تتحسن البنية الوطنية الاجتماعية وبقيت على ضعفها في عهد ” الشرعيات الثورية”. فرغم المد القومي العارم وشعاراته الكبرى، بقي الولاء لكيانات ما قبل الدولة الوطنية لاعباً رئيساً في المجال السياسي، بل ربما أكثر حيوية وأشد زخماً. وهناك من يعطي لهذه الولاءات الدور الأهم في تحديد تاريخ سورية السياسي والاجتماعي والاقتصادي في القرن العشرين؛ ويعتبرها محور إجهاض بناء الدولة القائمة على المواطنة.
ب – أزمة الريف: لعب تأخر البنية الوطنية الاجتماعية للنخب الحاكمة بعد الاستقلال، دوراً هاماً في تفاقم أزمة الريف. حيث اصطدمت مصالح الإقطاعيين مع الإصلاح الزراعي وتحسين أوضاع الفلاحين. وبقي موقف البرجوازية الصناعية ضعيفاً وملتبساً من المسألة الزراعية، بسبب تبعيتها للفئة الأولى في تمويل مشاريعها. وبقيت الرسملة الزراعية محدودة جداً، واقتصرت على بعض البؤر في محافظة الجزيرة في شمال البلاد. وفي هذا السياق لا يمكن إهمال دور العلاقات الكولونيالية التي أسهمت أيضاً في عرقلة نمو الرأسمال الوطني والتنمية الصناعية في البلدان الطرفية. لقد أعاق عدم حل أزمة الريف نمو السوق الداخلية، وحدَّ من نمو البنية التحتية للقطاع الصناعي والخدمات ومن تطور التعليم والثقافة والصحة العامة.
ج- قيام إسرائيل والتدخلات الإقليمية والدولية: ومن جانب آخر، لم يفسح الزمن في المجال لتلك النخب الحاكمة كي تلتقط أنفاسها للعمل على تحسين أوضاعها وتطوير بنيتها وتقدمها. فهزيمة الجيوش العربية عام 1948 ، جعلتها أكثرضعفاً. وأصبحت البلاد أكثر سوءاً وتفجراً، وصارت أكثر استهدافاً من المصالح الإقليمية والدولية المتنافسة. ووقعت تحت ضغط استقطاب قوي بين محورين عربيين كبيرين: المحورالسعودي المصري والمحور الهاشمي(العراقي الأردني) الذي كان بدوره انعكاساً للصراع الأوسع القائم على المنطقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا في تلك الفترة.
د- طغيان الإيديولوجيا: أيضاً تتحمل الأحزاب السياسية السورية، وخاصة العقائدية منها، جزءاً من المسؤولية، في إعاقة بناء الدولة الديموقراطية الحديثة. فقد انصب معظم جهدها السياسي، على شعارات وبرامج ومشاريع لا تخص الدولة السورية بذاتها، بحدودها الواقعية التي نشأت في عام 1920. إذ لم تكن من أولوياتها مسألة اندماج المجتمع السوري ووحدته الداخلية وتطوير دولته الوطنية الحديثة على أساس سيادة القانون والحرية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الديني والمذهبي والإثني.
لقد اقتصر معظم الشغل السياسي لهذه الأحزاب على (فوق دولة الواقع)، لصالح الشعارات والمشاريع السياسية الكبرى بعيدة المدى: الوحدة العربية، الوحدة الإسلامية، سوريا الكبرى، والأممية البروليتارية.
لم تهتم هذه الأحزاب بالبرامج السياسية، وإن وجدت لدى بعضها أحياناً، فعلاقتها بتطوير المجتمعين المدني والسياسي في الداخل السوري ضعيفة. إذ بقيت عقائد هذه الأحزاب هي برامجها السياسية. وضَحَّت بالوطني والداخلي والمحلي والقطري والديموقراطي والإنساني والفردي على مذبح القومي والإسلامي والأممي والجماعي. والمفارقة التاريخية في عمل هذه الأحزاب أنها استمرت لحقبة طويلة من الزمن، تدعو لمشاريع وكيانات كبرى، وأدارت ظهرها لقضية وحدة المجتمع السوري وتأسيس دولته الديموقراطية الوطنية من أجل تأسيس كيان أكبر وأكثر اتساعاً..
هـ – تفاقم دور العسكر في إدارة الدولة: تحت ضغط الظروف الداخلية والخارجية التي أخذت تعيشها سورية بعد قيام إسرائيل، أخذت النخب الحاكمة تفقد شيئاً فشيئاً سيطرتها على إدارة الدولة لصالح الضباط العسكريين. وإذا كانت هزيمة عام 1948 سبباً مباشراً لكي يأخذ الجيش هذا الدور؛ فعلى أهمية هذا السبب، فإن الأزمة الاجتماعية الداخلية لم تكن تقل أهمية. حيث أزمة الريف المتفاقمة كانت تدفع بعشرات الألوف من الريفيين باتجاه المدينة للبحث عن الرزق وفرص العمل، مما أدى إلى تغير كبير في الخارطة الاجتماعية للمدن السورية، و بنية الحركات السياسية والجيش، وذلك بانخراط الكثير من أبناء الريف في صفوفه.
دخلت سورية في مرحلة مختلفة بعد إسقاط دكتاتورية العقيد أديب الشيشكلي (شباط 1954- شباط 1958). كانت هذه المرحلة أكثر تقدماً، وتجلت فيها الحياة الديموقراطية بشكل أوسع، وتصاعد دور الشعب في الحياة السياسية وأخذ يعبر عن رأيه عبر حرية التظاهر والاجتماع والصحافة الحرة والنشاطات الحزبية. و ترافقت هذه المرحلة بالنهوض العارم لحركات التحرر القومي في العالم العربي وبلدان العالم الثالث عموماً. ولكن رغم الدور الوطني المعادي للاستعمار الذي لعبه الجيش في تلك المرحلة، فاستمراره بلعب دور رئيس من خلف الستار في إدارة الدولة، أثر سلبياً فيما بعد على مفاوضات وشكل ومحتوى دولة الوحدة بين سوريا ومصر وعلى مصيرها.
فتحت تأثير المد القومي العربي في تلك الفترة، تمت الوحدة بين سوريا ومصر في شباط عام1958. واندفع كل الشعب السوري في مظاهرات عارمة لتأييدها. باعتبارها كانت محطَ آمال وأماني وطموحات الشعوب العربية في ذلك الحين؛ ومدخلاً إلى توحدها و تحولها إلى قوة إقليمية فاعلة، وبدايةَ نهضة عربية حديثة.
لكن لم يكن المد القومي العامل الوحيد في قيامها. فقد شكل عدم الاستقرارالذي كان يسود إدارة الحكم في سورية آنذاك عاملاً هاماً وربما كان هو السبب المباشر في قيامها. فقد أسهم في ذلك الحين عدم الثقة والتنافس على حكم البلاد بين الكتل السياسية بجناحيها المدني والعسكري في تسريع عملية الوحدة . وكان هنالك سبب آخر ربما بولغ في حجمه وقوته كثيراً في تلك الفترة، وهو هاجس الخوف من ازدياد نفوذ السوفييت والشيوعيين وخطر سيطرتهم على سورية. وفي المحصلة فقد لعب (العسكر) آنذاك الدور الضاغط الأهم في قيام هذه الوحدة بشكلها العاجل الذي تمت فيه، والذي كان أحد أسباب انهيارها.
وقد أخذ مسار نظام الحكم في سورية في عهد الوحدة يتجه بسرعة إلى سياسة القمع، وراح المواطن السوري يفقد ما كان كان قد حصل عليه من مكتسبات ديموقراطية خلال الانتداب وبعد الاستقلال. ولم يقتصر الأمر على حل الأحزاب الذي كان شرطاً مسبقاً لتوقيع الوحدة؛ إنما ألغيت الصحف الحرة، وقيِّدت جميع وسائل التعبير، بحجة ” فساد الأحزاب” وأولوية “الحرية الاجتماعية” على “الحرية السياسية”. وأخذت تنمو هيمنة الأجهزة الأمنية وممارسة القمع والاعتقال المديد بدون محاكمة، والتعذيب المنهجي الذي وصل في بعض الأحيان إلى الموت. وتم تسريح المئات من ضباط الجيش السوري، وهمِشَّت فيما بعد كل القوى السياسية السورية، بما فيها تلك الرموز التي بذلت كل ما بوسعها لتبدو أكثر ولاءً للوحدة ولعبد الناصر. وبدأت تبرز روح الوصاية لدى المصريين إزاء السوريين في الإدارات والمؤسسات المختلفة. ولم تؤخذ بعين الاعتبار الفروق الكائنة بين المجتمعين، وأخذت تُنقَل الآليات المصرية إلى سورية بعسف وتسرع وارتجال.
ليس هنالك من شك، في أن النظام القمعي قد لعب دوراً رئيساً، إلى جانب العوامل الداخلية الأخرى والتدخلات الخارجية، في انهيار التجربة العربية الوحدوية الأولى. وأسهم من جانب آخر، في توريث سورية بنية تحتية قمعية غير معهودة، شكلت بدورها قاعدة وتقاليد للاستبداد الشمولي الحالي.
وفي فترة الانفصال لم تخرج إدارة سورية من قبضة العسكريين. واتسمت بالفوضى وعدم الاستقرار والصراع والتنافس على السلطة بدوافع مدينية وريفية ومناطقية ومذهبية؛ إلى أن انتهت بانقلاب 8 أذار عام 1963، الذي قامت به مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين والمستقلين.
*
الفصل الثاني
الاستبداد في سورية
2/2- حكم الحزب الواحد
بعد أحداث 18 تموز الدامية في عام 1963 التي أطاحت بالناصريين، استفرد حزب البعث بالسلطة في سورية، وأخذ يحكم قبضته على كامل مقدرات المجتمع. فسيطرعلى اقتصاد البلاد ومؤسساته ومرافقه، وعلى الصحافة و مؤسسات المجتمع المدني من نقابات عمالية ومهنية وجمعيات ونوادٍ. وكان أهم تطوير للاستبداد، جعل حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع. وعزل الشعب بشكل كامل عن السياسة ومنعه من ممارستها، وذلك عبر سياسة القمع، الذي أخذت أشكاله تتطور باستمرار.
اقتدى حزب البعث بالأنظمة الشمولية، فأخذ يعتبر استبداده بالدولة حقاً له، باسم “الشرعية الثورية”،مزيفاً حقيقة مفهوم الدولة الحديثة، التي تقوم على عقد اجتماعي وشأن عام، وليست مجرد أداة قمع بيد فئة غالبة.
وأخذت الدولة تتحول تدريجياً إلى دولة فئوية، تتعامل معها السلطة الغالبة كغنيمة، مستخدمة إيديولوجيتها الشعبوية وخطابها القومي الشامل لستر وحجب واقع هذا النمط من الدولة الذي لا يمكن استمراره إلا بالقوة العارية. وهكذا لم يعد ممكنا التفريق بين الدولة والحزب والسلطة. فكل شيء تماهى مع السلطة، التي تحولت إلى أخطبوط يكبل المجتمع (تغول السلطة).
وبتأثيرمفاعيل تأخر البنية الوطنية الاجتماعية، تقوم حركة 23 شباط 1966 تحت عنوان “تصفية اليمين العفن”. وفي أيلول من العام ذاته كانت محاولة سليم حاطوم في السويداء. وفي خضم هذه الصراعات المستمرة على السلطة، تأتي هزيمة1967المدوية. ولكن بدلاً من أن تقوم السلطة بمصارحة الشعب بحيثياتها وإجراء مراجعة نقدية وتقويم شامل لها، استغلتها لإحكام السيطرة على البلاد، وذريعة لاستمرار حالة الطوارئ والأحكام العرفية؛ وفي ظل شعار ” الحفاظ على النظام التقدمي”؟ ولم تتوقف الصراعات على السلطة، إلى أن انتهت في 16 تشرين الثاني 1970 بنقل سورية من سيطرة الحزب ونخبته العسكرية إلى مرحلة الاستبداد الفردي.
2/2- تكريس استبداد الفرد
حظي انقلاب حافظ الأسد بدعم المعسكرين الدوليين الغربي والسوفييتي، والنظام العربي. حيث كان نظام 23 شباط يبدو في نظر هذه الأطراف متطرفاً ومتشنجاً، ومفتقداً للمرونة والدبلوماسية في سياسته الخارجية، وخاصة في موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي والقرار242 . وكذلك نال النظام الجديد دعم الشريحة التجارية في المدن السورية، في الوقت الذي كانت الفئات البرجوازية والليبرالية قد فضلت الانكفاء وعدم المقاومة مبكرا بعد انقلاب 8 أذار.
شكلت أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” التي شكلَّها الرئيس حافظ الأسد بشروطه، عباءة إيديولوجية ونوعاً من التعددية السياسية الشكلانية لنظامه . استخدمت السلطة الجديدة هذا الإطار الجبهوي وسيلةً لتقسيم هذه الأحزاب وتهميشها وضمان ولائها الدائم. ونجحت بالفعل في تحقيق هدفها، فتحولت هذه الأحزاب فعلياً إلى هوامش تابعة وهزيلة لها. وعلينا ألا نقلل من دور البنية الداخلية والتنظيمية غير الديموقراطية لهذه الأحزاب، وارتباطاتها الإيديولوجية، في دفعها إلى هذا الاصطفاف التابع؛ الذي شكَّل في حينه دعماً للنظام.
و قد ساعد على تدعيم السلطة الجديدة أيضاً، وجود “الأنظمة الشمولية” في دول المنظومة الاشتراكية وبلدان العالم الثالث، التي أعطته شيئاً من الشرعية. وكذلك لعبت ذريعة الصراع العربي الإسرائيلي دوراً في تبرير استلام الجيش لمقاليد السلطة وفي تأبيد الأحكام العرفية وحالة الطوارئ.
وشكلت العلاقات الطائفية والمذهبية والعشائرية والإثنية، مناخاً ملائماً لتطوير آليات القمع على كل المستويات، وسهَّلت على النظام مهمة تهميش المجتمع وتشويهه. واحتلت قوى التأخر هذه، التي عاودت نهوضها مجدداً، موقعاً مؤثراً في المراحل اللاحقة، بدعم من السلطة التي وفرت لها تسهيلات واستثمارات متنوعة الأشكال. وكانت عودة هذه القوى بهذا الزخم المتعاظم نتاجاً مباشراً لقيام الاستبداد، وفي الوقت ذاته ردَّ فعلٍ عليه للدفاع عن نفسها عبر كياناتها (تحت الوطنية).
وبالنسبة إلى حزب البعث، فقد بدأ يتراجع دوره السياسي بعد الحركة (التصحيحية). وأخذ يتحول إلى مجرد جهاز يعمل بمنطلقاته الإيديولوجية لصالح شخصنة النظام، الذي أعطى للرئيس صلاحيات دستورية هائلة. فأخذت تتفاقم مظاهر تعظيم الرئيس وتقديسه، عبر الأجهزة الإعلامية والمنظمات الشعبية التي أحْكِمت السيطرة عليها.
وقام النظام بعملية تدجين كبرى للشعب، عبر منظمات “الطلائع” و”شبيبة الثورة” و”اتحاد الطلبة”، وحزب البعث الذي دفع الناس إلى الدخول فيه باعتباره الحزب الوحيد المسموح به. فلقد تحول هذا الحزب إلى وعاء للانتهازيين والوصوليين والمتسلقين وصارا مجالاً للتقية من غضب النظام وتنكيله. وكذلك سلب النقابات العمالية استقلالها وحرمها من الإضراب والمطالبة بحقوقها تحت شعار”النقابية السياسية”، و سيطر فيما بعد على النقابات المهنية وتم إخضاعها للحزب الحاكم والأجهزة الأمنية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حين بدأ يعتبر استقلاليتها خطراً على استقراره.
ثم أخذ يتعمّق النظام في الاستبداد، من خلال الانفراد بالسلطات والقرارات الخارجة عن القانون، وعبر توزيع المسؤوليات والغنائم على الموالين وتكريس الحكم الأوامري، وعبر استمرار حالة الطوارئ لعدة عقود، والقمع المنهجي المنظّم الفاشي تحت غطاء من القومية والوحدة الوطنية والالتفاف خلف القائد الأبديّ..
لم تتعارض هذه السمات العديدة للنظام مع فئويته، سواءً كنظام حزب واحد قائد للمجتمع والدولة كما جاء في دستور1973، أو بمعنى استخدامه للطائفة أو العائلة كعصبية للسلطة. فعمد النظام إلى التعامل مع المجتمع كمكونات عشائرية وطائفية ومذهبية وإثنية. وذلك بعد أن قام بشرذمة أحزابه وقواه السياسية كي يضمن السيطرة الكاملة على المجتمع. وفي هذا السياق الشامل، عمل على توظيف الطائفة كعصبية للسلطة. وحقق نجاحاً ملحوظاً في ذلك. مع العلم، أنه قد أتيح للمقربين من السلطة والموالين لها على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم تحقيق مكاسب مادية بلا حدود عن طريق التهريب والرشوة والواسطة والاستئثار والاحتكار. ودفع الشعب السوري ثمناً باهظاً لهذه السياسات. و ضمن هذا السياق لم يكن ابناء الطائفة العلوية أقل تأذياً من غيرهم من سياسات السلطة الاستبدادية. فلقد قدموا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كبقية فئات المجتمع، ثمناً باهظا للدفاع عن ضرورة التغيير وتأسيس مجتمع المساواة بين المواطنين، ودفع عدد كبير منهم عشرات السنوات من أعمارهم في السجون. وفي الواقع بقدر ما يقتضي الأمر عدم تضخيم المسألة الطائفية والمبالغة فيها، يجب فهم وتشخيص واقع هذه المسألة، وعدم التقليل من شأنها، ومواجهة أخطارها و ومعالجة نتائجها بما يخدم مصلحة المجتمع بكامله.
وهذه المسألة بالذات، تعيدنا إلى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حين نشأت ظروف العنف والعنف المضاد بعد تعرض البلاد لاستقطاب طائفي خطير. فلم تمنح السلطة في تلك الفترة فرصة للحل السياسي الذي طرحه (التجمع الوطني الديموقراطي) وقوى اجتماعية عريضة في المجتمع السوري، وذلك بالعودة إلى الحياة الدستورية والنظام الديموقراطي.
فقد أضاعت السلطة على البلاد آنذاك، برفضها الخيار الثالث السياسي والديموقراطي السلمي، ولجوئها إلى العنف كخيار وحيد لسد كل المنافذ أمام المخرج الديموقراطي، فرصة كبيرة كلفتها غالياً على حساب تنميتها وتحديثها. وانعكس خيارها هذا على سورية بأزمة اجتماعية شاملة غير مسبوقة، عنوانها القمع العاري، ومحتواها الفساد المتفاقم والركود والكساد والبطالة. وكذلك أضعف هذا الخيار الدولة والمجتمع بشكل عام، وأضعف السلطة ذاتها، بحيث لم تعد تملك القدرة على مواصلة حكم البلاد بهذه الطريقة. ومن ثم جاءت التغيرات الدولية الدرامية في أوائل التسعينات لتضعف لدى هذه السلطة القدرة على المناورة السياسية التي كانت متوفرة لها قبل أن تضع الحرب الباردة أوزارها.
3/2- الاقتصاد السوري بين الشعارات….. والواقع
نظراً للعلاقة العميقة بين الاقتصاد والسياسة، بقي الاقتصاد السوري ضعيفاً ومأزوماً لكونه محكوماُ منذ فترة طويلة بمجتمع سياسي ضعيف ومجتمع مدني لا يقل عنه ضعفاً.حيث يقتصر المجتمع السياسي في سوريا على سلطة تنفيذية غير منبثقة من سلطة تشريعية منتخبة بإرادة شعبية، والسلطة القضائية لا تملك استقلاليتها ولا توجد سيادة للقانون، و لا يوجد للإعلام أي قدرة على الرقابة فهو تابع تماماً للأجهزة الأمنية، والمعارضة السياسية ممنوعة.
