إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
نشأ القانون مع نشأةِ الدولة كشرطٍ لازمٍ لها، فنظّم شؤونها، وضِمنِ ذلكَ علاقاتُِ الناس فيما بينهم بعضهم/نّ ببعض، وحقوقهم/نّ وواجباتهم/نّ، أفراداً وجماعات. وإلى حدٍّ بعيد كان تطوُّرُ الدول، وضِمنِ ذلك “الحقوق” وصولاً إلى “المواطَنة”، هو نتيجةَ تطوّر “القوانين”، وأهمّها ّ”الدستور” بِصفتِه رأسها، الذي يفرضُ سيادةَ القانونِ على الحاكمِ والدولة وليسَ على المحكومين/ات فقط كما كان الحالُ قَبلَهُ.
فالدستور منذ نشأتِهِ حدّدَ الحقوقَ وضَمِنَها، ما أتاح له أن يكون في تطوّره المطّرد، مُوَجِّهَ التطوِّرِ والتَقدِّمِ في الدول، وحامي مجتمعاتها، ووعاءَ اتساع قاعدتها الاجتماعية على صعيد المساواة والحقوق والثقافة، عبر عملية تَراكميَّة جرت خلال مسيرة تاريخية طويلة. ومع أن القرن العشرين عرف تنويراً حقوقياً واسعاً على صعيد البشرية إلا أن النجاح في تحوّله إلى دساتير حرّة تحمي حقوقهم كان متفاوتاً بين دولهم، ما أدّى إلى حصول موجاتٍ من الحِراكِ المطلبي من أجل ردم الفروقات بين الدول والمجتمعات، عبر المطالبة بتعميم دستور ديمقراطي وسيادته على الحكومات والمجتمع لتحقيق دولة القانون الخاصة بكلٍّ منها.
ولأن القانون بات في عَصرنا، عصرِ المؤسسات والقانون والاتفاقيات الدولية، عصرَ “شرعةِ حقوق الإنسان”، شأناً إنسانياً عالمياً، ومُنتَجاً حضارياً، فقد أصبح يرتبط بالثقافة الإنسانية التنويرية المعنية بقيم المساواة والعدل والحقوق والديمقراطية، وهو ما يظهرُ أَثَرُه في ثقافة الناس في كلّ مكان على صعيد البشرية؛ بدليل تكرار موجات النضال الديمقراطي لتبنّي هذه القيم في البلدان التي لم تحترمها حكوماتها أو دأبت على انتهاكها، ما أظهر أن القوانين الحرّة وثقافتها تُجري تغييراً في ثقافة المجتمعات حتى منها من كان حتى وقتٍ قريب أسيرَ أوضاعه المُتَخلّفة التي تعاند التطور والمساواة والعدل وحقوق الإنسان والديمقراطية.
الدستور كما آلَ إليهِ الحالُ في تطوّرهِ المُطّرد، ليس عَقداً اجتماعياً تتفق به الأغلبية، على اختلاف مكوِّناتها، لِتتجاوزَ أو تغّيبَ حقوقَ الأقلية على اختلاف مكوناتها، بل هو قواعد قانونية تُصاغُ بأيادٍ خبيرة دستورياً ومحايِدة بحيث تسمح للمواطنين/ات جميعاً أن يكون لهم حقوقهم/ن ومشاركتهم/ن السياسية دون انتقاصٍ أو تجاهلٍ أو تمييزٍ على أساس جنسي او ديني أو طائفي أو قومي أو سياسي. وهو ما يعني أن يُبنى الدستور بشكلٍ يحافظ على حقوق الجميع دون تمييز، ومما يضمَنهُ أن يكون للأغلبية ُالبرلمانية، المُنتَجة عن تصويتٍ حرّ وديمقراطيّ، السير في برنامجها الذي انتُخبت بناءً عليه، في الوقت الذي يحمي الأقلّيّة البرلمانية، إن كان بمنع أيّ إجراء، أو قانون جديد، إن أقرّته الأغلبية، وخالف الدستور، أو مسّ وجود الأقلية البرلمانية أو ألحق ضرراً فادحاً بناخبيها، وأدّى إلى إغلاق السبل على الأقلية البرلمانية للتحوّل إلى أغلبية في انتخاباتٍ مقبلة. كما ينظّم