أمَّا المجتمع المدني فهو مؤمم ومسيطر عليه من الأجهزة الأمنية. أي اقتصاد تحكمه مثل هذه البنية السياسية، ويفتقر لأي رقابة شعبية أو قانونية، يفتقد لأي ديناميكية من أجل إصلاحه، ويبقى دائماً لقمة سائغة أمام الفساد ومحكوماً به. وهذا يعني أن قوة الأجهزة الأمنية لدى السلطة وقدرتها على قمع السياسة والمجتمع المدني لا تمنحان الدولة قوة بل تزيدانها ضعفاً.
من هنا، فإن فصل الإصلاح الاقتصادي عن الإصلاح السياسي يقف وراء فشل كل شعارات الإصلاح الاقتصادي التي تكلمت عليها السلطة؛ سواء على مستوى الإصلاح الزراعي أو إصلاح القطاع الصناعي أو إصلاح الإدارة الاقتصادية. فكلها وصلت إلى الطريق المسدود، بما فيها شعارات التطوير والتحديث والإصلاح الإداري.
هذه البنية السياسية والمدنية الضعيفة، لم تطور اقتصاداً قوياً ولا مجتمعاً إنتاجياً حقيقياً؛ بل كانت دائماً تعيد إنتاج اقتصاد ضعيف ومأزوم، وعلاقات اجتماعية شبيهة بالعلاقات الاجتماعية السلطانية التي كانت قائمة على الاستبداد والنهب والفساد. حيث القسم الأعظم من الناتج الاجتماعي يذهب لأرباب السلطة وحواشيها وخدمة أمنها وبقائها ورفاهيتها واحتفالاتها.
وإن لم يكن في المجتمع السلطاني القديم ما نراه الآن في مجتمعنا من سيارات فارهة وأبنية شاهقة وفنادق فخمة وهواتف محمولة ومقاهٍ للأنترنت، لكن حين ننظر إلى لعلاقات بين السلطة والمجتمع، والعلاقات بين المواطنين أنفسهم، وعودة الروح إلى البنى تحت الوطنية(العشيرة والطائفة والعائلة)، نرى أن العلاقات الإقطاعية المتجددة حاضرةٌ في حياتنا اليومية؛ ولها دلالاتها ومفاهيمها في الخطاب السلطوي (الأب القائد، راعي المسيرة، المكرمات، المنْح والعطاءات…). ونراها في ذلك الحجم الهائل من المخبرين الذين لاتخلو منهم دائرة أو حي أو قرية أو مدرسة أو كلية أو سيارة أجرة أو كشك. ومن أكبر الدلالات على تأخر علاقاتنا الاجتماعية ونكوصنا عن سمات وأسس الدولة الحديثة، هو مصير (مفهوم الشأن العام، أي مفهوم الجمهورية)، حيث راحت تكتنفه منذ أذار 1963 حالة واهية ورمادية. بكل المعاني، هذه العلاقات الاجتماعية المتأخرة التي عادت إلى مجتمعنا السوري تتناقض مع مفهوم الجمهورية الحديث.
I- أسباب الأزمة الاقتصادية: بالإضافة إلى السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية في سورية الكامن في ضعف البنية السياسية، يمكن أن نتكلم على الأسباب التالية الأخرى:
(أ)- الاعتماد على الموارد العابرة والمؤقتة: المساعدات الخارجية، ارتفاع أسعار النفط، المواقف والحالات السياسية العابرة المؤقتة (حصار العراق أو التواجد في لبنان، والأموال المتدفقة من السوريين المهاجرين والعاملين في دول الخليج.
(ب)- معدلات النمو السكاني العالية، وتعاظم البطالة والفقر بشكل ينذر بالكوارث الاجتماعية.
(ج)- تخلف قطاع الزراعة: الذي يعاني من التراجع والتفاوت في إنتاج المحاصيل الزراعية، ومن صغر الحيازات والاستثمارات، ونقص الرساميل، وشح المياه.
(د)- تدهور أوضاع القطاع العام: الذي يعاني من نظام أوامري قمعي، وأنظمة إدارية بيروقراطية متخلفة، وبنية قانونية معيقة، وتعدّد الجهات الوصائية، وتأخّر تقني هائل، وعمالة زائدة وأجور منخفضة، وإنتاجية منخفضة ، وإنتاج رديء متكدس في المخازن، وخسائر متراكمة. وانتشار روح اللامبالاة والكسل وغياب قيم العمل والإنتاج.
(هـ)- تدخل الأجهزة ورجال السلطة في نشاط القطاع الخاص الاقتصادي، وعدم سيادة القانون واحترامه، وارتفاع مستوى العمولات والخدمات والتراخيص إلى حدِّ فرض الشراكة أحياناً؛ كل هذه الأمور أدت إلى انخفاض حجم استثمار القطاعين الخاص والأجنبي في سورية، وخاصة في المشاريع الصناعية الكبيرة والاستراتيجية، وأدى هذا التدخل إلى عدم عودة الرساميل السورية الموجودة في الخارج. وفي مجال الحرية الاقتصاديّة، يأتي تصنيف سورية في مرتبة متأخرة جداً وهي ( 141/161)، ضمن الدول التي شملتها الدراسة.
(و)- السياسة المالية والمصرفية المتخلّفة: على الرغم من القوانين الجديدة التي أفسحت في المجال للمصارف الخاصة في سورية، إلى جانب القوانين الصادرة من أجل تطوير مصارف الدولة، بقيت السياسة المصرفية محكومة بقوانين لا تتمتع ببيئة تشريعية شفافة ولا تخدم استثمار القروض والرساميل في القطاعات الإنتاجية رغم ضعفها. أما السياسة الضريبية فكانت ولا تزال غير عادلة، متعددة المطارح، متناقضة الأهداف، بحيث تطال الفئات ذات الدخل المحدود بشكل متزايد، وهي لاتعود عليهم بأي تحسين لظروف حياتهم ومعيشتهم.
(ز)- الفساد الشامل: لم تعد مؤسسة في المجتمع لم يشملها الفساد وهذا ينطبق على النقابات العمالية والفلاحية والحرفية والمهنية.
(ح)- البيروقراطية الشاملة في إدارة الموسسات الاقتصادية.
ط)- أزمة التعليم والمعرفة والتكنولوجيا: حيث لا توجد حتى الآن سياسة ربط وتنسيق جدية بين المتطلبات الاقتصادية والإنتاجية والتعليم الثانوي والجامعي، والأموال المخصصة للبحث العلمي فهي قليلة جداً، ورغم قلتها فهي لا تستخدم في الأهداف التنموية المرجوة منها. ولا تزال سورية في مرتبة متخلفة فيما يتعلق بنظم المعلوماتية والاتصالات والانترنت.
(ي)-هجرة العقول وامتناع الدارسين عن العودة في الظروف السياسية والاجتماعية السائدة.
لقد وصل الاقتصاد السوري إلى وضع، يحتاج إلى إعادة هيكلة عميقة، بعيدة عن الاستنسابية والمواقف الإيديولوجية المسبقة، وتستند إلى الطرق والأساليب العلمية والتقنيات الحديثة، وتأخذ بالاعتبار مصلحة الاقتصاد الوطني وتعافيه أولاً وأخيراً. وهذا يتطلب تغيير العلاقة الحالية بين الاقتصاد والسياسة، فتغيير المستوى الاقتصادي يتطلب تغييراً في البنية السياسية باتجاه الديموقراطية.
II- العلاقات الاقتصادية/ الاجتماعية: عاش المجتمع السوري مسار تطوره الطبيعي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفترة ما بعد الاستقلال. واحتلت الطبقة الوسطى في ذلك الحين، موقعاً اقتصاديا واجتماعياً وثقافياً متميزاً، ودوراً رئيساً إلى جانب القوى الأخرى في الحراك السياسي الناهض في تلك الفترة، وذلك نتيجة وجود المجال السياسي المفتوح وحرية الأحزاب السياسية في ممارسة نشاطها.
لقد لعبت بعض التطورات الدولية والإقليمية دوراً مؤثراً في تكريس هذا النظام الذي عاش فترته الذهبية في سبعينات القرن الماضي، وخاصة بعد ان تدفقت الدولارات النفطية عليه في أعقاب حرب تشرين عام 1973 . حيث شهد الاقتصاد السوري آنذاك طفرة من النمو، وتوسعاً في قطاع الدولة، وذلك بإنجاز الكثير من المشاريع في ميادين الاقتصاد كافة، الصناعية والتجارية والخدمية. لكن هذه المشاريع سرعان ما ترافقت مع كل أشكال الفساد التي تجلت في السمسرة والعمولات والرشاوى والمحسوبية والنهب المكشوف، وفي تدهور قيم العمل والإنتاج. فأخذت السلطة تُقطِعُ كل فروع الصناعة والزراعة والنقل والاتصالات والتجارة الخارجية والداخلية والمصارف والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة للمقربين والموالين. وراحت تتحكم في توزيعِ الثروة على الأفراد، وتتلاعب بمحتوى جيوبهم، بما يتناسب مع درجة ولائِهم لها. وبدأ المجتمع يشهد تشكل مجموعة من أصحاب الثروات الكبيرة التي أخذت تعمل على تعميم الفساد وتكريس قيم النفعية الشخصية والتفكك الاجتماعي. وأدى هذا المسار إلى تموضعات اجتماعية جديدة:
(أ)- تدهور الطبقة الوسطى: فقد أخذ يدفع هذا التطورالاجتماعي أكثرية الفئات البينية من موظفين ومعلمين ومهنيين وحرفيين باتجاه الكفاف والفقر. بينما أخذ الأغنياء الجدد يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً. وتضاعفت ثروات أفراد الطبقة الأولى لتبلغ مستويات فلكية، وازداد عدد الذين تحت مستوى خط الفقر إلى حوالي ستين بالمائة من الشعب السوري.
(ب)- الطبقة الغنية الجديدة : تشكلت هذه الطبقة بشكل رئيسي من النهب المنهجي للدولة والمجتمع خلال عقودٍ من الزمن. فاستغلت جماعة السلطة غلبتها ، في جمع ثرواتها الهائلة من العمولات الخيالية على كل ما يدخل إلى البلاد أو يخرج منها، وذلك عبر تقاسم القطاعات الاقتصادية وفق كوتا محددة يتفق عليها، واستغلت في ذلك فساد إدارة المؤسسات والفوضى المالية والمصرفية. وتشكلت هذه الثروات الهائلة أيضاً من احتكار الاستيراد والتصدير والتوزيع وخاصة ما يتعلق بالمواد الغذائية الرئيسية، ومن منح تراخيص المعامل والمنشأت والتلاعب باستملاك الأراضي ورخص البناء الاستثنائية في الأراضي الزراعية، ومن التهريب المنظم والمدعوم والبلطجة والخوات المباشرة والإتجار بالممنوعات. في ظل هذه العلاقات الاجتماعية، كان طريق التطور الرأسمالي التقليدي والطبيعي مغلقاً. ولا يسمح لأي نشاط إنتاجي خارج قطاع الدولة إلا عبر مشاركة الشريحة السلطوية الجديدة.
(ج)- وضع الطبقة العاملة: وهي تعتبر من أكثر الطبقات التي تعرضت للإفقار. فقد نجح النهج الأوامري في الإدارة، وسيطرة الأجهزة الأمنية ونخب الحزب الحاكم، في تدجين الحركة النقابية وحرف أهدافها من رعاية مصالح العمال المادية والمعنوية والنضال من أجلها، إلى دعم سياسات السلطة وتوجهاتها تحت شعار “النقابية السياسية”. وكان يتدهور وضع هذه الطبقة طرداً مع تدهور القطاع العام، الذي أصبح خاضعاً بشكل كامل للفساد والنهب، وساد فيه الكسل والتواكل واللامبالاة. وهذا أدى إلى أن يفقد المجتمع أهم قيمه الرافعة، قيم العمل والإنتاج والأخلاق. أما وضع العمال في القطاع الخاص، فهو ليس بأفضل حال من عمال قطاع الدولة، فهم يرزحون تحت شروط قاسية تجبرهم على الخضوع لابتزاز أرباب العمل نتيجة تدني مستوى الأجور وندرة فرص العمل. وقد أخذ يتكرس تقليد جديد في هذا القطاع، وهو إجبار العامل على توقيع استقالة مسبقة مرفقة مع عقد العمل.
(د)- وضع الريف والفلاحين: في هذا القطاع كانت هنالك تحولات مختلفة بتأثير بنية النظام ونهجه. فقد تفاقمت هجرة الريفيين إلى المدن، بسبب عدم توفر إصلاح زراعي حقيقي أو رسملة زراعية ملموسة، وعدم وجود سياسة جدية تهدف إلى تحسين وضع الريف وتمدينه وتأمين الخدمات له كما حدث في بلدان أخرى. فهذا النزوح الكبير قد أدى إلى ترييف المدن وتخلفها، وإلى تسييج كل منها بحزام للفقر، يتألف في بعض المدن الكبيرة من عشرات الأحياء كما هو الحال في دمشق وحلب.
لقد شهد الإنتاج الزراعي نشاطاً ونمواً ملحوظين بفضل أموال السوريين المهاجرين والعاملين في الدول الخليجية، ولقد شكل هذا النمو سنداً داعماً للنظام في الريف وأمَّن له حياداً وهدوءا ًنسبيين. لكن هذا النمو في الريف لم يستمر، في ظروف القمع والتسلط ومطامع الطبقة الجديدة غير المحدودة. وكذلك الظروف الإدارية كانت عاجزة عن تأسيس سياسات تسويق وتسعير ومساعدات ضرورية للإنتاج الزراعي الوطني كما هو الحال في الكثير من البلدان. ولوحظ في السنوات الأخيرة سياسات حكومية مجحفة بالمزارعين والفلاحين وبالإنتاج الزراعي عموماً، و كان من أكثرها إجحافا: رفع اسعار المحروقات وتحرير أسعار الأسمدة. وهذا أدى إلى تدهور وضع المزارعين وتراجع دخولهم، وانضموا بذلك إلى جمهور الفئات المتأذية من النظام ونهجه. و هنا لا يمكننا أن نغفل الأزمة الاجتماعية المتفاقمة على كل المستويات في المنطقة الشرقية من سورية، التي أجبرت عشرات الألوف من سكان الريف في هذه المنطقة على النزوح إلى أطراف المدن المختلفة في شمال سورية وغربها وجنوبها بحثاً عن فرصة العمل ولقمة العيش.
(هـ)- البطالة: كان من الطبيعي، أن يفرز هذا المسار الاجتماعي بطالة كبيرة تستفحل يوماً عن يوم بشكليها السافر والمقنع. ويعتبرها بعض الاقتصاديين أنها أهم مشكلة تواجه الاقتصاد السوري. وبالنسبة للسوريين المقيمين، كان إجمالي نسبة البطالة هو 22.6%(بين الرجال17.5% وبين النساء 53%) وهذا طبعاً دون حساب الفلسطينيين والأكراد غير المجنسين والمهاجرين العراقيين. وهذا يعني ان البطالة تصل إلى حوالي30%. وتتفاقم البطالة أكثر في صفوف الجيل الجديد، الأمر الذي وضعه في حالة من الإحباط والاغتراب. وكان لهذا دور هام أيضاً في إبعاد الشعب السوري، بغالبيته الساحقة، عن الاهتمام بالشأن العام والحياة السياسية.
III- المظاهر الاجتماعية والنفسية: كان للأزمة السياسية/الاقتصادية انعكاسات ونتائج بالغة الأذى على المظاهر الاجتماعية كافة، وعلى مصير الفرد السوري وحاضره ، ومستقبله.
(أ)- في المجال التربوي والتعليمي: هيمنت أنماط التلقين والتكرار والشكلانية والبصم، عبر تسطيح المناهج وقتل الدافع التربوي والرسالي عند المعلمين والمدرسين والأساتذة الجامعيين. ولقد صار عادياً ومألوفاً لدى هؤلاء الإقدام على الرشوة وبيع الأسئلة والتحكم بمستقبل ومصائر الطلبة. ولقد تحول الطلاب إلى قطيع مردد للشعارات التي تمجد السلطة الاستبدادية وعبادة الفرد. وهنالك انهيار ملموس على مستوى التربية والتعليم أصبح معروفاً لدى المنظمات العالمية التي تهتم بذلك. والتعليم الجامعي أصبح شبه مغلق أمام معظم شرائح الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى، التي لا يفسح لها المجال في التعليم الجامعي الرسمي، ولا تتمكن بإمكانياتها المادية المتواضعة الانتساب إلى التعليم الجامعي الموازي أو الخاص.
(ب)- في مجال القضاء: فقد القضاء تقريباً ثقة مواطنينا، بعد أن وصل إلى درك من الفساد لا يمكن وصفه؛ وهو لم يعد ملاذاً لمن يشعر بالغبن أو الظلم. وليس بأفضل من ذلك وضع مهنة المحاماة التي تحولت باتجاه السمسرة والعمولات، والقبض من الطرفين المتخاصمين بدلاً من الدفاع عن الحق والقانون. ولقد طال التدهور جميع المهن الأخرى كالطب والصيدلة والهندسة..
(ج)- في المجال الأخلاقي والنفسي: يعاني شعبنا من خسائر كبيرة وهامة في هذا المجال. فقد تملك أفراد مجتمعنا الشعور الدائم بعبوديتهم للسلطة، التي انتزعت منهم بشكل متدرج ومنهجي قيم الشجاعة والكرامة. وهنالك انحسار لقيم العمل والنزاهة والصدق، أمام تفاقم الفساد والمحسوبية والنفاق. ووفَّر سلوك السلطة أفضل بيئة في بلادنا لاستيطان الأمراض “النفسية – الاجتماعية”، كالنفاجية والاستعراضية والباطنية والتقية والازدواجية، ومتلازمتي (الدونية / العظمة)، و(السادية/ المازوخية)، والكذب والتملق والاحتيال والوشاية، وتسويغ وتبرير الرشوة والتهريب.
هذه البيئة المشبعة أيضاً بالتمييز وعدم تكافؤ الفرص، صارت مستنقعاً خصباً للتزمت والتعصب والانطواء والنكوص الاجتماعي والعدوانية والتطرف والعنف.
(هـ)- هجرة الشباب : كل هذه السياسات والأجواء السائدة، كانت من ضمن الدوافع التي أدت إلى الهجرة الواسعة النطاق للعقول والشباب عموماً. وصارت الهجرة هي الأمل الأكبر لشباب سورية.
(و) تفاقم الجريمة والتشرد والجهل والدعارة وتشغيل الأطفال والتمييز ضد المرأة.
IV- حالة المجتمع السياسي في سورية : أدى قمع المجتمع والمعارضة بكل أشكالها، وعدم لجوء السلطة إلى الحلول السياسية في فترة العنف والعنف المضاد، وتغييب دولة القانون، إلى صحوة الانتماءات الضيقة الطائفية والمذهبية العشائرية والعائلية، باعتبارها كيانات توفر حماية للأفراد لا توفرها لهم الدولة ومؤسساتها.
والمسألة الخطيرة الأخرى التي علينا أن نشير إليها، هي عزوف السوريين عن السياسة، وتنامي الشعور بالإحباط وعدم الجدوى لديهم. ولهذا العزوف أسباب موضوعية:
أ- سيطرة الخوف على المجتمع، وعمليات القمع اللا إنسانية التي تعرّض لها أبناء شعبنا، بعد سيطرةالأجهزة الأمنية على البلاد وممارستها سلطات مفتوحة غير مقيّدة بقانون، و في ظل ظروف دولية لم تكن تشكّل ضغطاً على السلطة يردعها عن مثل تلك الارتكابات.
ب- نهج النظام الشمولي، الذي جعل الناس جميعاً ينضوون في “مؤسّسات” مختلفة تراقبهم وتضمن هدوءهم وتوظّفهم في سياسة التطبيل والتزمير والتدجين. فلا حريات نقابية، ولا حرية للعمل الحزبي إلاّ ضمن إطار “الجبهة” و”الحزب القائد”، الذي تضخّم إلى حدٍّ أصبح فيه الانتماء إليه لايشكل معنى سياسياً بقدر ماهو اتّقاء لشرِّ السلطة ونيل لحظوتها ومنافعها.
ج- ومن ناحية ثالثة لم تستطع قوى المعارضة أن تتجاوز حالتها السلبية، واضطرارها التزام الحيطة والحذر لفترة طويلة بهدف الحفاظ على وجودها وفي حدوده الدنيا. هذه الأجواء زعزعت ثقة الناس بالمعارضة بعد أن فقدت ثقتها بالعمل السياسي وجدواه. وهذه مأساة كل الأنظمة التسلطية.
في خضم هذه الأوضاع المريرة، عادت الديموقراطية لتطفو على السطح كمطلب عام وضرورة للخروج من الأزمة في سورية. وأخذت تتسع دائرة الأفراد والجماعات والأحزاب التي ترى في الديمقراطية مخرجاً للبلاد من أزمتها العامة والشاملة، وخياراً تاريخياً للتقدم واللحاق بركاب العصر. وكذلك بدأ يتنامى خط معتدل في التيار الإسلامي، يرى أن الحل يجب أن يكون وطنياً، ويستند إلى الحوار المباشر بين اتجاهات الرأي كافة دون نبذٍ أو استبعاد لأي منها، من أجل تأسيس نظام سياسي ديمقراطي يقوم على التعددية والتداول السلمي للسلطة.
وهنا يجدر التأكيد على أن فهم أي ظاهرة أو مشكلة، يتحدد على ضوء المتغيرات التي تتم في مجالات السياسة والمجتمع والاقتصاد. لذلك فمن الأولويّات التي يستدعيها الواقع السوري، العمل على تحرير المجال السياسي في المجتمع ليكون شاناً عاماً لكل المواطنين.
4/2- من الاستبداد إلى الديموقراطية…
I- انفتاح الآفاق أمام التغيير: ظلت الأولوية المطلقة في سياسات النظام منذ نشوئه لاحتكار السلطة واستمرارها بأي ثمن. وتبرز هذه الأولوية في قمعه الفاشي خلال أزمته في عقد الثمانينات المشؤوم، وفي شخصنة النظام وتعميم الفساد. قادت هذه “السياسة المبدئية الثابتة” في بداية التسعينات إلى الالتحاق بالأمريكيين في التحالف الدولي ضد العراق، وفي مؤتمر مدريد و”عملية السلام” التي أطلقها، وذلك لتأجيل مواجهة الواقع والامتناع عن القيام بأي إصلاح. وفي الوقت الذي تراجعت قمعية النظام ببطء في عقد التسعينات، فقد استمر في لجم جميع أشكال استقلال المجتمع المدني والاعتراض السياسي.
جاءت وفاة حافظ الأسد بعد قيادته النظام ثلاثين عاماً متتالية، وعملية توريث الرئاسة، لتفاقما ضعف شرعية النظام . ومن ثم أتت أحداث الحادي عشر من أيلول التي أعادت بعدها الولايات المتحدة النظر في سياستها الشرق أوسطية، لترى مصلحتها في تغيير الأنظمة القائمة التي استمرت في دعمها أكثر من نصف قرن، أو إجراء تبدلات فيها، بما يساعد على تجفيف البيئة التي ترى فيها منبعاً للتطرف. وهكذا فقد النظام متّكأً خارجياً كبيراً. ثم أتى الاحتلال الأمريكي للعراق ليقلب توازنات المنطقة، ويغيّر الوضع الجيوسياسي فيها. وهنا أصبحت الرغبة الأميركية بتغيير سلوك النظام أكثر إلحاحاً وراهنيةً. وكذلك الحال، النضال المتأجج في الإقليم الشرق الأوسطي من أجل الحرية والديموقراطية في أكثر من بلد، لا يصب في مصلحة النظام التسلطي في سورية وإنما يزيد في عزلته.
وانفتاح آفاق االتغيير لم يكن فقط بسبب العوامل الخارجية، وإنما أيضاً بسبب عزلته وعجزه عن الاستمرار بالحكم بالطرائق القديمة، التي كشفتها وعرَّتها ثورة الإعلام وانفتاحه من غير حدود، وبسبب الأزمة الاقتصادية المستفحلة على كل المستويات، وتدهور الوضع المعاشي غير المسبوق للمواطنين.
لقد أصبحت ضرورة التغيير، لا تلقى دعم وتأييد المعارضة وحدها، بقواها المختلفة، والشارع العريض الصامت الذي يشكّل كموناً معارضاً هائلاً، بل حتى من قواعد النظام الدنيا التي أخذت ترى أن التغيير لمصلحتها. إن ضغوط الوقائع الجديدة في العالم، والمنطقة، والداخل السوري، قد أسهمت في انفتاح آفاق وإمكانيات التغيير.
II-المرحلة الانتقالية وآلياتها: تقوم الديمقراطية على مبادئ لا يمكن تحقّقها من دونها:
أ- سيادة الشعب من حيث هو مصدر السلطات ومنبعها.
ب- سيادة القانون، والمساواة كنقيض للتمييز بأشكاله كافة.
ج- الحريات الأساسيّة في الرأي والاعتقاد والتعبير والاجتماع والتنظيم، والتعدّدية السياسية.
د- تداول السلطة ومنع احتكارها، وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
تلك هي الديمقراطية، وعلى هذا الأساس يمكن تفكيك النظام الشمولي التسلطي، وتوطيد الهوية الوطنية وتأسيس وضع ينتهي فيه الاستبداد دون رجعة. مثل هذه الأسس تخمد لدى المواطنين روح استرجاع الهويات الصغرى، بعد أن تصبح الدولة الحامي الأساس لجميع أفرادها وتضمن حريتهم وحقوقهم المدنية والسياسية ومساواتهم وتكافؤ الفرص بينهم.
وعلى طريق هذا الهدف، تكون المرحلة التمهيديّة بردِّ المظالم لأهلها وإنهاء الآليّات التي قام عليها الاستبداد. وهذا يتطلب رفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وعودة المنفيين قسراّ أو طوعاّ إلى البلاد، والكشف عن مصير المفقودين، وإطلاق حريّة التعبير للجميع، وسواها من الإجراءات والتدابير الأخرى.
وهذا الأساس الديموقراطي للتغيير لايتحول من حالة الإمكان إلى حالة الفعل، إلاّ بمقدار تطوير وحدة قوى المعارضة بطيفها الجامع، وتوافقها على برنامج الحدّ الأدنى للتغيير الديموقراطي، وإسهامها في تأسيس الكتلة التاريخية اللازمة له. هذه الوحدة، سوف يدعمها بروز وتبلور قوى جديدة، قد تتجاوز القوى القديمة، ما لم تتدارك هذه أوضاعها وتجدّد نفسها.
II- في جدل التغيير: رغم حاجة البلاد موضوعياً إلى التغيير، لا يبدو أن هنالك قوى قادرة على تحقيق اختراق تغييري. فالنظام، بسبب بنيته السياسية وسمته الفئوية، لا يرغب بل أنه لا يمتلك القدرة على الإصلاح وإعادة البناء والتغيير الديموقراطي. فكل جهده ينصب على إنتاج ذاته، في الداخل بالقمع، وفي الخارج عن طريق (بيع) مواقعه وأوراقه التفاوضية. ولكن في ظل التغيرات الدولية لم تعد مجدية خطة النظام القديمةهذه. من هنا نرى أن تناقضات أزمته تتعمق. فهولم يعد اللاعب المطلق الصلاحية في لبنان، وكذلك عاجز عن حلّ المسألة الوطنية واسترجاع الجولان المحتل بوسائله الداخلية والذاتية. فمنذ عام 1973أناط هذه المسألة بأوراق إقليمية له تاثير عليها(بعض المنظمات الفلسطينية ومن ثم حزب الله وحماس). ولذلك فهو يحاول بكل الوسائل الآن إعادة إنتاج نفسه بالوسائل الخارجية الدولية والإقليمية. وإن كان في الفترة الأخيرة قد حقق فتح بعض الثغرات في جدار عزلته الخارجية، لكن حتى الآن أي انفتاح خارجي من الغرب والولايات المتحدة على نظامه مرهون بتغيير سلوكه وسياساته. و يبدو أن النظام متردد كثيرا في ذلك، بسبب طبيعته الاستبدادية المغلقة، وخوفه من فقدان آليات إبقاء السيطرة الكاملة على المجتمع.
ليس هناك من مخرج مشرف لسورية غير الانتقال السلمي والمتدرج، باتجاه نظام تعددي دستوري. فنواة الكتلة التغييرية تتكون بالضرورة من القوى التي قاومت الاستبداد، لكنها لا تقتصر عليها. والمسألة التي تواجه القوى المعارضة التي قاومت النظام الاستبدادي مسألة مركبة: من جهة العمل على تأهيل نفسها للعمل السياسي على المستوى الوطني ، ومن جهة أخرى وضع الخطط والبرامج الاجتماعية التي تعمل على تحريك قواعدها الاجتماعية التي تستند إليها في عملية التغيير.
إن تحقيق الاختراق الديمقراطي يتطلب توسيع قاعدة العمل العام وتجاوز الأحزاب الطغيان الإيديولوجي الذي بقي مسيطراً على اغلب الأحزاب، وذلك من أجل الدخول إلى قطاعات واسعة غير مسيّسة من الرأي العام خاصة الشباب والنساء والصامتين؛ وتنشيط أوسع ما يمكن من المعارضة الكامنة في المجتمع واجتذابها إلى الشأن العام. وفرص هذا التجاوز تكبر بقدر ما تتتحلى المعارضة بعقلية وطنية عملية ومنفتحة على الداخل المتنوع وعلى العالم.
IV–الهواجس حول ضمانات ديمومة الديموقراطية: هناك ثمانون بالمائة من شعبنا إن لم يكن أكثر، قد ولدوا وترعرعوا وعاشوا في كنف الاستبداد، ولم يختبروا مرحلة الحياة الديمقراطية التي مرت بها سورية، وقد عرفوا أنها لم تصمد وانهارت أمام الانقلابات العسكرية؛ وهذا ما زرع فيهم هواجس مختلفة حول التغيير وإمكانية استمرار وبقاء النظام الديموقراطي.
لذلك من غير المستغرب أن يشغل الأغلبية الساحقة من الذين عانوا ويعانون من الاستبداد هاجس كبيرحول إمكان عودة هذا الاستبداد، بعد االسير في عمليّة بناء النظام الديموقراطي، أو بعد نجاح أيّة قوّة سياسية بالانتخاب، وتشبّثها بالحكم وإلغائها لمبدأ تداول السلطة.
وكذلك هنالك الهواجس الإثنية والمذهبية. التي تخشى الديمقراطية للوهلة الأولى بتأثير التأخّر أو ترويج المستبدّين، من حيث هي تأكيد على حكم الأغلبية. و بالفعل فهذه المكونات تخشى الأغلبية بسبب انتمائها المذهبي والقومي، وليس بسبب برنامجها السياسي. لذلك فحتى يكتسب الناس صفة المواطنية، لا بدَّ من أن تسود: الحرية لكل المواطنين بغض النظر عن انتمائهم، والمساواة بينهم أمام القانون، وفي المشاركة السياسية. حيث يتحول مفهوم الأغلبية وحركتها من الشكل الأهلي إلى الشكل المدني، وتصبح الأغلبية سياسية، متجاوزةً للجماعات القومية والدينية والمذهبية والعشائرية، ومعززة بالثقافة المدنية والمواطنية.
إن الحقوق المدنية والسياسية والثقافية للأكراد السوريين، وحلّ مسألة المحرومين من الجنسية، وتلك المتعلّقة بحقوق المواطنة الكاملة، لهم ولجميع مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية، ترتبط بشكل عام بحل المسألة الديمقراطية. والاستبداد حين يظلم أكثرية أو أٌقلّية، ويستخدم أقلية أو أغلبية لتحقيق غايته واستدامة حكمه، لا يمكن أن يكون ضمانة لأحد، وهذا ما بينته تجارب الشعوب جميعها.
في التجارب المعاصرة، هناك ما يكفي من الضمانات لقطع الطريق على رجعة الاستبداد. منها ما هو موجود في الشرائع الدولية، أو ما يمكن توثيقه في البنى والمؤسسات الإقليمية في المستقبل.
مع ذلك يبقى العقد الاجتماعي/الوطني الضمانة الحقيقية، وهو تفاهم وخلاصة حوار قبل أن يكون وثيقة يوقّعها الجميع. وتأخذ هذه الوثيقة قوتها عند ترجمتها في الدستور الوطني الديموقراطي الحديث، الناظم الجامع للحياة السياسية، و للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والدولة.
وكذلك يضمن الدستور أن تكون الدولة مركز إجماع وتوافق، وهي الحامية والراعية لمصالح الأفراد والجماعات، وتمثّل مصلحة الوطن والمجتمع بكامل مكوناته، وليست مجرّد أداة للقمع والتسلّط في أيدي طبقة سائدة أو حزب قائد أو طغمة متسلّطة أو فردٍ مستبد. الدولة بقوانينها وتنظيماتها ونظمها التعليمية وأجهزتها المختلفة، بما في ذلك الجيش وقوى الأمن، كلّها يجب ان تكون في خدمة الدستور واحترامه.
فوق كل ذلك، لن يضمن صيانة الدستور وحقّ تداول السلطة وحقوق الجميع إلاّ الشعب نفسه، الشعب القويّ المنظّم الحريص على الديمقراطية ذاتها أكثر من حرصه على أية مجموعة سياسية أو فئوية، والذي ينفضّ عن القوة التي انتخبها، وينقلب عليها إن انقلبت على الدستور.
وفي النظام الديموقراطي، يصبح الحراك الشعبي في الشارع حارسَ الدستور والحريّات والحقوق. وبعد أن تطوّر العالم، بإعلامه ورقابته وشرائعه، لم يعد هنالك من هو قادر على إسكات شعب حرٍّ يرى في الأفق خطراً على حريّته.
وكذلك في النظام الديموقراطي، تعود الديناميكية للاقتصاد، بعد أن كانت مأسورة، وينفتح المجال أمامه للنمو والتقدم. وهنا الاقتصاد بدوره يؤمن للديموقراطية ضمانة كبرى بعدم رجعة الاستبداد.
*
الفصل الثالث
القومية العربية.. من محاولات النهوض إلى الانحدار..
1/3- محاولات النهوض والاستقلال العربي
بعد حصول البلدان العربية على استقلالها في المشرق العربي، ومن ثم في المغرب. لم تتمكن النخب التي تسلمت الحكم بعد الاستقلال من تحمل مستحقاته تماماً بسبب بنيتها الوطنية الاجتماعية المتأخرة. ففشلت محاولاتها في التحديث، سواء ما يتعلق بتوسيع المشاركة السياسية للشعب بكامل فئاته، أو على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو في مواجهة التدخل الخارجي والعدوان الإسرائيلي الذي يشكل التحدي الأبرز. فقد بقيت البنية السياسية الوطنية في الأقطار العربية التي استقلت حديثاً هشةً أمام التدخلات الخارجية، وضعيفة في الداخل أمام ضباط الجيش التواقين إلى السلطة. وهذا ما فتح باب الانقلابات في أكثر من بلد عربي.
في ظل هذا المناخ، قامت حركة 23 تموز في مصر، تحت شعار الثورة على النخب والاحزاب السياسية الحاكمة، التي فشلت في التحديث والتنمية، وتقاعست عن مواجهة التدخلات الخارجية والعدوان الصهيوني، وحرمت الشعب من حقوقه الاجتماعية والسياسية.
وإذا اعتبرنا حركة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، أنها كانت المحاولة الأولى للنهوض العربي؛ ففي هذه الفترة من خمسينات القرن الماضي، بدأت المحاولة الثانية لهذا النهوض تأخذ مداها الأكبر والأوسع. وقد تجلت هذه المرحلة بأحداث جسام مثل: تأميم قناة السويس، ومواجهة العدوان الثلاثي، والتصدي للمشاريع والأحلاف الاستعمارية ،وتحقيق الوحدة بين سورية ومصر.
وكما هو الحال في حركة (محمد علي)، التي امتدت مفاعيلها إلى سورية والجزيرة العربية؛ فكذلك التجربة الناصرية لم تقتصر مفاعيلها على مصر، وإنما امتدت لتؤثر على الكثير من البلدان العربية مثل سورية واليمن والعراق والجزائر وليبيا والسودان. وهي عدا عن كونها محاولة لبناء الدولة القومية، وإعطاء الشعب حقوقه الاجتماعية والسياسية، فقد كانت محاولة للتنمية والتحديث والتصنيع. لكن في الواقع، لم تجر الرياح بما تشتهي سفن الشعوب العربية، فسرعان ما أخذت هذه التجربة تحث خطاها إلى الشعبوية والشمولية ومفهوم “الزعيم” و”القائد الأوحد” و”راعي الأمة”. فعملت على تقييد الحريات السياسية والمدنية، ومنعت الصحافة الحرة وعزلت المجتمع عن السياسة، ومن ثم انزلقت إلى الاستبداد والفساد الشاملين، وهذا ما أدى إلى فشلها في تحقيق اهدافها، بعد أن فقدت مضمونها وخسرت حاملها الاجتماعي. ومن ثم انهزمت هذه التجربة بشكل حاسم أمام العدو الصهيوني في عام 1967. في كل الأحوال، ينبغي أن تبقى دروس تلك التجربة الهامة، بما لها وما عليها، ماثلة أمام كل من يتصدى لأي مشروع عربي جديد.
2/3- الانحدار العربي
في الواقع، بدأت ملامح انكفاء المد القومي العربي بعد انهيارالوحدة بين سورية ومصر في 28 إيلول عام 1961. ولكن انحداره الأكبر كان في هزيمة حزيران عام 1967. ورغم أن حرب تشرين في 1973 قد ردَّت للعرب في أيامها الأولى شيئاً من الاعتبار، لكنها سرعان ما تراجعت وانتهت إلى اتفاقيات لم تكن في صالحهم، بقدر ما عملت على تمزيقهم وبعثرة قواهم..
وفي قراءة موضوعية لتطورات الواقع العربي منذ سبعينات القرن الماضي، يتكشف لدينا، أن حالة الاستبداد والحكم الفئوي التي أخذت تتعمق وتسيطرعلى الوضع العربي، وميول التفكك والتحلل التي أخذت تسوده، قد شكلت مدخلاً فعلياً لحروب مدمرة في المنطقة. ابتدأت هذه المرحلة بالحرب الأهلية اللبنانية واختلاطاتها المحلية والخارجية؛ ومن ثم جاءت حرب الخليج الأولى بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وهي التي لم تكن في مصلحة أيٍ من الطرفين المتحاربين. ولقد شكلت حرب الثماني سنوات هذه، الأرضية الموضوعية لنشوء أزمة الكويت وحرب الخليج الثانية، التي مهَّدت بدورها من خلال تفاعلاتها وتعقيداتها لغزو العراق واحتلاله مع بدايات القرن الجديد.
لقد وصل الوضع العربي الراهن إلى حالة من الفراغ الاستراتيجي الشامل، أخذت تدفع إلى التفكك والضياع وتترك لكل قطر، ولكل جماعة أو فئة، أن تفكر في ذاتها ومصيرها فقط وتتصرف وفق ما تمليه عليها ظروفها. هذه الحالة العربية لم تعد محط المطامع الدولية فقط، وإنما صارت هدفاً لمطامح القوى الإقليمية الرئيسة (إسرائيل،إيران وتركيا). وصارت المجتمعات العربية لا تفتقر اليوم إلى الإيمان بضرورة التغيير، إنما لا يوجد لديها أي تصور مشترك لطبيعة هذا التغيير ووسائل تحقيقه.