الدستور، والقوانين المشتقّة منه، حمايةَ حقوق الأقليات الدينية والقومية والطائفية من أي تَغَوُّل من قبل الأكثرية ويكافحُ التمييز. وهو ما يعني في مجتمعنا أن يكون مضموناً حقُّ الترشّح والانتخاب لكلّ المواطنين/ات دون تمييز، وهو ضمانة حاسمة لاجتماع السوريين/ات على الديمقراطية بعد انقسام، ولإتاحة كلّ الحقوق لهم/نّ ليعيشوا/ليعِشْنَ معاً أحراراً متساوين/ات. وبالتالي يمكّن الدستور الديمقراطي الجميع من حقوقهم/نّ، بغضّ النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو الطائفة أو الموقف السياسي، إذ يتيح لهم/نّ أن يعيشوا في فضاء حرّ، ويمنع أَسْرَهُم/نّ في أُطرٍ “دونً مواطنية”، في الوقت الذي يحمي حقّهم/نّ في الاعتقاد والممارسة الثقافية.
*
نهائي-2الدستور-السوري-٢٠٢٤*
القيم التوافقية العليا – “القواعد المؤسسة للدستور والقوانين”
القيم العليا هي رؤية توافقية حول المستقبل تتفق فيه كل مكوّنات المجتمع على العيش تحت سقفها، وتستلهم التاريخ والحاضر وتجارب الشعوب لُيبني عليها أفق المستقبل القادم، الذي نتمنى لأجيالنا العيش فيه، وهذه القيم لا تخضع لتجاذبات السياسة والإيديولوجية، بل تكون فوقها تؤسس لدولة المواطنة الحقّة ومظلة تحمي جميع المواطنين بالتساوي. وتكون بمرتبة فوق دستورية.
وبالتالي فإن هذه القيم لا تخضع لرغبات الأغلبية أو الأقلية مهما كان نوعها قومية كانت أو دينية أو سياسية أو جنسية بل وفقا لإرادة الجميع لبناء دولة للجميع، بحيث لا يمكن أن تطغى أية أغلبية كانت ومهما كان حجمها ونوعها على حقوق أي أقلية مهما صغر حجمها، ويشكل ضمانة للجميع بأن حقوقهم ستكون مكفولة مهما كان شكل وحجم الأغلبية التي ستكون بالسلطة.
وحيث أن أرقى ما وصل إليه الإنسان في قوانينه الوضعية والتي لقيت إجماعا وقبولا من كل العالم هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الملحقين به والخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى المساواة بين الجنسين وحقوق الطفل ومنع التعذيب وغيرها، فمن الضروري استلهام هذه المبادئ لبناء عقدنا الاجتماعي المؤسس لسوريا الجديدة وترجمتها إلى واقع يشكل رسالة طمأنة وأمان إلى جميع أبناء الوطن بأن مستقبلهم وأولادهم سيكون أفضل في وطن للجميع.
إن هذه المبادئ التي يتضمنها القيم العليا ستكون في مرتبة عليا وقواعد مؤسسة فوق دستورية ومرجعية لأي دستور أو قوانين تنظم حياة المجتمع والدولة في سوريا، لا يجوز مخالفتها لأنها تمثل ضمير المجتمع وتحمي حقوق أبنائه من أي انتهاك.
القيم التوافقية العليا
“القواعد المؤسسة للدستور والقوانين”
- سوريا دولة ديمقراطية تعددية مدنية غنية بتنوعها القومي والديني والطائفي تحترم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وهي وحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة تعتمد مبدأ المواطنة المتساوية وهي جزء من منظومة عربية وإقليمية ودولية ترسم سياستها بما يحقق المصالح العليا للشعب السوري ويصون وحدته وأمنه.