في هذه المرحلة من الانحدار العربي المتواصل، يبدو من الصعب تحديد جميع التغيرات المرتقبة في المنطقة، لكن من المرجح أنها ستطال الكثير من البنى والركائز التي أسهمت في إرساء جغرافيتها السياسية طوال القرن العشرين.
وخطورة هذه المرحلة تكمن في أن العمل من أجل مستقبل منشود تتطلع إليه مجتمعاتنا، ويلبي مطامحها في الحرية والتحرر والانعتاق من حالة الاستبداد والقهر والاستلاب، ما زال يصطدم بغياب معرفة الأسباب الداخلية التي أدت إلى تدهور أوضاعنا العربية؟ إن معرفة هذه الأسباب تحتاج إلى ورشة عمل تقع على عاتق كل الحركات السياسية العربية بجميع اتجاهاتها. ونحن نرى من واجبنا أن نحاول الإسهام فيها.
3/3-عوامل التأخر العربي
طبعاً، لا يمكن نفي دور تدخل الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا وأميركا) في تأخر وانحدارالعالم العربي ، وخاصة من جهة دعمها غير المحدود لمشروعها الصهيوني في فلسطين. لكن ما هو شديد الأهمية، معرفة العوامل الداخلية الموضوعية والذاتية التي أهَّبت المنطقة العربية لهذا التدخل وساعدت على إنجاحه. وفي اعتقادنا من أهم هذه العوامل:
-Iالعسكرة والاستبداد :في البداية، جاء الجيش بشعار “إنقاذيٍ” لصون استقلال البلاد، وتحقيق المطالب العربية العليا (تحرير فلسطين والوحدة العربية). إلا أنّ استمرار الجيش في الحكم، أخذ يؤدي تدريجيا إلى غير الأهداف التي جاء من أجلها. فاستولى في خطوة أولى على مؤسسات الدولة بكاملها، معطلا بعضها ومحتكرا بعضها الآخر. وفي خطوة ثانية، استولى على النظام السياسي بكامله، معطلا الدستور والمكاسب الديمقراطية والتنظيمات السياسية المستقلة. وفي خطوة ثالثة، استولى على المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية لمنع تحولها إلى قوة معارضة.
وهكذا، فقد توصل العسكر إلى امتلاك مصادر القوة والثروة، وكان ذلك ايذاناً بميلاد طبقة جديدة طفيلية تتملك كل شيء في المجتمع دون رقيب أو حسيب. ولقد أدى استمرار هذه الأنظمة العسكرية إلى أن يكون جوهر العلاقة الراهنة بين السلطة والشعب، في الأغلبية الساحقة من الأقطار العربية، يقوم على الغلبة والقوة والقهر، والتغييب الكامل لدور الشعب والقانون، وإلغاء حقوق المواطنة، وتفتيت المجتمع وتطويعه وإخراجه من المجال السياسي، وتعطيل أية إمكانية للتغيير والإصلاح، وقمع أي عمل معارض. وطبعاً يجري هذا كله في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية والاعتماد الكلي على الأجهزة الأمنية وتحويل مؤسسات الدولة، إلى واجهات صورية مسخَّرة لخدمة الفئات الحاكمة وطبقاتها السياسية النافذة، التي تتعارض توجهاتها، أكثر فأكثر، مع مصالح شعوبنا وتطلعاتها، وهي تقيم من مكاسبها الكبيرة ومصالحها الضخمة سدا منيعا في وجه أي تغيير أو مراجعة أو محاسبة أو إصلاح . إزاء كل ذلك، يبدو واضحا أنّ الحاجة التي يشعر بها الحكام العرب للدفاع عن مصالحهم الفئوية، تجعل من الصعب خلق مناخ يفضي إلى سياسات الإصلاح السياسي والتنافس الديمقراطي وتداول السلطة.
ولذلك نرى النظام السياسي يلجأ إلى استخدام كافة أساليب القمع والعنف تجاه معارضيه، وإهدار الحقوق وكافة الحريات، وهذا بدوره يؤدي بالمقابل إلى اتساع دائرة العنف في المجتمع .
وخطورة مثل هذا النظام السياسي، تكمن في إقصائه لمبدأ العمل بالأغلبية الذي يعتبر من أهم أسس نظام الحكم الديموقراطي. والأدهى من ذلك أنّ ديمقراطية التزييف في العديد من الأقطار العربية تستغل مفهوم الإجماع باعتباره موروثا عربياً وإسلامياً، لتمرر من خلاله نتائج الانتخابات والاستفتاءات الصورية بنسبها الوهمية التي تثير سخرية العالم المتمدن (100% – 99,99%).
II – تأخر البنية الوطنية وعصبوية السلطة: وقد تجلى ذلك باندماج السلطة السياسية العليا مع إحدى البنى الاجتماعية ما قبل الوطنية (مذهب أو عشيرة أو أسرة)، إذ لا يخلو نظام عربي من أحد نماذج هذه العصبية السلطوية. و هنا لا فرق إذا كانت قائمة على أقلية أو أكثرية. وهي تشكل عقبة كأداء أمام الانتقال إلى المجتمع الحديث. مثل هذا المجتمع الذي ننشده، يبقى مرهوناً بنمو الوعي الوطني والديمقراطي، الذي يمهد الطريق لتصفية الطائفية وحل مسألة الأقليات القومية حلاً ديمقراطياً، لا يميز بين القوميات والجماعات اللغوية والاثنية والثقافية المتنوعة ولا يعمل على إلغائها وشطبها.
بقي هذا الاندماج بين السلطة والبنى ما قبل الوطنية متلازماً مع ظاهرة الاستبداد كشرط لازم لتأمين استمرارية الفئات الحاكمة. وأصبح الأمر أكثر خطورة، حين أخذ البعد العصبوي والفئوي للسلطة يضيق أكثر، وذلك بدمج السلطة مع “الأسر الحاكمة” عبر تحويلها إلى عصبيات مالكة للدولة ومؤسساتها السياسية المركزية التي تحولت إلى امتداد وظيفي لأفرادها. وفي هذه الحال، فقد أضحى الولاء للدولة يترجم في النهاية باعتباره ولاءً لشخص الحاكم.
III – طغيان الإيديولوجيا على الفكر القومي العربي :كان ولا يزال الفكر السياسي العربي، غارقاً في الإيديولوجيا والشعاراتية. ويقيم قطيعة مع الموضوعية والواقعية، ولا يأخذ أي اعتبار للظروف الخاصة والمحلية لهذا القطر أو ذاك.
ضمن هذا النهج الإيديولوجي، كان هذا الفكر يحرص دائماً على تحميل “الاستعمار والأمبريالية والصهيونية” كلّ مشاكل التأخّر العربي، ويشيْطِن العامل الخارجي، ليضع ستاراً كثيفاً على عوامل التأخر الداخلية.
إن إلقاء المسؤولية على العوامل الخارجية لم يكن فقط أمراً مضللاً، وإنما حال دون التوصل إلى معرفة موضوعية لمعطيات مجتمعاتنا الداخلية، وأفسح في المجال للقوى الخارجية لكي تتلاعب بمصيرها.
إن التأخر العربي هو مسألة داخلية وتاريخية في الأساس، والتدخل الخارجي جاء نتيجة هذا التأخر. هذا الموقف الأحادي الجانب، ينفي ضمناً واقع التأخرالعربي الموروث من الحقب الماضية، ويصور وضعنا قبل المرحلة الاستعمارية والصهيونية وكأنه كان في أحسن أحواله!
لا يوجد شك، في أن الاستعمار والعدوان الصهيوني يشكلان أحد أهم أسباب التأخر العربي الراهن. ولكن أساس هذا التأخر، يكمن في عدم قدرتنا على تجديد وتحديث البنى الفكرية لمجتمعاتنا، وعدم تمكننا من تكريس مفاهيم الحداثة (العلمانية والديموقراطية والمجتمع المدني وحرية المرأة ومساواتها بالرجل). وكذلك لم يستطع هذا الفكر النزول من علياء الشعار إلى أرض الواقع، ولا يزال متردداً في نقل المشروع القومي العربي من دائرة الأحلام التاريخية و الأهداف الطوباوية إلى سياقه الواقعي.
IV – فشل مشروع الوحدة العربية :بقي مشروع الوحدة العربية لأكثر من نصف قرن يشكل جوهر الحركة القومية العربية، وهدفها الاستراتيجي الرئيس، ولازمها منذ نشوئها، وتطوّر معها، صعودا وهبوطا.
إنّ الثغرة الرئيسية في الفكر الوحدوي العربي، تكمن في إهمال خصوصيات الأقطار العربية ومشاكلها الواقعية. وكان دائماً يصوَّر الواقع العربي وكأن الوحدة قائمة وكامنة في العمق، ولا يحول دون تحويلها إلى واقع ملموس سوى الأسباب الخارجية فقط. بينما في الواقع، ورغم انحسار الاستعمار و تشكيل الكيانات العربية المستقلة، فإنّ الوحدة لم تتحقق، وعندما تحققت فإنها لم تستمر.
ولم يبذل الفكر السياسي العربي أي جهد يُذكَر في تحليل الظاهرة القطرية الموجودة في العالم العربي قبل الاستعمار، وهذا ما يشير إلى قصور معرفي وسياسي في آن، عبّر عن نفسه بغياب مقاربة واقعية لمسألة الوحدة ومشاريعها.
إنّ أغلب المشاريع الوحدوية العربية، قد أفرغت مفهوم الوحدة من مضمونه التحرري والتقدمي، وأَفْقَدَته جدّيته وثقة الشعوب العربية به. فبعض هذه المشاريع جاء تعبيرا عن محور عربي ضد محور عربي آخر، كما أنّ بعضها جاء على أمل حل بعض المشاكل السياسية أو الاقتصادية الطارئة.
إنّ شعار الوحدة العربية، رغم أهميته التاريخية والاستراتيجية، فقد أصبح أكثر صعوبة وتعقيدا. فهو لم يدخل في إطار العمل والإنجاز المتواصل، ولم ينمُ في صيرورة واضحة ومتدرّجة، وإنما اصطدم بتجارب فاشلة وتراجعات متوالية. على ضوء هذا الواقع، نرى أنه لم يعد مجدياً طرح شعار الوحدة العربية بصيغته العامة. فالأمر بات يتطلب صيغاً وحدوية عملية وواقعية.
وقد دلّت التجارب الوحدوية، أنّ مطلب الديمقراطية لا يقل أهمية عن الوحدة ذاتها. فعدا عن كونها المحتوى الحقيقي للوحدة، فهي توفر المناخ لقيامها وحمايتها واستمرارها. وقد بدأنا منذ سنوات نشهد إرهاصات فكر وحدوي جديد، يقوم على مبدأ التدرج، والشروع في البعدين الاقتصادي والاجتماعي قبل البعد السياسي.
وتنطلق هذه الإرهاصات الفكرية، من أنّ الدعوات الطوباوية والرومانسية للوحدة العربية، لم تسهم في صنعها؛ ومن أنّ التوحيد المجدي يحتاج إلى فهم عميق لواقع العالم العربي ومعطياته ومشاكله وخصوصيات أقطاره. وكذلك تؤكد على أن تحديث الدولة القطرية يحتل مكانة هامة في العمل الوحدوي، باعتبار أنّ تراكم الخبرات خلال بنائها وتحديثها يساعد على بلورة رؤية واقعية من أجل بناء كيان أكبر.
إنّ الروابط المعنوية التي تربط بين الشعوب العربية (اللغة والتاريخ والدين والعادات والتقاليد والأماني والآمال…)، فعلى أهميتها، لا تكفي في الزمن الحاضر لإقامة دولة عربية موحدة. فيجب ان تتوفر أولاً قاعدة مجتمعية مدنية، وشبكة علاقات ومصالح اقتصادية متبادلة تفتح الطريق أمام انتقال السلع والعمالة والرساميل، و كذلك لا بد من وجود بنى ومؤسسات سياسية ديموقراطية في المجتمعات الوطنية القطرية، وهذا ما يفتح الأفق لقيام كيان وحدوي أكبر.
إن الوحدة هي مصلحة وهدف استراتيجي لكل الشعوب العربية، يمكن أن تتلاقى على تحقيقها تيارات فكرية وسياسية متنوعة ومتباينة. ولذلك ليست الوحدة حكراً لهذا الحزب أو ذاك. وإن فعالية أي برنامج وحدوي، لم تعد تقاس بنبرته العالية وعمقه العقائدي، بقدر ما تقاس بمدى واقعيته وإمكانية تحقيقه ونجاحه واستمراره.
V – التمامية الدينية وتفاقم التطرف: ومن الأسباب الرئيسية للتدهور العربي، تفاقم انتشار التيار الديني المتطرف. وقد ترافق هذا التطرف مع سلسلة الهزائم القومية وسيرورة الانهيار والانحطاط العربي الشامل. ولا تخص هذه التمامية ديناً محدداًَ ولا مذهبا بعينه، فقد امتدت روح التعصب والتطرف واخترقت كل الأديان والمذاهب.
لا يكفي أن نرجع تفاقم التطرف والعنف لهيمنة الأيديولوجيا التقليدية. فهو من إفرازات الهزيمة المذلة أمام العدو الخارجي والتاريخي، ومن جهة أخرى هو من إفرازات الاستبداد. وهو تعبير عن أزمة اجتماعية بنيوية شاملة، ارتبطت بتفاقم التسلط والقمع والتمييز بين المواطنين وانعدام تكافؤ الفرص وتعاظم العوز والفقر. وبالتالي لا يمكن تلمس وفهم النزوع إلى التطرف بمعزل عن شكل ومحتوى البنية السياسية السائدة، وبعيداً عن الصيرورة الاجتماعية والحراك الاجتماعي.
مع ذلك، يبقى تجديد الفكر الديني، في سياق تجديد الفكر العربي والمجتمعات العربية عموماً، أمراً مطلوباً من العرب مثلما هي مطلوبة منهم العقلانية والديمقراطية والعلمانية. وهذا شرط لازم من أجل تقدم مجتمعاتنا، ومواجهة التحديات الخارجية. وقبل كل شيء، يسحب مثل هذا الإصلاح البساط من تحت أنظمة الاستبداد، التي شكلت سياساتها حجر الزاوية في تفاقم التطرف والعنف، والتي راحت تلعب بهذه الورقة التي صنعتها، ملوحةً بها كفزاعة للخارج و الداخل من أجل البقاء في السلطة. في سياق هذه المعادلة السلطوية الرائجة الآن: إما نحن/ وإما التطرف والعنف، يمكن أن نرى مدى أهمية الإصلاح الديني في العالم العربي. وقد بدأت تظهر إرهاصات مثل هذا الفكر الديني الإصلاحي لدى بعض الرموز والشخصيات، ولكن على مستوى التيارات السياسية الدينية مازال عالمنا العربي يفتقد لهذه الظاهرة. وإن شهدنا لدى بعض التيارات الإسلامية نوعاً من التقدم في طرحها السياسي، لكن لا نرى شيئاً موازياً يكرسه ويحصِّنه على المستوى الفكري والاجتماعي والثقافي. في هذا السياق لايمكن تجاهل ذلك التحالف الموضوعي الذي نشهده في المنطقة بين الأنظمة الشمولية والاستبدادية والقوى المتطرفة بمختلف أشكالها، ولا فرق هنا فيما إذا كان هذا التطرف ينتمي إلى فكر “الحاكمية” أو “ولاية الفقيه”. فكلاهما يمقتان الوسطية والاعتدال وينتميان للمثنوية، والحرب الأزلية بين فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان.
VI – الصراع العربي- الإسرائيلي :ليس من شك، في ان الصراع العربي- الإسرائيلي من الأسس الرئيسة للحالة العربية الراهنة.
أ- حول طبيعة الصراع: إن “دولة إسرائيل” لم تخرج طول سيرورتها التاريخية من كونها مشروعاً استيطانياً، قائماً على طرد سكان فلسطين الأصليين بالقوة من وطنهم، وإحلال سكان آخرين يهود قادمين من أنحاء العالم كافة. لقد أصاب الكيان الصهيوني الشعب الفلسطيني في وجوده على أرضه، ويعمل دون هوادة على منعه من التعبير عن وجوده الوطني، ويسعى إلى محو شخصيته وثقافته. وكذلك يطال الشعوب العربية بأسرها في حاضرها وفي تطلعها إلى بناء مستقبلها.
تمكنت إسرائيل بعد انتصارات متوالية على العرب من تحقيق أول اختراق كبير في صراعها معهم عندما تحقق لها تحييد مصر، الدولة العربية الأكبر، وإخراجها من دائرة الصراع إثر الاتفاقات التي وقعتها معها في كمب ديفيد عام 1978 بعد زيارة السادات الشهيرة إلى إسرائيل. وكذلك عقدت اتفاقاً مماثلاً مع الأردن في وادي عربة. وتمكنت من تجميد جبهتها مع سورية منذ أكثر ثلاثة عقود، من خلال اتفاقية فصل القوات بعد حرب1973.
ولكن التدهور العربي على الصعيدين القومي والقطري، قد جعل إسرائيل ترفض توقيع أي اتفاق آخر مع باقي الأطراف العربية التي لها علاقة مباشرة مع هذا الصراع.
ب- من الانتفاضة الشاملة… إلى الانقسام العميق :لقد نجحت انتفاضة شعبنا الفلسطيني الأولى بكفاحيتها العالية وأدائها المتميز، في إلحاق ضرر بالغ بإسرائيل. فكشفت الغطاء عن عنصريتها البغيضة وممارساتها البربرية أمام الرأي العام العالمي، وعرَّضتها لعزلة قلما شهدها تاريخ صراعنا معها. ونجحت في إظهار الوجه الحقيقي للإنسان الفلسطيني ونضاله البطولي الذي شوهته الدعاية الإسرائيلية لسنين طويلة.
لكن غياب الشرط العربي، أسهم في إغلاق الآفاق التي فتحتها تلك الانتفاضة، ومكَّن إسرائيل من الاستفراد بالشعب الفلسطيني والتنكيل به بصورة غير مسبوقة. ولقد لعب غياب هذا الشرط دوراً كبيراً في عسكرة الانتفاضة الثانية.
ولقد أدت المصالح الذاتية الضيقة، والتصلبات الإيديولوجية، والتدخلات الإقليمية، إلى اختلالات واضحة وانقسامات عميقة في المعادلة الداخلية الفلسطينية. فأخذت الدولة الصهيونية تستغل هذا الانقسام إلى اقصى الحدود، وتعمل على تأجيجه باستمرار. وما يحدث اليوم بين حماس وفتح يعبر عن هذه الحال المزرية أحسن تعبير. ولذلك فقد بات من الضروري العمل على وحدة وتكامل النضال الفلسطيني، بما يؤدي إلى جعل كل تحرك يقوم به أي طرف مكملا لما يقوم به طرف آخر، وأن يصبَّ كل تحرك سياسي أو شعبي في خدمة بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
في هذا السياق، نحن نؤكد موقفاً نعتبره مبدئياً وبديهياً، وهو أن الكفاح عموماً، بما فيه الكفاح المسلّح والاستشهاد في سبيل تحرير الوطن المحتل، ليس أمراً مشروعاً وحسب، إنما هو ضرورة وحاجة وطنية وإنسانية معاً. لكن من جانب آخر، نرى أن النضال والجهاد، والاستشهاد نفسه، وسيلة لتحقيق أهداف سامية (حضارية، وطنية، وإنسانية). وهو وسيلة من وسائل أخرى، (ثقافية، سياسية، واجتماعية) تخدم مشروعاً سياسياً محدداً وواضحاً، الأمر الذي يعني إخضاعه لمراجعة نقدية دائمة على ضوء الوقائع وموازين القوى القائمة والمتحولة. ويجب أن تؤخذ في الاعتبار نتائجه المحتملة، وفاعليته وجدواه أيضاً. وهذا يعني، أن لا يتحول الاستشهاد إلى هدف لذاته، وتمجيد للموت من أجل الموت. ولا نعتقد أن أعمال العنف ضد المدنيين سوف تجلب غير الوبال والدمار للشعب الفلسطيني. وفي الوقت ذاته، يجب عدم الاستهانة بالمجتمع الدولي ومواقفه، من خلال الشعارات البراقة، فهذا لايخدم سوى إسرائيل وسياساتها.
إن خطر الانزلاق، من ثقافة الكفاح والنضال والاستعداد للتضحية حتى الاستشهاد المرتبطة بالمشروع الوطني، إلى “ثقافة الموت” المنطلقة من مشاعر اليأس والإحباط والعجز والانعزال، يهدّد المشروع الفلسطيني برمته. فمثل هذا العنف الأعمى يوفر لإسرائيل خيارات لم تكن متاحة لها من قبل؛ ويساعدها رغم كلّ بربريتها، على تصوير نفسها في موقع الضحية لدى أوساط واسعة من الرأي العام العالمي، و تصوير الكفاح الوطني الفلسطيني، أنه شكل من أشكال الإرهاب.
ج- آفاق التسوية العربية الإسرائيلية: السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل يمكن للعرب أن يتوصلوا إلى تسوية سلمية مع إسرائيل وهم في هذه الحالة من الضعف والتفكك؟
هناك وجهة نظر تقول أن الحلّ الاستراتيجي السلمي يكمن في قيام دولة واحدة ثنائية القومية، على أساس ديموقراطي وعلماني. ولكن الوقائع وموازين القوى على الأرض، تجعل من هذا الحلّ أمراً بعيد المنال، في الزمن الراهن على الأقل.
وهنالك وجهة نظر استراتيجية أخرى ترى أن الحلّ العادل للقضية الفلسطينية سوف يتزامن مع حلّ إشكالية التقدّم والحداثة والديمقراطية في العالم العربي، وفي الواقع وجهة النظر هذه تتقاطع مع وجهة النظر الأولى، وكلاهما مرهونتان بتقدم عربي حقيقي على كل المستويات.
أما في الأفق المنظور فهناك مشروعان للتسوية: تسوية سياسية تدفع إسرائيل إلى الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967 وهذا الخيار يشكل فشلاً جزئياً لإسرائيل، ويكرس عدم قدرتها على التوسع رغم انتصاراتها الهائلة. وهناك تسوية أخرى، تدعم توسع إسرائيل إقليمياً وتكرس هيمنتها السياسية والاقتصادية والتقنية على العرب وتدفع بهم إلى التمزق والسقوط.
بطبيعة الحال، في صالحنا نحن العرب الخيار الأول. لكن كيف يمكن أن نقبض عليه في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا وما نحن عليه من ضعف؟ فمن أولى مستلزمات هذا الخيار توفير شرطه العربي اللازم، الذي ما زال مفقوداً ومُضيَّعاً حتى الآن.
في كل الأحوال، إن الحل الذي سيفرضه ميزان القوى الحالي بين العرب وإسرائيل، يبدو أنه يستوجب التعايش مع التناقضات الراهنة لفترة زمنية قادمة، يحددها مدى تقدم العرب ووحدتهم وقدرتهم على مواكبة العصر في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية. لأن قوة أي مجتمع وقدرته على مواجهة التحدّيات الخارجية، تنبع أساسا من داخله. وكذلك نجاح العرب في مواجهة التحدّي الإسرائيلي، يرتبط جذرياً بوجود، مجتمعات ديمقراطية مصانة فيها الحريات الأساسية والحقوق المدنية والسياسية للمواطنين.
على المستوى الاستراتيجي، إنّ سلاماً حقيقياً عادلاً وشاملاً، يتطلب هزيمة الصهيونية كفكر وحركة. وإنّ إسرائيل لن تستطيع أن تبقى جسما غريبا في المنطقة إلى الأبد. ونعتقد أن المستقبل هو لدولة ديمقراطية يتساوى مواطنوها في حقوقهم وواجباتهم. وإن أي حل يقوم على أساس اعتراف العرب بدولة يهودية صرفة مقابل الاعتراف بقيام دولة فلسطينية كما يطالب المتطرفون الصهاينة لن يأتي بالسلام المنشود للمنطقة على الإطلاق، وإنما سيجلب لها مزيداً من العنف والمآسي وسفك الدماء وعدم الاستقرار. وسيكون خطأً تاريخياً جسيماً أن يساند المجتمع والولايات المتحدة مشروعاً كهذا، ومن العار أن تدعم الدول العلمانية قيام دولة دينية في القرن الواحد والعشرين. وفي اعتقادنا أن الدول المعاصرة التي تقوم على أساس ديني أو مذهبي أوطائفي، هي ظاهرة عابرة وغير مستقرة. ولنقارن بين الهند التي قامت على أساس المواطنة رغم التنوع الإثني واللغوي والديني، والباكستان التي نشأت على أساس ديني وما تعانيه من انقسام وتفكك مذهبي وإثني. وكذلك لننظر إلى التململ الكبير الذي بدأ يهز الدولة الدينية في إيران. إن سمة العصر هي دول التنوع والمصالح المشتركة والمواطنة.
4/3- وقف الانحدار العربي والتأسيس لفاعلية جديدة
صحيح أن خيار التوحيد القومي ليس راهناً و لا منظوراً، لكن المصلحة الوطنية والقومية لجميع الأطراف العربية تقتضي العمل على توفير المداخل الضرورية لبناء موقف عربي موحد، يمكننا من التدخل في صوغ الوقائع القائمة، ورسم سياسات عربية موحدة تجاه القضايا الكبرى. فلا بد من الاستفادة من مختلف الخيارات والقدرات التي تمتلكها شعوبنا العربية. وعلينا جرد أوراق القوّة المتوفرة لدينا، وإعادة ترتيب أوضاعنا الوطنية والقومية، وإعادة النظر في علاقاتنا مع العالم والتوازنات الدولية.
إن أي تأسيس لفاعلية عربية جديدة، يتطلب تغييرات سياسية جذرية من أجل بناء أنظمة ديموقراطية وطنية. وقد آن الأوان لأن تقلع السلطات والقوى والأحزاب السياسية العربية عن لوم الآخرين وتحميلهم مسؤولية تأخرنا. وكذلك مطلوب من تيارات التطرف أن تعي عدم جدوى حرب الفسطاطين، بالإضافة إلى عدم قدرتها على إلحاق الهزيمة بالغرب والولايات المتحدة. و كذلك على تيارات الاعتدال أن تفهم أنّ هناك فرصة تاريخية يجب استثمارها في المنطقة الواقعة بين (الاعتدال) و(الممانعة). فبين هذين المحورين هناك موقع حقيقي لسياسة وطنية مستقلة وفعالة يمكنها أن تحافظ على المصالح الوطنية والقومية وأن تراعي الآخرين والمصالح المشتركة.
إن العالم العربي في أزمة حقيقية وشاملة، إلا أنّ خروجه منها هو مسؤوليته وحده، وليست مسؤولية العامل الخارجي دولياً كان أم إقليمياً. إنها مسؤولية شعوبه وقواه الحية ونخبه السياسية والفكرية والعلمية المتعددة والكثيرة.
والواقع يتطلب منا فهم التغيرات الدولية والتفاعل معها وملاقاتها، وذلك بالاستيعاب النقدي لفكر الآخر، ومتابعة الحوار الفكري العميق، مع مراكز الفكر العالمية والعواصم الثقافية الكبرى، وكذلك عبر نقد تجاربنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلينا إحياء فكر الإعمار والإصلاح وإعادة التأسيس وإعادة البناء. وكذلك مطلوب منا التخفيف من الرضى عن النفس وتمجيد الماضي.
إنّ المشكلة الأهم المطروحة أمام الشعوب العربية هي بناء الدولة الحديثة، وما يتفرع عنها من من مفاهيم معاصرة : الأمة ، المجتمع المدني ، المواطنة ، الديمقراطية، العلمانية، حقوق الإنسان ، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية والقانونية .
إن مجتمعاً واسع الأرجاء، متعدد الجماعات العرقية والدينية والمذهبية كعالمنا العربي، يتطلب حركة قومية عربية ديمقراطية تعترف بالتنوّع، وتحترم تعدّد الجماعات المكوِّنة للأمة وتسعى إلى تحقيق التكامل بينها، وتحترم السيادات الوطنية لأقطارها، وتسعى لأن تحقّق تكاملها القومي بعد أنّ ترسّخ إحساس أبناء هذه الأقطار بهذه السيادة الوطنية. لأن أمة عربية قادرة على الوجود والاستمرار لا يمكن أن تكون أمة “قبائل وعشائر ومذاهب وزمر سياسية واقتصادية”، وإنما أمة دول حديثة تطمح إلى توحيد جهود شعوبها وتكثيف مصالحها المشتركة.
*
الفصل الرابع
العالم يتغيّر… ولا نهاية للتاريخ…
1/4 – الرأسمالية والحداثة والمجتمع المدني
كانت أوروبا أرض التحوّل الاجتماعي والاقتصادي الذي كرس الحداثة والمجتمع المدني. فمن نمو الرأسمالية التجارية، والإصلاح الديني، وعصر النهضة والتنوير، انبثق النظام الرأسمالي في نمو عاصف لا يتوقف. وانطلاقاً من تفاعل هذه الشروط الأوربية، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، شقت البرجوازية طريقها لبناء نظامها. واندفع هذا النظام إلى الأمام مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى، وانفتاح أسواق الهند والصين والأميركيتين. كل هذه الأمور دفعت التجارة والملاحة والصناعة إلى الأمام بقوة غير مسبوقة، لتؤمن بذلك نمواً سريعاً للنواة البرجوازية الناهضة من رحم المجتمع الإقطاعي الذي كان آخذاً في الانحلال.
ليس هنالك من شك، في أن الرأسمالية قد لعبت دوراً ثورياً ومتقدماً في التاريخ. وقامت بزعزعة كل العلاقات الاجتماعية القديمة الإقطاعية والبطريركية والعشائرية والعائلية والدينية، وكل ما كان يحيط بها من معتقدات وأفكار. وخلال تطورها كانت تكرس التحديث والحداثة في أوربا. فوطدت كيان ودور الفرد في المجتمع، بعد أن كان منصهراً كيانه ومبدداً دوره في الجماعة العائلية أو العشائرية أو الطائفية أو الفلاحية. وكذلك عملت الرأسمالية على تقسيم العمل والتخصص في جميع الميادين التطبيقية والنظرية. واعتمدت على القوانين والنظم الوضعية والعلم والمعرفة والتجربة، وأخرجت المجتمع من النظم المعرفية القائمة على التقاليد والعادات والأعراف.
وكذلك كرس النظام الرأسمالي العلمانية، وذلك عبر العمل الدؤوب والمتدرج لفصل الدين عن الدولة والمدرسة والعلم. لقد لعب هذا الفصل دوراً تاريخياً في فصم عرى التحالف التاريخي الذي كان قائماً منذ آلاف السنين بين سلطة الدولة والسلطة الدينية في المجتمعات المتأخرة القديمة. وخلال بناء الدولة الرأسمالية كان يتشكل المجتمع المدني، بما يعنيه من فعاليات ونشاطات اقتصادية واجتماعية وثقافية ومنظمات وجمعيات ونقابات، ليكون عامل توازن أساس مقابل سلطة الدولة، ليمنع استبدادها وتغولها.
وكذلك لعبت الرأسمالية دوراً مركزياً في قيام الدول القومية في أوربا، فمن خلال هدفها الأهم الذي يتركز في البحث عن أسواق جديدة، فقد انطلقت لتتغلغل في كل أنحاء الأرض. ومن المنطلق ذاته، أخذت تعمل على إزالة الحواجز الجمركية وحدود المقاطعات والإمارات ودمجها في كيانات سياسية موحدة. وهذا ما أطلق عليه آنذاك “التمركز السياسي”. ومن أهم الأمثلة الأوربية على هذا التمركز قيام الوحدتين الألمانية و الإيطالية.
ومع انطلاقتها أخذت تقوم بين الأمم صلات شاملة في كل الميادين؛ ليس فقط على مستوى الإنتاج المادي، وإنما على مستوى الإنتاج الفكري أيضاً.
لكن هذا المجتمع البرجوازي الحديث، الذي تكون في رحم النظام الإقطاعي وعلى أنقاضه، أفرز تفاوتاً طبقياً من نوع جديد، وتناقضات وأزمات اقتصادية واجتماعية أكثر تعقيداً وأسرع تواتراً، وأقام طبقات جديدة بدلاً من الطبقات القديمة، وأوجد ظروفاً أخرى للاضطهاد وأشكالا جديدة للنضال.
2/4- الرأسمالية الاحتكارية/الأمبريالية
أدت المزاحمة الحرة في الرأسمالية في درجة معينة من تطورها إلى تمركز الانتاج، وهذا التمركز بدوره أدى تطوره إلى الاحتكار، وهذا قانون عام وأساسي في المراحل المتطورة العليا من الرأسمالية. وفي عشية القرن العشرين وصل تمركز الإنتاج الصناعي، في كل من أوربا والولايات المتحدة، إلى درجة عالية جداً من التطور، وهذا ما أدى إلى ظهور الاحتكارات الكبرى.
ودفعت هذه الاحتكارات بدورها إلى التسابق على احتكار أهم مصادر المواد الخام الرئيسية في العالم. وفي هذه الآونة أخذت المصارف تلعب دوراً أكبر، فتعاظم شأنها وكبُرَ حوْلُها وطوْلُها، وتحولت إلى مؤسسات محتكرة للرأسمال المالي، وغدا تصدير الرساميل إلى البلدان الأخرى حلقة رئيسية في الرأسمالية. وكان من منطق الأمور في هذه المرحلة أن يتفاقم الصراع على المستعمرات وإعادة اقتسام العالم. إذ الدول الصناعية الحديثة، والتي لم يكن لها باع استعماري قديم، قامت تطالب بحصة لها من الكعكة العالمية. في هذه اللحظة التاريخية من بداية القرن العشرين، كانت الرأسمالية تمر بمرحلتها الإمبريالية. وهي كانت مرحلة موضوعية في مسار تطور البشرية.
3 /4- الثورة الاشتراكية في روسيا
كانت الأمبريالية، وما عنته من صراع على اقتسام العالم وثرواته وأسواقه، من أهم أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى.
لقد أدت الحرب إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية في روسيا نصف الاقطاعية/نصف الرأسمالية؛ وهذا ما هيأ المناخ لقيام ثورة شباط الديمقراطية. إلاّ أن الخلل بقي مستمراً مع ازدياد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومع عودة الجنود الروس المهزومين من الجبهات العسكرية. فرأى البلاشفة في هذا الوضع فرصة ملائمة لقيام الثورة، التي كانت إحدى أهم العلامات الفارقة في القرن العشرين.
عملياً، نجحت الثورة في الاستيلاء على السلطة، وخرجت روسيا من الحرب العالمية الأولى، وكذلك خرجت من الحرب الأهلية منتصرة على الثورة المضادة وهجوم الجيوش الخارجية، ودخلت في صيغة جديدة بعد تأسيس الاتحاد السوفييتي؛ وشرعت الدولة السوفييتية في مشروع ضخم للتحديث.
لم تستند الحكومات السوفييتية خلال حكمها إلى فلسفة التحديث الأوروبية الأساسية، فيما يتعلق بمسائل الحرية وسيادة القانون والمواطنة؛، وإنما اعتمدت على نهج حكم شمولي تسلطي، يقوم على دمج الدولة بالحزب الحاكم الوحيد، وإلحاق هيئات المجتمع المدني بما فيها النقابات العمالية بالحزب والحكومة.
فلم يؤخذ الواقع الاقتصادي والاجتماعي لروسيا بعين الاعتبار، وإنما تم التعامل مع الاشتراكية كإيديولوجيا. والتعامل مع وجهات النظر الأخرى، من داخل الحزب ومن خارجه، بالقمع والتصفية تحت يافطة التآمر على الثورة.
طبعاً لا يمكن تجاهل ما قامت به التجربة السوفياتية من إنجازات كبيرة أسهمت بمجموعها في تصنيع البلاد و تعزيز قدرتها على الصمود والنصر في الحرب العالمية الثانية. وكذلك أسهمت في تشكيل دولة كبرى وموقعاً دولياً مرموقاً ، شكل عامل توازنٍ مقابل السيطرة والهيمنة الأميركية. وكذلك ساند الاتحاد السوفييتي الشعوب المستعمرة في نضالها من أجل الاستقلال، وقدم كل وسائل الدعم للدول المستقلة حديثاً ولكل بلدان العالم الثالث، وقد وقف إلى جانب الشعوب العربية في نضالها ضد المستعمرين وفي صراعها التاريخي مع العدو الصهيوني.
ولكن في الواقع، ولأسباب تاريخية ونظرية وتطبيقية، لا مجال لطرحها هنا، لم تتمكن هذه التجربة من الصمود والاستمرار طويلاً كمنافس للتجربة الرأسمالية العالمية.
4/4- العولمة
وهي من أهمّ الظواهر التي برزت في أواخر القرن العشرين، وهي تعبّر عن طورٍ جديد دخلته الرأسمالية العالمية مع القفزة التكنولوجية الهائلة التي شهدتها قوى الإنتاج في العالم المتقدّم، نتيجة المكتشفات العلمية وثورة المعلومات والاتّصالات.
فأخذ العالم يدخل في خضم ثورة بشرية تاريخية جديدة لا يمكن أن تقارن إلا بالثورتين الزراعية والصناعية. وإذا كانت الثورة الزراعية، قد أدت إلى انبثاق فجر الحضارة الإنسانية كما نعرفها، و الثورة الصناعية قد نقلت الإنسان من الخضوع للطبيعة إلى السيطرة عليها وتحويلها، فإنّ ثورة العولمة المعاصرة، تنقل الإنسان إلى مرحلة حضارية من الصعب التنبؤ بكل أبعادها .
أخذت العولمة تعمل على تكثيف العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، وعلى تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج، و على ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وإنسانية. في العولمة يتقلص العالم إلى (قرية صغيرة)، وتضعف فيه الحدود الدولية والخصوصيات الجغرافية والتاريخية. وتعمل على إنقاص أهميّة الانتماء القومي تدريجيّاً؛ وأول هذا الإنقاص نراه على المستوى الاقتصادي في الاستهلاك والانتاج: حيث المنتجات التي يستهلكها الناس، لم تعد لها علاقة بمكان عيشهم ولغتهم وثقافتهم، والمشروعات الإنتاجية باتت مستقلة عن الدولة التي تقوم على أرضها.
العولمة مثل أي مرحلة تطور موضوعي في تاريخ العالم، لا يمكننا النظر إليها نظرة مثنوية باعتبارها: إما شراً مطلقاً ، وإما خيراً مطلقاً. فلابدّ من التعامل معها كحقيقةٍ واقعية وموضوعية، مع العمل على تحسين شروطها وتعزيز جوانبها الإيجابية والكفاح ضد جوانبها السلبية. لذلك لا يمكن ردها وإبطالها برغبة ذاتية، إنما المطلوب إجراء التكيّف اللازم مع آلياتها بما يكفل دفع عملية التقدم الإنساني إلى الأمام وتقليص الأخطار الناجمة عنها ضد البشرية.
إن الشق الموضوعي للعولمة الذي لايمكن رده، يتعلق بطبيعة هذه المرحلة من تطور الرأسمالية، الذي يتميز بوجود تلك الشركات العملاقة العابرة للقارات التي تدير أعمالها من مواقع عدة وتخلق قطاعات وفروعا وفنونا جديدة للإنتاج وتملك قدرات بحثية هائلة، وقد استطاعت تحقيق ثورة تقنية غير مسبوقة، لها طابع التجدد السريع في علوم الاتصال والمعرفة. أما الشق الذاتي والذي يمكن التعامل معه، أو لابد من التعامل معه، فهو يتعلق بالبلدان والشعوب المدعوة للاندماج في العولمة، والتي يجب أن تعد أرضيتها وسكانها وقوانينها للاندماج في الاقتصاد العالمي. فإذا استطاعت هذه البلدان إعداد نفسها جيداً فيمكنها الاندماج والتأثير بشكل إيجابي في هذا التغير العالمي السريع. أما إذا تكاسلت ولم ترتب بيتها الداخلي ترتيبا يتناسب مع كل ما هو قادم ومستقبلي فإنها ستستمر خارج إطار هذا التغير التاريخي.
وكذلك التعامل مع العولمة يجب أن يجري من خلال نقدها وتصحيح ممارساتها على المستوى المعاشي والإنساني للبشرية، وفي مجال تأثيراتها على البيئة والتنوع الحياتي واللغوي والثقافي والأخلاقي للشعوب. لأن العولمة بقدر ما تعني مزيداً وقفزة هائلة من التطوّر في الاتّصالات ونقل المعلومات، وانفتاح الحدود أمام التجارة والانتقال والعمل والعلم والمعرفة والصحة والتضامن مع حقوق الإنسان والعدالة؛ فهي في آن تعني مزيداً من انفتاح الحدود أمام حركة الجريمة والمخدّرات والتمييز، والفقر والمرض والاستغلال.
إن حركة مناهضة العولمة، والتي صار يطلق عليها في السنوات الأخيرة “حركة العولمة البديلة”، تزداد انتشاراً في العالم وتزداد وحدتها، وعلى وجه الخصوص في البلدان المتقدمة صناعياً. وهي من خلال مفهومها الجديد “العولمة البديلة”، تعبر عن حرصها الكبير على الجوانب الإنسانية في العولمة، ومن جهة أخرى تعمل على نقدها، وتتصدى للنضال والكفاح ضد قوى الليبرالية الجديدة المحافظة والرجعية المنفلتة من عقالها في سبيل مصالحها الخاصة.
ومن الملاحظ أن هذه الحركات تنشط في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أميركا وأوربا واليابان والهند والبرازيل، في الوقت الذي لا نرى نشاطاً مماثلاً في البلدان المتخلفة والمتأخرة والشمولية والمحكومة بالتسلط والاستبداد، وذلك لأن هذه الشعوب التي تتعطش إلى الحريات الإنسانية الأساسية، مثل حق الحياة والتعبير والقول والكتابة وتفتقر لسيادة الحق والقانون، فهي تتطلع أولا للخلاص من الاستبداد والقمع والفساد في بلدانها، لتندار فيما بعد إلى نضالات أكثر طموحاً. ولقد كان دائما النضال من أجل الديموقراطية، مقدمة مؤهبة للنضالات الاجتماعية……
5/4- العالم بعد الحرب الباردة:
يبدو ان العالم بعد الحرب الباردة وفي زمن العولمة أخذ يتكتل على أسس جديدة:
أ- تكتل رأسمال المال، حيث يتفق أصحاب رؤوس الأموال(دولاً وشركات)، في منظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسية، على التخلص من كل ما يعوق حرية رساميلهم وتحقيقهم المزيد من الأرباح من جهة، وكذلك التخلص من الأعباء الاجتماعية التي تعطى للعمال والطبقة الوسطى من جهة ثانية.
ب- العولمة البديلة، وهي تكتل الدول والحركات والمنظمات على مستوى العالم أجمع ، التي تناضل ضد الليبرالية الجديدة المتوحشة وضد هذا النموذج من عولمة رأس المال.
ج– الإسلام السياسي المتطرف والحرب على الإرهاب: كانت أحداث 11 ايلول على أرض الولايات المتحدة، محطة فاصلة بين كل ما سبقها وما سيعقبها على صعيد الفكر الاستراتيجي الأمريكي، وعلى االعلاقات الدولية أيضاً.
ما جرى في أمريكا لم يكن حدثا عابرا، بل كان زلزالاً، أعاد خلط الأوراق وقلبَ المفاهيم وغيّر الموازين والمعادلات على المستوى الدولي. ووضع العالم أمام محطة تحول حقيقي، وكذلك وضع الولايات المتحدة في تاريخ فاصل بين مرحلتين . وأسقط هذا الحدث الانعطافي إمكانية نهج “تجنب المخاطر” لدى الإدارة الأمريكية. ولكن من جانب آخر رأت هذه الإدارة في هذه الأحداث فرصة للحفاظ على مكتسباتها ومصالحها الخارجية، ومناسبة لشن هجوم استراتيجي كبير يكرس سيطرتها على العالم كله باعتبارها الدولة الأعظم والأقوى.
ولذلك فالتوجّه الأمريكي الجديد بعد 11 ايلول ، كان في عمقه، اتجاهاً هجومياً وليس احتوائيا أو دفاعيا، وهو يسعى لإحداث تغيّرات عميقة في البنى الداخلية للعديد من دول العالم. ويبدو أن الإدارة الأمريكية اخذت تقتنع بضرورة تغيير خارطة الشرق الأوسط السياسية على مستويات عديدة، ومنها الحياة السياسية في العالم العربي والمناخ العام في مجالات الحريات والتنمية، باعتبارها المناخ الرئيسي المسؤول عن الإرهاب.
ولقد ارتأى المحافظون الجدد أن هدفهم يمكن تحقيقه في المنطقة الأكثر أهمية واستراتيجية، التي سموها بمنطقة “الشرق الأوسط الكبير” التي تمتد من المغرب حتى باكستان، حيث يوجد خزان النفط والممرات الدولية وإسرائيل. وهذه هي الصورة المكثفة للسياسة الليبرالية الأميركية الجديدة التي تجلت بكل معانيها في عهد بوش الابن.
وهذا التوجه الأميركي الأصولي، تكامل على الضفة الأخرى في الشرق الأوسط، مع إحساس شديد بالظلم و التهميش واليأس، وبمشاعر الغضب من الدور الأمريكي المتسم بإلحاق الغبن بشعوب المنطقة والمعادي لمصالحها، والمساند الدائم لإسرائيل والأنظمة المستبدة المتحكمة بها. هذه الضفة الأخرى المحرومة شعوبها من الحرية والسياسة والمعرفة، والواقعة لحقبة طويلة تحت نير القمع والفساد والجهل والتجهيل، كانت خير بيئة لتوليد تيار التطرّف والعنف، الذي راح يتماهى مع الإيديولوجيا الأمريكية اليمينية المتطرفة ذاتها، ويمشي على هديها، ويعتبر العالم فسطاطين واحد للخير وآخر للشرّ، وحربهما سرمدية ولا توسّط بينهما.
كانت الولايات المتحدة قد أججت سابقاً في بداية الثملنينات حرب الخليج الأولى بين ايران والعراق لمدة ثماني سنوات في إطار خطتها المعروفة (الاستيعاب المزدوج)، ومن ثم استغلت حرب الخليج الثانية عام 1991، لتكون المناورة الأولى للتوجه الليبرالي الجديد. ومن جديد تحت مظلة الحادي عشر من أيلول، بدأت أميركا بشن هجومها الاستراتيجي الأكبر”حربها على الإرهاب” ، التي خيضت أولى تجاربها في أفغانستان. ولما كانت حرب الخليج الثانية بحاجة إلى استكمالٍ، فقد جاء أوانها بعد استبداد المحافظين الجدد وراء جورج بوش الابن، وذريعة أسلحة الدمار الشامل.
أرادت الولايات المتحدة تطوير تحكّمها مباشرة بنفط العراق ومواقعه الاستراتيجية. وكذلك استكملت أدلجتها لغزو العراق، بخطتها حول تحويل الشرق الأوسط إلى واحةٍ للديمقراطية، مستغلة تعطش المنطقة العربية للحداثة والديمقراطية والقطع مع الاستبداد الذي أوصلها إلى حافة اليأس وفقدان الأمل.
لكن من جانب آخر، تبين في الممارسة وعلى ضوء الواقع، أن الإرهاب الذي تحول إلى ظاهرة عالمية؛ لا يمكن ايقافه بمزيدٍ من القمع واستخدام القوة، وأن مواجهته تتطلب إزالة مسبباته.
وكذلك انهارت مفاهيم إحكام السيطرة على العالم مهما كانت قدرة القوة العظمى. وصار الأمر يتطلب استيعاب مسألة المضمون النسبي للقوة. وهذا ما رأيناه في الواقع في كل من العراق وافغانستان وأخيراً في جيورجيا.
من هنا نرى أن النظام الدولي القائم لم يعد صالحاً لإدارة الوضع الدولي الراهن. وخاصة أن الحرب الباردة قد انتهت منذ حوالي العقدين، ولم يتوصل المجتمع الدولي إلى أسس فكرية وتنظيمية جديدة أفضل لإقامة نظام دولي ليقود العالم بعد الحرب الباردة، كما جرى سابقاً بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. ولقد تبين أن الولايات المتحدة رغم كونها الدولة الأعظم والأقوى في العالم، لكنها لم تثبت قدرتها على قيادته. من هنا تأتي أهمية انتهاء الأحادية القطبية القطبية على الصعيد العالمي، وضرورة بروز نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يعيد العقلانية والتوازن للعلاقات والمصالح بين الدول.
6/4- الأزمة المالية العالمية
يرى الكثير من المحللين الاقتصاديين أن الأزمة الرأسمالية الراهنة أكثر خطورة من الأزمة الاقتصادية التي تفجرت في عام 1929من القرن الماضي. و يعزونها إلى أسباب أعمق، من قضية الرهن العقاري. ويرون أن أسبابها الحقيقية تتعلق ببنية النظام الرأسمالي وتناقضاته، وخاصة في حقبة الليبرالية الجديدة التي بدأت في الثمانينات من القرن الماضي في عهد(ريغان وتاتشر)، التي تقوم على الحرية المطلقة للسوق دون أي تدخل أو رقابة من الدولة.
إن مفاعيل الأزمة الرأسمالية الراهنة ستؤثر على دول العالم كافة بنسب متفاوتة؛ وذلك لأن النظام الرأسمالي، وخاصة في طوره العولمي يستغرق العالم بكامله، رغم تمظهراته الرأسمالية المختلفة. وإن عدوى الأزمة المالية الراهنة إلى كل المعمورة، تنطلق من هذه السمة العالمية للنظام الرأسمالي.
اعترف زعماء وقادة النظام الرأسمالي في العالم بخطورة الأزمة المالية والاقتصادية التي تجتاحه الآن، وانداروا جميعاً لتطويقها حفاظاً على نظامهم. واستنفروا حكوماتهم لإيقاف تفاقمها. فلجأوا إلى تأميم بعض البنوك وشركات التأمين المهددة بالإفلاس. ودعا هؤلاء القادة لإصلاح النظام الرأسمالي العالمي ووضع قواعد مالية جديدة له؛ وتوجهوا بدعوة لمؤتمر عالمي لا يقتصرعلى الدول الثمانية الصناعية الكبرى، إنما على دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل والمكسيك وماليزيا والسعوديةوكوريا وتركية وغيرها لتوسيع الإسهام في وضع الحلول(مؤتمر العشرين).
وانطلاقاً من مفاعيل الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة يمكننا طرح بعض الاستنتاجات:
I- استمرار التناقضات وتواتر الأزمات في النظام الرأسمالي العالمي. وسقوط مقولة نهاية التاريخ، وهناك مقدمات تنبئ بأنه يمكن أن يعاني من تناقضات بنيوية حادة في حقبة العولمة التي نعيش أولى مراحلها.
II- انهيار إيديولوجيا الليبرالية الجديدة ، وسقوط مقولة عدم تدخل الدولة التي ترى: “إن السوق تصلح نفسها بنفسها تلقائياً دون أي تدخل من الدولة”. ومن أهم مؤشرات هذا السقوط، كان الشروع السريع في استدعاء الدولة للقيام بعملية الإنقاذ.
III- لقد بينت الأزمة بجلاء، أن تضخم الرأسمال المالي وتزايد هيمنة الرأسمال الوهمي على الرأسمال الانتاجي الحقيقي ( البورصات والرهونات والسمسرة المالية، التوسع في الإقراض بدون ضمانات) يؤدي إلى تفجير الأزمات الاقتصادية.
IV- كرسَّت الأزمة المالية، بالإضافة إلى التعثرات السياسية والعسكرية الأميركية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط في افغانستان والعراق وجيورجيا، مقولة عدم قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم منفردة رغم تمتعها بأكبر اقتصاد وأضخم قوة عسكرية فيه.
V- يمكن أن تلعب نتائج هذه الأزمة دوراً ملموساً في نشوء نظام دولي جديد يقوم على أساس التعددية القطبية، وربما تؤدي إلى تحسين وضع المنظمة الدولية وجعله أكثر ديموقراطية وعدلاً.
لايمكن مقاربة الأزمة المالية الراهنة بالتحليل اليسراوي الذي راح يعتبرها وكأنها رد اعتبار للاتحاد السوفيتي، مكرراً نظريته التي تعزي انهياره إلى تآمر عملاء الغرب والصهيونية العالمية، متجاهلاً دور العوامل الذاتية في الداخل( الجمود العقائدي والبيروقراطية وفقدان الحرية والديموقراطية)، وغاضاً النظر عن السبب الاستراتيجي الأساس، وهو صعوبة بناء الاشتراكية في بلد واحد، وضمن نظام رأسمالي عالمي يستغرق العالم كله.
كذلك لا يمكن مقاربتها بفكر المؤامرة الذي يعتبر هذه الأزمة من صنع الصهيونية العالمية والولايات المتحدة الأميركية. فهذه المقاربة مناقضة لموضوعيةِ تناقضات النظام الرأسمالي العالمي، وهي في اعتقادنا، من أهم مقولات ماركس، التي لا يزال الواقع يؤيد صلاحيتها.
وكذلك نخطئ كثيراً إذا قاربنا هذه الأزمة، وكأن النظام الرأسمالي متوجه إلى سقوطٍ قريب. في اعتقادنا، سيستمر هذا النظام في محاولته تخطي أزماته، ولكن إلي أي مدى سيستمر في قدرته على هذا التخطي؟ فليس من السهولة تقدير هذا المدى. وعلى الأغلب ستكون تناقضات النظام الرأسمالي أكثر حدة وخطورة في المراحل المستقبلية الأكثر تطوراً من حقبة العولمة التي نمر بها.
إن الأزمة الرأسمالية الراهنة، يبدو بوضوح انها لا تمهد الطريق لتجربة الاشتراكية السوفييتية السابقة، إنما تفتحه لعودة مفهوم جديد لدور الدولة. وهذا الدور، لايتفق مع الطرح الليبرالي الذي يربط بين النمو الاقتصادي وإطلاق يد رجال المال والأعمال دون أي حسيب أو رقيب. وكذلك يقطع هذا الدور الجديد للدولة، مع الطرح اليساري الأصولي التقليدي، الذي يحول سلطة الدولة إلى غول متسلط على المجتمع، ويجعلها مصدر كل القرارات السياسية والاقتصادية والروحية، وكذلك يقطع مع المقولة الماركسية التي تتنبأ بتلاشي الدولة الحتمي مع زوال الرأسمالية.
إن الدولة من جهة لا يمكن أن تكون مصدر ضبط وتنظيم المجتمع وحركة الاسواق إلا بمقدار ما تبقى دولة ديموقراطية تعكس في قراراتها وإشرافها إرادة المجتمع. فمن دون الديموقراطية ستتحول الدولة كما هو حاصل في العديد من البلدان العربية إلى أداة لتوجيه الاقتصاد والموارد لخدمة مصالح فئة صغيرة متسلطة بالقوة. ومن جهة أخرى يجب عدم الخلط بين اقتصاد السوق، والليبرالية الاقتصادية التي تؤمن بعدم ضرورة تدخل الدولة، معتبرة الاقتصاد أنه ليس بحاجة إلى حسيب أو رقيب، وأنه يصلح نفسه تلقائياً من خلال آلية العرض والطلب. إن السوق ضرورية في المجتمع لتطور الإنتاج والإنتاجية، وإن الدولة ضرورة لضبط السوق وإخضاعه لمعايير اجتماعية وسياسية ضرورية.
في خضم هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، وانطلاقاً من الوسائل والطرق التي تعالج بها، يبدو أن الاشتراكية الديموقراطية قد عادت لتطفو بقوة على سطح الأحداث كنظام أكثر عدلاً وديموقراطية من النظام الليبرالي الجديد المتحلل من أي قيد، ومن النظام الشمولي الأحادي المستبد.
في كل الأحوال، وفي هذه المرحلة، حيث الاندماج والانفتاح المتبادل يشمل المعمورة بكاملها، وحيث العولمة تعمل على صهرالشعوب والمجتمعات والثقافات؛ تقوى مشروعية العودة إلى استشراف وتصور نظام مستقبلي يمكن أن يتبلور في أحشاء(الرأسمالية). من المبكر أن نبحث عن تسمية لهذا النظام، ولكن لابد أن يكون أكثرتقدماً من النظام الرأسمالي وأكثر مدنية وديموقراطية وعدلاً. وهو يتطلب نضالات شاقة دؤوبة وطويلة. وكذلك هذا النظام لابد وأن يكون أكثر عالمية من سلفه، وليس ضمن جزيرة منعزلة أو قلعة محاصرة كما حدث في القرن الماضي.
*
الفصل الخامس
حول الفكر والمنهج
كما يتقدّم العالم، ويستمرّ التاريخ، ويتطور العلم والمعرفة، كذلك الفكر يتحول في صيرورة مستمرّة، يحاول فيها لا أن يعي تطوّر الواقع وحسب، وإنما يسبقه ويستشرف آفاقه.
من هنا، نرى أن العلم والمعرفة نسبيان. ينشدان الكمال دائما ولكنهما يظلان ناقصين أبداً، وفي نقصهما يكمن سر تقدم العالم. وفي إغلاقهما، واعتبارهما تامين وكاملين، يكمن سر التخلف والتأخر. هذه مأساة الفكر، أي فكر، حينما يتحول إلى نصٍ مقدس. وقديماً قال (النفري) المتصوف الإسلامي في السياق ذاته: “العلم المستقر.. الجهل المستمر”. و قال كارل ماركس حول نسبية العلم والمعرفة: “لاعلم كاملاً إلا في خلية النحل، أما علم الإنسان فهو الناقص..”
في هذا المسار الإنساني الذي يزداد انفتاحاّ وتفاعلاً وتعقيداً، لابدّ من نقد أدوات الفكر القديمة، والتخلّي عن الذي شاخ منها وتجاوزه الزمن. وهذا يتطلّب منا، أكثر من أيّ وقت مضى، تحرير الفكر من التقديس والتصنيم، وكذلك تجنّب الدخول في دهاليز الإيديولوجيا التي تحيل إلى التلفيق الهادف والمغلق. وإن قدرة الإنسان على التقدم، تكمن في تمييزه بين القديم المهترئ، والقديم الذي لم يفقد علاقته بالواقع، وصالحاً لأن يكون من عداد الأدوات المعرفية الحاضرة.
وحول رؤيتنا للعلاقة بين الفكر والسياسة؛ فهناك فصل بينهما، ونراهما مستويين مختلفين غير متطابقين، ولكن تربطهما في العمق علاقة عضوية وثيقة. بمعنى آخر، لا نرى أن البرنامج السياسي لحزب أو ممارسته السياسية نسخة من نظرية فكرية أو عقيدة دينية، وفي آن لا يمكن أن يكون مثل هذا البرنامج منقطعاً عن الفكر، فيصبح حينئذ مجرد كلام عبثي.
1/5 الماركسية وعلاقتنا بها:
لقد شغلت الماركسية حيزاً مرموقاً ومؤثراً في عالم الفكر والسياسة والاقتصاد منذ حوالي قرن ونصف، ولا تزال أحد أهم مناهج التفكير والتحليل. وهي أولاً وأخيراً إرث فكري إنساني للعالم كله، وإحدى المرجعيات الفكرية التي تكتسب قوّتها من انفتاحها الدائم على النقد. وهي أحد مصادرنا الفكرية، إلى جانب منجزات الفكر الإنساني الأخرى، إذ لا نرى أنها نهاية الفكر وخاتمته.
إنّ تقدم الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، والتغيّرات في بنية الطبقة العاملة والطبقات الاجتماعية الأخرى، والحاجة إلى التكيّف مع تنوع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، كل هذه الأمور تتطلب منا البحث عن مفاهيم فكرية جديدة لم تتطرأ إليها الماركسية. من المؤكد أنّ هذه الأدوات المعرفية لها علاقة بالتقدم في العلوم المعاصرة وعملية التنوع والتغيير في مجال المفاهيم وعلوم المنهج، التي تسعى إلى فهم جدلي أعمق للكون . وحول هذه العلاقة مع الماركسية يمكن الكلام على بعض النقاط التالية:
أ– علينا إعادة قراءة الماركسية قراءة موضوعية، متحررة من الالتزام الأيديولوجي الذي طغى على قراءاتنا السابقة.
ب- إن الماركسية، هي منهج تحليلي هام، لا تزال تشكل إسهاماً ثرياً في التجارب المتنوعة لشعوب العالم ، ولكن يتعين نقد أفكارها باستمرار.
ج- في عصر تكنولوجيا المعلومات طرأ تبدل كبير على علاقة الإنسان بالآلة، وحدث نمو هائل في وسائل الاتصال، سواء في العملية الإنتاجية أو في حقل إعادة الإنتاج الاجتماعي ذاته. وهذا يستوجب من كل الماركسيين والاشتراكيين الديموقراطيين واليساريين إدراك ووعي كل حالات الاغتراب والاستلاب الجديدة، بما فيها تلك التي تقع خارج العملية الإنتاجية. وهذا ينطوي على الدعوة إلى تحرير كل الفئات المضطهَدة. وفي هذا السياق لا نعتقد أن مفهوماً مثل (ديكتاتورية البروليتاريا) بقيت له علاقة بالمرحلة التي يمر بها العالم في عهد العولمة.
د- تركت النزعة الاقتصادية والطبقية أثرا سلبيا عميقا على سياق وصيرورة الفكر الماركسي، وجعلته مغالياً في إيلاء العامل الاقتصادي والطبقي المكانةَ المركزية في تحليل ظواهرالبنية الاجتماعية، في الوقت الذي نرى أن الصراع الطبقي وإن كان تناقضاً أساسياً في هذه البنية، لكنه ليس التناقض الوحيد الذي يتدخل في أحداثها وصيرورتها، فهنالك دور أيضاً للعوامل الإثنية والثقافية والحضارية والدينية…وهنالك الكثير من الإجحاف ولَيّ للواقع، حين يُلبِِس الماركسيون الأصوليون كل تناقض اجتماعي من هذه التناقضات الأخرى لبوساً طبقياً.
وقد أدى الغلوّ في النزعة الاقتصادية والطبقية إلى عدم إدراك الأحزاب الماركسية في العالم العربي لأهمية الفكر التحديثي في مواجهة التحديات التي تطرحها المسألة القومية لأمة متأخرة، تعيش في غير عصرها. كما أدّت إلى عدم قدرة هذه الأحزاب على صياغة مفاهيم أساسية صالحة لتحليل واقع التأخر والتبعية والتجزؤ في العالم العربي، لأنها لم توظّف المنهجية الماركسية توظيفاً نهضوياً تنويرياً .
2/5- الديمقراطية :
الديمقراطية واحدة في مضمونها وجوهرها، وإن اختلفت بعض جوانبها التطبيقية بتلاوين وفروق ثانوية بين هذا البلد أو ذاك. وهي ليست تلك التي أضيفت إليها صفاتُ أخرى، مثل “الديمقراطية الثورية” و”الديمقراطية الشعبية” أو ” الديموقراطية الجماهيرية”. فكل تلك النعوت المضافة للديموقراطية، باسم الطبقة والشعب و الجماهير، غدت فيما بعد وسيلةً للاستبداد و التسلّط. فكلما زادت أوصاف الديموقراطية فرغت من مضمونها.
الديمقراطية مجموعة قيم وثقافة حديثة، وقد جسدتها سياسياً الثورات البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي تتقاطع مع الليبرالية، ولكنها ليست هي ذاتها. إذ يحاول الليبراليون دائماً أن يتملّصوا من استحقاقاتها العمومية السياسية والاجتماعية. ,هي أعمق وأشمل من كونها نظام حكم فقط. فهي أولاً وأخيراً، نمط حياة يتعلق بكيان المواطن الفرد ومصيره، بحقه الطبيعي في الحياة والعمل، وتمتعه بكامل الحقوق المدنية والسياسية ومنظومة الحريات العامة: حرية الاعتقاد والتعبير والتظاهر والاجتماع والتنظيم والانتخاب والترشح.
الديموقراطية هي سيادة الشعب على أرضه ومصيره التي يضمنها دستور ديموقراطي، يكفل فصل للسلطات، وعدم طغيان السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. وهي في العمق عدم عبودية الفرد للسلطة الحاكمة أو أي سلطة أخرى، دينية كانت أو طائفية أوعشائرية أو عائلية أوحزبية.
والديموقراطية تعني سيادة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات و تكافؤ الفرص، وإنصاف المرأة وتفعيل دورها في المجتمع، وتساويها مع الرجل في العمل والمسؤولية والأجر والإرث والزواج.
إن الديموقراطية هي الشكل الأرقى لتنظيم الصراع بين الطبقات والفئات الاجتماعية ومسألة السلطة والحكم في المجتمع.
وفيما يتعلق بحقوق الإنسان، فهي من أهم مضامين الديموقراطية، وإحدى أهم القضايا على قائمة الاهتمامات الدولية في العالم المعاصر، وأحد أهم المعايير للحكم على مدى رقي و تحضر النظام السياسي في دولة ما. ولقد استقر الفكر الإنساني على وجود ترابط عضوي بين التنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وعلى العلاقة المتبادلة التي لا تقبل التجزئة بين مجموعة فئات الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إنّ الأساس في هذا الترابط هو قيام الأنظمة الديموقراطية على منظومة ثلاثية: حقوق الإنسان/ والتعددية السياسية والفكرية/ والمشاركة السياسية. هذا هو العام في الديموقراطية، الذي تطمح إليه شعوبنا العربية.
5/3- المجتمع المدني:
في سبعينات القرن الماضي، بدأ مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي، يأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامات الصحافة والأحزاب السياسية المعارضة. والملفت كان ذلك التزامن بين هذا الاهتمام وتفاقم الاستبداد والقمع في معظم الدول العربية، فيبدو أن المشاكل والمسائل حين تتفاقم كثيراً في المجتمع تطفو على سطحه لحلِّها.
I- حول المفهوم : بدأ تبلور مفهوم المجتمع المدني في أوربا، مع نهوض البرجوازية وقيام دولتها الرأسمالية الحديثة. فإلى جانب الدولة ككيان لسياسي، هنالك المجتمع المدني الذي تنضوي فيه المؤسسات الإنتاجية، والطبقات والفئات الاجتماعية، والمؤسسات التعليمية والثقافية والفنية والرياضية، والنقابات والاتحادات المهنية، والجمعيات بمختلف أنواعها…
بعضهم ينظر للمجتمع المدني، أنه مجموعة التنظيمات الطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتعاضد والتعاون والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. وهذا الرأي يستبعد من المفهوم المؤسسات السياسية والحكومية، ويبقى بذلك في نطاق المجتمع المدني المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي.
إن المجتمع المدني وما يرتبط به من مؤسسات وفعاليات اجتماعية مختلفة، يشكل طرف توازن مقابل سلطة الدولة، كي يحدَّ من تسلطها ويحمي الأفراد والجماعات من تعسفها. ويستخدم هنا مفهوم المجتمع المدني، في نقد الأنظمة السلطوية التي تقوم في الأساس على تقويض مؤسساته الفاعلة، وإخضاعها مباشرة للسلطة السياسية، بالإضافة إلى القضاء على استقلال المؤسسات التعليمية والثقافية..
III- العلاقة بين المجتمع المدني والسياسة: في الكثير من البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، كان ولا يزال يتقلص دور المجتمع المدني طردا مع اتساع هيمنة الأجهزة الأمنية وازدياد مركزية الدولة وعسكرتها. ولقد بذلت السلطات في هذه البلدان كل ما بوسعها، لتوظيف مؤسسات المجتمع المدني في خدمتها سياسياً وحزبياً ودينياً وطائفياً.
وهنالك التباس حول مفهوم المجتمع المدني في الفكر العربي الراهن، ويرجع أصل هذا الاختلاط والالتباس، إلى أنه لم يتم التعامل معه بوصفه مفهوما حديثا نشأ وتكوّن مع ثورة الحداثة العلمية والتقنية في الغرب، ومع تطور غير مسبوق في السياسة والثقافة والفكر والاجتماع، وما أسسه ذلك من نشوء مفهوم حرية الفرد والعلاقات المدنية المختلفة.
ولكن أهم الالتباسات، هي حول دور مؤسسات المجتمع المدني ومهامها. فإذا كان الاهتمام الرئيس للأحزاب السياسية هو مسألة السلطة، فإنّ مؤسسات المجتمع المدني لها أهداف وأساليب أخرى، وإن كان هنالك بعض الأهداف المشتركة. في كثير من الأحيان لا تميز بعض التيارات السياسية بين المشروع السياسي والمشروع المواطِني/المدني. ويبدو أنّ هذا النمط من التعامل مع المجتمع المدني، كان نتيجة مباشرة على مصادرة الحكومات العربية السائدة للعمل السياسي، فجعل من منظمات المجتمع المدني معبراً ونافذة للتعبير السياسي.
إن العمل في منظمات المجتمع المدني يتطلب تحديد التخوم بدقة بين الاجتماعي والحقوقي من جهة، والسياسي من جهة أخرى. وهنا لابد من أن يتوفر لدى ناشطي المجتمع المدني وعي سياسي ومدني عالٍ يسمح لهم بامتلاك نظرة شفافة وتصور دقيق للأوضاع المحيطة بهم. فمثلا، في منظمات حقوق الإنسان، التي مهمتها حماية الأفراد والمجتمع من عسف السلطة السياسية، والدفاع عن كل وسائل التعبير عند الأفراد والجماعات دون تمييز، فالمرجع النظري لهذه المنظمات هي شرعة حقوق الإنسان. وهذا يعني أن الحركات السياسية عليها أن تمارس السياسة في قنواتها، وأن تتحرر من عقلية الوصاية على التعبيرات الاجتماعية والنقابية لتسهم فعلا في ولادة مجتمع مدني حديث جدير بهذه التسمية.
IV- دور المجتمع المدني: دار جدل كثير حول أهمية المجتمع المدني ودوره في البلدان العربية، إذ صار يعتبر أحد أهم روافد تعزيز وتمكين الديموقراطية، فضلا عن دوره في تفعيل الوعي بأهمية الحراك الطوعي في المجتمع.
إنّ المؤيدين لفكرة المجتمع المدني، ينطلقون من أنّ التطور الديمقراطي للمجتمعات وتحديثها يتطلبان قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطا يكمل دور الدولة، ويساعد على إشاعة قيم المبادرة والعمل الجماعي والاعتماد على النفس. وهذا يهئ فرصا أفضل لتجاوز هذه المجتمعات مرحلة الاعتماد على الدولة في كل شيء، وكذلك يعمل على تصفية أوضاع اجتماعية بالية موروثة من العصور الوسطى. وصار نفوذ المجتمع المدني معياراً لحداثة هذه الدولة او تلك. في الوقت الذي تعتبرقوة نفوذ (المجتمع الأهلي) معياراً لتأخر هذه الدولة او تلك؛ باعتبار المجتمع الأهلي يقوم كل كيان من كياناته الصغرى قبل الوطنية(العشيرة، الطائفة، المذهب، العائلة..) بحماية جماعته وأفراده الذين لا يحظون بحماية الدولة في ظل الدولة السلطانية والاستبدادية. فكل كيان يحمي جماعته. وفي ذلك إعاقة للاندماج الوطني وبناء الدولة الوطنية الحديثة.
بهذا المعنى، حينما ينجح العمل المجتمعي في انتزاع حقوق كل الجماعات وكل الأفراد ويضمن حريتهم وكرامتهم في وجه أي سلطة، ويفرض حدوداً قانونية لتدخلها، يؤسس بذلك للمواطنية بمعناها العصري، ويكرس السلطة كعقد اجتماعي متوافق عليه، ويحول السياسة إلى قضية عامة لا تحتكرها النخب، بل يتداولها الجميع. ولذلك فمنظمات المجتمع المدني في المحصلة، هي جزء من الحركة السياسية العامة في المجتمع، وذلك من خلال فعاليتها السياسية غير المباشرة.
إن دور المجتمع المدني لا يقوم على منافسة الدولة، وإنما في جوهره استثمار واستيعاب للتجارب والخبرات والطاقات الاجتماعية. وهو ليس بالضرورة نقيضاً للدولة، وإنما بحسب طبيعة هذه الدولة، فإذا كانت دولة ديموقراطية دستورية، فإنما التكامل والتعاضد سيكونان سمة العلاقة بينهما.
فهو يلعب دورا أساسيا في عملية الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وإن وجود مجتمع مدني قوي ومتحد، يرسخ تقاليد تمثيلية سياسية وثقافية، ويمكنه أن ينشئ شبكة من المؤسسات والعلاقات، يمكن أن تسهم في عملية الانتقال إلى الديموقراطية. لذلك لم تكن صدفة معاداة أنظمة الاستبداد، على اختلافها، لوجود مجتمع مدني قوي متحرر. وهي تعتبره جملة من المنظمات غير الحكومية تقف في وجه الدولة، وتكيل لها الاتهامات المختلفة وفي مقدمتها الصلة بالخارج، والاعتماد على دعم وتمويل منظمات غير حكومية في البلدان الغربية المتقدمة. وفي الواقع، هناك أزمة ثقة عميقة ومتبادلة بين الطرفين، فأنظمة الحكم الاستبدادية تنظر بريبة لهذه المنظمات التي لا تريد فقط التحرر من القيود الرسمية، وإنما تطالب أيضا بإحداث تغيير نوعي في شروط ووسائل صنع القرار.
4/5- الاشتراكية الديموقراطية:
لا شك، أننا مطالبون، في طريقنا إلى الديمقراطية بالنضال من أجل العدالة الاجتماعية التي هي جزء أساس منها. فلا معنى للديمقراطية ولا لحقوق الإنسان دون التحرر من الفاقة والجوع والمرض والجهل. إنّ الاشتراكية، بما تنطوي عليه من نزوع نحو العدالة الاجتماعية، هي من المثل العليا التي ستبقى دائماً حلماً للبشرية تناضل من أجل تحقيقها. إنّها الديمقراطية ذاتها حين تتطوّر ويتعاظم مضمونها الاجتماعي.
ولن يكون فشل التجارب الاشتراكية، سبباً لدفن هذا الحلم، حتى ولو عانى من نكسات وتراجعات كبيرة في أماكن عدّة. ومن المفيد في هذا السياق ،أن نعرج قليلاً على تاريخ العلاقة بين الماركسية والديمقراطية فكراً وممارسة، وثمة مؤشرات عدة تدل على عدم تناقض العلاقة بينهما في الأساس:
أ- يتبين من كتابات كارل ماركس وفريدريك أنجلس، أنها كانت، في توجهها المركزي، ميالة إلى تثمين الديمقراطية الليبرالية، معتبرة أياها خطوة ثورية في مضمار السياسة والسلطة.
ب- كان الجهد الأساسي للماركسية، على ألا يبقى المجتمع مجرد نظام سياسي للبورجوازية، بل نظاماً عمومياً يحمي ويكفل حقوق سائر طبقات المجتمـع . إذ لم تعد الديمقراطية، في منظور الماركسية، كفالة الحقوق السياسية للمواطنين فقط، إنما كفالة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أيضا.
ج- إن تراث الحركة الاشتراكية، في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، ضد النظم السياسية الفاشية والنازية في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، كان نضالاً مكثفاً من أجل الحرية والديمقراطية . وقد تعزز هذا التراث بالتراكم النضالي للاشتراكيين ضد النظم الديكتاتورية والعسكرية في جنوب أوروبا (اليونان، إسبانيا، البرتغال) في سبعينات القرن الماضي.
د- إن الرصيد الهائل من المراجعات النظرية والسياسية التي قامت بها الأحزاب الشيوعية في أوروبا، لكثيرٍ من الموضوعات الماركسية التي كانت موضع بداهة وتقديس، كان يتعلق بالمسألة الديمقراطية. وقد أسبغت الأحزاب الشيوعية الأوروبية على مواقفها قدرا كبيرا من الاستقلالية، وقد عبّرت عنها بمقولة” الشيوعية الأوروبية”، التي أُطلقتها على خطها السياسي لتمييزه عن “الشيوعية السوفياتية “.
هـ – إن التجربة الغنية للاشتراكيين الديموقراطيين في أوربا الغربية، بعد الحرب العالمية الثانية تشكل إضافة نوعية للفكر الاشتراكي وإنجازاته النظرية والعملية. فقد تمكنت الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في الديد من البلدان(فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، السويد، أسبانيا …) من تقديم نماذج باهرة من التقدمات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الطبقة الوسطى والفئات الشعبية.
وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الأزمة الرأسمالية التي تعصف بعالم اليوم، وسقوط الليبرالية الجديدة، قد أفسحا في المجال للديموقراطية الاشتراكية لكي تطفوعلى السطح من جديد. وفي هذا الإطار صار من الممكن الكلام على مشروع اشتراكي للقرن الواحد والعشرين.
نحن لا نعتقد ان الشعوب بعد تجارب القرن الماضي يمكن أن تحلم باشتراكية، وتناضل من أجلها، مالم تضمن للإنسان الفرد وللجماعات الحريات المدنية والسياسية والدينية والثقافية، والطابع المدني والعلماني والمواطني للدولة.
5/6- العلمانية
إن العلمنة في الغرب لم تقم فقط بتحرير الدولة والسياسة والعلم والمدرسة من سلطة رجال الدين، إنما في المقابل حررت أيضاً الفكر الديني بشكل عام من طغيان التحالف الكهنوتي السلطوي، الذي كان معيقاً لتقدم المجتمع.
لقد قلص الإصلاح الديني في الغرب إلى حدٍ كبير من وطأة الجدران السميكة بين الإنسان الفرد والله. فنقد الدين وإصلاحه قد وطَّدا سلطة الفلسفة والمعرفة، التي فتحت الطريق أمام النظريات العلمية الكبرى والثورة الصناعية.
بعد حملة نابوليون على مصر وسوريا، ونشوء دولة محمد علي في مصر، بدأت في العالم العربي إرهاصات العقلانية على يد رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده. وفيما بعد في بداية القرن العشرين بدأ الكلام على فكر الفصل بين الدين والعلم، والحكومة المدنية وكان من أهم رواد هذه المرحلة (لطفي السيد وطه حسين والشيخ علي عبد الرازق..). ويقول الأخير في كتابه(الإسلام وأصول الحكم): “لاشيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعدَ ملكهم ونظامَ حكوماتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية وأمتن ما دلَّت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم”. فهذا الشيخ الأزهري ينقد بقوة، منذ أكثر من ثمانية عقود مقولة (الخصوصية) التي تتذرع بها الأنظمة العربية الحالية للتهرب من الاستحقاق الديموقراطي والعلماني الذي راح يطفو الآن على السطح الاجتماعي.
ولكن هذه الإرهاصات النهضوية والعقلانية التي راحت في النصف الأول من القرن العشرين تتعانق مع بدايات التراكم الرأسمالي في العالم العربي، عادت لتنكفئ مع سيطرة الأنظمة العسكرية الشمولية التي سيطرت على السلطة بالعنف وتحت يافطة الشرعية الثورية، التي قامت بدمج وتوحيد قسري لكل مجالات الحياة الاجتماعية بما فيها الدين مع سلطة الدولة. وقد قامت هذه الأنظمة بثلاث خطوات كبيرة إلى الوراء:
أ- تدمير نواة الدولة الحديثة التي بدأت تنشأ في ظل الاحتلال الاستعماري وغداة الاستقلال.
ب- عزل فكر رواد النهضة العربية والتعتيم عليه. ومن الملفت أن هؤلاء الرواد قد وقعوا بين نار (اليسراويين) الذين اعتبروهم مثقفين برجوازيين، ونارالإسلاميين التماميين الذين اعتبروهم خارجين عن الدين.
ج- القضاء على الاعتدال الديني وتهيئة التربة الاجتماعية والسياسية الخصبة للإسلام المتطرف.
د- وقوف السلطات الحاكمة إلى جانب رجال الدين المعادين للإصلاح، الذين يبادلونها الدعم والمساندة.
هـ – محاربة الاتجاهات الليبرالية واليسارية وتنظيماتها التي تحمل مشاريع فكرية وسياسية نهضوية وتدعو للعقلانية والحداثة.
إن العلمانية والإصلاح الديني والمجتمع المدني والديموقراطية مفاهيم متداخلة عضوياً وتنتمي زمانياً ومكانياً لفضاء واحد، وتجمعها عملية نضالية كبرى واحدة،على المستوى الفكري والمدني والسياسي.
وإذا كانت العلمانية تفصل بين الدين والدولة، لكنها ليست نقيضاً للدين، ولا تتدخل بحرية المعتقد والانتماء. وهي في المحصلة، تحرير للمجتمع والدولة والدين من هيمنة تحالف تاريخي بين السلطتين الزمنية والدينية. وأهم دور للعلمانية، هو توحيد المجتمع وصهره من خلال المواطنية، والمدرسة والجامعة ومؤسسات المجتمع المدني على كل الصعد.
وأيضاً العلمانية مثل الديموقراطية فلا تحتاج إلى تكثير أوصافها(علمانية ديموقراطية ،علمانية دكتاتورية، علمانية عربية..)، فعامُها واحد، وإن تظاهرت ببعض الفروق بين دولة ديمقراطية وأخرى، كما نرى الآن بين العلمانية الفرنسية و البريطانية أو الهولندية أو الأميركية أو اليابانية…
*
الفصل السادس
حول الحزب
1/6- مفهوم الحزب:
الحزب السياسي، منذ ظهوره الحديث، أخذ يعني مجموعة من الناس تسعى، من خلال اتحاد طوعي منظم، إلى المشاركة في القرار السياسي للسلطة، أو إصلاحها وتدعيمها، او تغييرها. في حين كان الحزب يعني لدينا، نحن العرب، أنصار شخص أو جماعته، أو تيار قبلي تكوّن منذ مئات السنين. وفي تاريخنا احتكر قادة القبائل والطوائف العمل السياسي إما بالوراثة، أو عبر ظروف طارئة، أو شخصيات نافذة تمتلك مصادر المال والقوة العسكرية في المقام الأول.
لقد استمر معنى الحزب على هذا النحو، بصورة أو بأخرى، حتى القرن التاسع عشر حين ظهرت الأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا بالمعنى الحديث. لكن المفهوم القديم، استمر في تأثيراته ووجوده إلى ما بعد قيام الأنظمة البرلمانية، وأخذ يضعف ويختفي مع تعميق دور المؤسسات وتكريس وجودها على أساس القانون والسيادة.
2/6- نمط الحزب القائد للدولة والمجتمع:
لجأت السلطة في بلادنا لحماية احتكارها للسياسة، إلى تعميم القمع وإرهاب الناس ليعزفوا عن ممارستها، ودفعهم إلى ممارسة الصمت والتقية والانشغال بتأمين المتطلبات الضرورية للحياة اليومية. وكذلك أبعدت السلطة المسألة الوطنية عن حقلها الداخلي الرئيس، وحصرتها بالتحديات الخارجية التي تستهدفها. وجعلت من هذه التحديات ، ومن الشعارات القومية التي ادعتها، ذريعة لنزع السياسة من المجتمع، وإفراغها من مضمونها الأهم الذي هو تداولَ السلطة وإخضاعها لسيادة الشعب ورقابته. لقد تمحور نهج السلطة بشكل ثابت على جعل التحديات الخارجية ذريعةً لاستبدادها بالداخل.
عبر هذا المسار تغير مفهوم الحزب في وطننا، وأصبح يعني حزباً واحداً يحكم الدولة والمجتمع. وبالنسبة إلى الملايين من الأجيال الجديدة التي ولدت، ونشأت تحت إشراف هذا الحزب الحاكم، وفي ظل ثقافته الأحادية المفروضة، أصبح الحزب لا يعني لها سوى بنية تنظيمية شمولية شبه إجبارية، تسيطر على السلطة والثقافة والوظيفة والمستقبل. لهذا، انتسب لهذا “لحزب” عشرات الألوف من الشباب، إما خوفاً من السلطة ودرءاً لأذى أجهزتها التي غطت كل مفاصل الحياة، أو بحثاً عن مكاسبها في مجالات الوظيفة والعمل والمنح، أو طمعاً بامتيازاتها التي ليس لها حدود. كل هذه الأمور أحاطت مفهوم الحزب بالشك والريبة والمشاعر السلبية، وانحدرت “الحزبية” في بلادنا إلى دركٍ متدنٍ جداً، وصارت تعتبر شكلاً من أشكال الممالأة والزيف والانتهازية.
وهذا طبعاً، يؤدي إلى تقليص حجم الأحزاب القائمة، والى محاصرتها في مجالات ضيقة، بحيث تصبح مهمتها الحفاظ على وجودها الفعلي وفي أضيق الحدود.
إن الحزب منذ القديم، لغة ومعنى، لا يعني كل أفراد المجتمع،إنما قسما أو جزءاً منهم، فهو يتضمن مفهوم التعدد، حيث الحزب يمثل طبقات وفئات محددة وليس الشعب كله، ولذلك فالحزب الواحد في المجتمع يفتقد صفته كحزب.
3/6- حول مفهوم المركزية الديموقراطية:
ساد هذا المفهوم في تاريخ حزبنا وفي تاريخ الأحزاب الشيوعية واليسارية والقومية. تاريخياً لم يطبق في معظم الأحزاب التي قامت على أساس هذا المبدأ، غير الشق الأول من هذا المفهوم، فالمركزية كانت دائماً تلتهم الديموقراطية. وقد أدت مقولات “التنظيم الحديدي”، و”الانضباط الصارم” وعلاقات الأوامر والطاعة والامتثال إلى “عسكرة” هذه الأحزاب. وعلى مستوى الأفراد كرست هذه الممارسات نوعاً من علاقات التبعية والاستزلام. ويتحول الفرد إلى مجرد منفذ عقائدي لا يفكر ولا يبدع، و يتحول مع مرور الزمن إلى نابذ لأي فكر جديد، معتبراً أي تجديد تحريفاً وهرطقة. إن حزب المركزية الديمقراطية يختزل المبادىء والعقائد في كراسات تختزل العالم كله إلى ثوابت نمطية بسيطة ومطلقة، وفي هذا الشكل من الحزب يكون المؤتمر أعلى هيئة قيادية (صورياً)، حيث ينتخب أعضاؤه بتزكية من القيادة القائمة، وكذلك تنتخب اللجنة المركزية من بين المؤتمرين، ثم المكتب السياسي ليقود ما بين اجتماعين للمركزية، وهكذا يصبح المكتب السياسي بالممارسة الفعلية سلطة مطلقة ومغلقة تدور في فلك الأمين العام وتحرص على رضاه وتنفيذ أوامره وتوجيهاته!. في حزب كهذا يُقيّم العضو على أساس انضباطه في تنفيذ أوامر القادة بلا تردد ولا مناقشة، ويتقلص وجوده وفعالياته الذاتية ليصبح نسخة عن الشكل العسكري المعروف.
وتحت ذريعة الالتزام بخط الحزب السياسي، ومبادئ الماركسية اللينينية، كان لا يسمح في حزب المركزية الديموقراطية بوجود تيارات واتجاهات في داخله ولا حتى بتفارقات وتباينات،وهذا ما يشكل جداراً وسوراً عالياً أمام حرية الرأي والتفكير وذريعة لقمع الأقلية والرأي الآخر والمبادرات والإبداع الخلاق. وكذلك مفهوم الحزب الطليعي في الممارسة لم يعنِ سوى الهيمنة على المجتمع بفعالياته السياسية والمدنية كافة.
4/6- الحزب الاشتراكي الديمقراطي
لا بد من التأكيد، في مرحلة التحول الديمقراطي، على أن هوية الحزب تتجسّد، في قدرته على تمثيل طبقة بعينها، أو طبقات وفئات من الشعب. وهذا هو الجانب الاجتماعي من الهوية الذي لا يتناقض مع التمسك بالمصلحة العامة للمجتمع استناداً إلى صيغة التعاقد الاجتماعي التي يتم التوصل إليها، دون أن يكون هناك تعارض بين مصالح الطبقات الفقيرة ومصلحة المجتمع ككل. وهذا هو الجانب الديموقراطي من الهوية.
لا يقيم هذا الحزب أي تعارض بين الديموقراطية والاشتراكية. ويسلم بأن الديمقراطية هدف نسعى إليه ونناضل من أجله لكي نحرر المجتمع من الاستبداد وحكم الحزب الواحد، وبعد الانتقال إلى الديمقراطية يصبح من مهمات الحزب الديمقراطي العمل الدائم لتعزيز ممارسة الديمقراطية، وتطوير هذه الممارسة إلى ما فيه خير المجتمع. ولذلك، يؤمن الحزب الديمقراطي بالأساليب الديمقراطية العلنية للنضال ويتمسك بها، وينبذ العنف والتآمر والعمل السري.
لكن ممارسة حزبنا العمل السري في الماضي والحاضر جزئياً، تطلبتها حالة استثنائية وطارئة فرضها النظام الاستبدادي الذي يقصي الأحزاب عن حقها في العمل السياسي؛ وهي شكل من أشكال الدفاع عن النفس الغرض الرئيسي منه متابعة النشاط في أقسى الظروف. ولكن للعمل السري محاذير كثيرة، فهو يضعف موضوعياً علاقة الحزب بالناس، وينمّي العلاقات غير الديمقراطية داخل الحزب. وأخيراً، يؤكد حزبنا أن العلنية مبدأ ثابت في عمله، في جميع الظروف، وهو لا يلجأ إلى السرية إلا في حالات ضيقة محددة تحت ضغط احتمالات القمع البالغ، مع ضرورة توفير واعتماد آليات تحول دون أن تصبح السرية مدخلاً للهيمنة على عمل الحزب، و صوغ خطه وبرامج عمله وممارساته في أوساط الناس.
والحزب الديمقراطي ليكون ديمقراطياً بالفعل، فعلاقاته مع الأحزاب والقوى الأخرى في المجتمع ومواقفه منها يجب ان تكون ديموقراطية، لأن الرأي الآخر يعمق فهمنا لذواتنا ومشاكلنا ومستقبلنا. وسواء أكان الرأي الآخر مختلفاً معنا أو متوافقاً، فمن الضروري ان يكون التعامل معه عبر الحوار والجدل الفكري والسياسي.
والحزب الديمقراطي يكون ديموقراطياً، في أسس تنظيمه وحياته الداخلية. إن الحزب الديمقراطي اتحاد طوعي بين أشخاص أحرار لتحقيق أهداف بعينها على أساس منهج واحد، وبرنامج محدد، وبالتالي، فالحزب ليس غاية بذاته، بل وسيلة لغايات وأهداف. لهذا، يحق لكل مواطن يحدوه الأمل لتحقيق هذه الغايات الانتساب إليه في أي وقت على هذه الأسس، ويحق له، في الوقت نفسه، أن يخرج منه متى شاء دون خوف من تشهير أو إدانة أو ملاحقة أو ما شابه ذلك.
في الحزب الديمقراطي يجري انتخاب حرٌّ لقيادة تمثل الأكثرية. لكن هذا لا يعني أبداً انتفاء حق الأقلية في التعبير عن نفسها على أكمل وجه، بل يجب العمل على توفير الآليات المناسبة التي تتيح لها نشر آرائها والدفاع عنها وعن حقها المشروع في العمل الديمقراطي لكي تتحول إلى أكثرية إذا استطاعت عبر الانتخاب الحر. وبذلك يفسح في المجال في الحزب الديموقراطي لوجود تفارقات وتباينات واتجاهات وتيارات. إن تعدد الآراء بهذا المعنى يعزز الديمقراطية، ويؤكد مدى أهمية تجديد القيادة، وتقليص إمكانية استمرارها لدورات متكررة لا تنتهي؟!
والحزب الديمقراطي يهدف إلى الانتشار الواسع. وهو، لذلك، يقيم العضوية على شروط مرنة تهتم بالمضمون أولاً، دون الأخذ بمبدأ النخبة الخاصة، والوجهاء المتنفذين، وفي الوقت نفسه لا يقصي النخب ولا يُحوّل الارتباط بالحزب إلى علاقة شكلية سطحية، ويحافظ على تقديره وتوظيفه الناجح لأولئك الأفراد أصحاب القدرات والمواهب الخاصة الذين يرفدون نشاط الحزب بدفقات ذات حيوية وتأثير بالغين. كل ذلك يعزز تمويل الحزب لنفسه بنفسه رغم اعتماده على الطبقات الشعبية، ويضمن له الاختبار الدائم لخطه السياسي، ولبرامجه العامة والخاصة، في مجال الممارسة في أوساط الناس.
وما ينبغي تأكيده باستمرار أن لا يكون حكمنا على تاريخ العمل الحزبي منطلقاً من موقع الإدانة أو الثأر أو التشفي، بل من موقع النظرة النقدية الموضوعية التي تتيح لنا استخلاص الدروس، دون أن يغيب عن وعينا أن الحزب بنية قابلة للنقد والتغيير والمراجعة بصورة دائمة من خلال الممارسة الديمقراطية، والنشاط الفكري المنفتح على ثقافة العصر، والمؤتمرات الدورية المنتظمة على مختلف المستويات. وبهذا المعنى نعتبر أنفسنا حزباً ديموقراطياً اجتماعياً أو ديموقراطياً اشتراكياً.
6/5- حول النظرية النظيمية:
إن أشكال التنظيم في الحزب ليست مسألة ثابتة، إنما لها علاقة مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المتغيرة، ولكن شرط هذا التغيير يتطلب دائماً ضمانة الحفاظ على العلاقات الديموقراطية داخل الحزب. في هذا الإطار يمكن أن يلجأ الحزب إلى آليات وتكتيكات جديدة لخدمة مصلحته وانتشاره وتوسيع نفوذه في المجتمع. ونحن نرى أنه ليكون للحزب دور أكبر وقاعدة اجتماعية أوسع لابد من أخذهذه الأمور بعين الاعتبار:
(أ)- العمل على دخول الحزب إلى المجتمع، ليس عبر الممارسة السياسية فقط، وإنما عبر النشاطات المدنية، وهذا يتطلب تنشئة كوادر للحزب قادرة على الاشتغال بقضايا المجتمع المدني من نقابات وجمعيات مختلفة.
(ب)- الانفتاح على قطاعات شعبية جديدة أبرزها: الطبقة الوسطى في المدن، والنساء، والشباب.
(ج)- إعطاء أولوية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية في برامج الحزب وإعلامه، وإيلاء مسألة الإصلاح الدستوري أهمية قصوى.
(د)- إنّ بناء حركة شعبية ليس عملية عفوية، ولا يحدث تلقائيا، إنه يتوقف على النجاح في تطوير خط سياسي يربط بين المطالب الشعبية والحقوق الإنسانية الأساسية وبين المصالح الوطنية العليا.
(هـ )- أن يكون الحزب معاصراً في علاقاته ووسائله وإعلامه، وأن يصبح وسيلة فعالة بيد المجتمع لتحقيق أهدافه، وليس عبئا عليه.
(و)- الانتقال من الدائرة الضيقة للسياسة إلى الدائرة الحقيقية لها، وهي مجمل واقع البنية الاجتماعية وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والفكري.
(ز)- التوجه النشيط لتغيير بنية الحزب في اتجاه استيعاب العناصر الحاملة للمعرفة ، وخلق الأطر والصيغ والمكاتب المناسبة لعملها.
(ح)- الحزب الديمقراطي يرى في المواطنين الأساس في تحديد الأهداف السياسية، لذلك يسعى ليكون رأيهم مسموعا في جميع القضايا التي تهمهم.
(ط)- إذا كان الدور الذي لعبه الحزب طوال المرحلة الماضية هو في فهم الواقع والعمل على تغييره، فإن المفهوم الحديث للحزب يجب أن ينصب على تحقيق مصالح الشعب، فضلا عن الدور الثقافي والسياسي المتمثل في إطلاق ثقافة مندمجة بالمشروع السياسي ومتلازمة معه حتى يصبح مشروعا ناجزا.
(ي)- يجب ألا نضحي بالقضايا المعيشية للمواطنين ونعتبرها ثانوية لصالح الشعارات الكبرى.
(ك)- الأحزاب مثلما هي إطار لتجميع المصالح والتعبير عنها، أي إطارا لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، فإنها أيضا وبالضرورة تصبح وسيلة أساسية للتحديث في مجال العمل السياسي ببعديه الثقافي والمؤسسي. وبدون تلك الوظيفة الجوهرية، أي الوظيفة التحديثية، تصبح الأحزاب إطارا فارغا من المضمون.
(ل)- من المهم تكوين قاعدة كوادر صلبة ونشيطة للحزب، وإذا كان حزبنا في المرحلة الراهنة يحتاج إلى عدد كبير من الكوادر، من المهم في الوقت ذاته الاهتمام بنوعية هذه الكوادر قبل الكم.
(م)- يمكن ايضاً للحزب أن يقوم بمستويات تنظيمية مختلفة في أشكالها،حسب المناطق وحسب نوعيات المؤيدين والأنصار، وربما من الضروري جداً اكتشاف أشكال تنظيمية جديدة وحديثة أكثر مرونة وفعالية، مختلفة عن الماضي.
(س)- ايلاء الإعلام الحزبي اهتماماً أكثر، بحيث يصبح له علاقات عضوية مع المجتمع ومؤسساته. وإقامة العلاقات مع المثقفين والفنانين والأدباء وتشجيعهم على الكتابة في وسائل إعلام الحزب.
(ع)- إن تنفيذ المهام الكبرى في السياسات الوطنية والاجتماعية، أثقل من أن يقوم بها حزب واحد، فلا بد من إتقان العمل التحالفي مع الطبقات والاتجاهات والتيارات والأحزاب الأخرى، وتقديم الصيغ والأساليب المناسبة لتحقيقه، وبذل التضحيات المناسبة لإنجاحه.
(ف)- للحزب مهام عربية وإنسانية أيضاً، فلا بد من فتح قنوات للصلة والحوار مع الأحزاب العربية ذات الاهتمام والأحزاب المعنية على الصعيد الدولي التي يشترك معها في الهموم والطموحات.
اللجنة المركزية