- سوريا دولة قانون ومؤسسات، ووطن لجميع أبنائها وبناتها، تُحقق مبدأ فصل السلطات، جميع المواطنون/ات متساوون/ات أمام القانون ولهم/ن نفس الحقوق وعليهم/نّ نفس الواجبات، ولا يجوز التمييز بينهم/نّ بسبب الدين أو العرق أو القومية أو الجنس أو الرأي السياسي.
- السيادة للشعب يمارسها عبر انتخابات حرّة ومباشرة وشفافة، تعتمد على مبادئ المساواة والحرّية والعمومية والاقتراع السرّي، ولجميع المواطنين/ات حقّ المشاركة السياسية وتولي المناصب العامة دون تمييز، وحقّ الانتماء إلى المجموعات والجمعيات والأحزاب السياسية السلمية وتشكيل النقابات التي تعبر عن مصالحهم.
- لجميع المواطنين/ات حقّ الرأي والمعتقد والفكر والتعبير عن آرائهم/ن علانية، ولهم/ن حقّ تداول المعلومات بحرّية والتظاهر وممارسة شعائرهم/نّ بشكل سلمي، ولا يجوز إجبار أي مواطن/ة بالقسّر على ممارسة أو الامتناع عن ممارسة فعل سلمي يتعلق برأيه/ها أو اعتقاده/ها، ولا محاسبته/ها أو التضييّق عليه/ها بسبب ذلك، ولا يجوز الحضّ على الكراهية أو العنف بين الطوائف والأديان والقوميات أو النيل من الوحدة الوطنية.
- لجميع المواطنين/ات حقّ التمتّع بالعدالة، وحصوله/ها عليها ضمن وقت معقول، والتقاضي أما قاضيهم/نّ الطبيعي، والسلطة القضائية يجب أن تتمتّع بالاستقلالية التامّة والحياد والنزاهة، باعتبارها الدرع الحامي والضامن للحرّيات العامة والحقوق، وحقّ الدفاع حقٌّ مقدّس لا يجوز انتهاكه، وللجميع على قدر المساواة التمتع بالحماية القانونية، وكل متهم/ة برئ/ة حتى تثبت إدانته/ها.
- الحياة حقٌّ مقدّس، وللجميع حقّ التمتّع بالحرّية والسلامة الشخصية، ولا يجوز انتهاك الحياة الشخصية، ولا يجوز توقيف أي شخص أو تحري مسكنه/ها إلا بمذكرة قضائية، كما لا يجوز تعريض أي شخص للتعذيب والإيذاء البدني أو المعنوي أو المعاملة الحاطَّة بالكرامة الإنسانية.
- لكل المواطنين/ات حقّ التنقل واختيار مكان العيش، ولا يجوز إبعاد أي سوري/ة عن بلده/ها، ولا يجوز تحديد إقامته/ها أو منعه/ها من السفر إلا بقرار قضائي، ولجميع المواطنين/ات الحقّ بالعمل وبحد أدنى من الأجر العادل، بما يكفل له/ها ولأسرته/ها حياة كريمة وبظروف تضمن السلامة والصحة.
- الثروات الطبيعية ملك للشعب لا يجوز التنازل عن ملكيتها، ولكل مواطن/ة الحقّ بالتملّك، وتحمي الدوّلة الملكية الماديّة والفكرية، ولا يجوز نزع الملكية إلا للنفع العام ومقابل تعويض عادل.
- التعليم والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي والبيئة النظيفة حقٌّ لكل مواطن، والتعليم مجّاني وإلزامي حتى انتهاء مرحلة التعليم الأساسي، وتعمل الدّولة على تحرير المجتمع من الجوع والأمِّية، وتوفير التنمية الاجتماعية والاقتصادية بشكل متوازن وعادل في كل الجغرافية السورية.
- لكل طفل من أب أو أم سوريين الحقّ بالجنسيّة والنسّب دون تميّيز بسبب العرق أو الدين أو القومية أو الجنس، وعلى الدولة بمساعدة الأسرة والمجتمع حماية حقوقه/ها واتخاذ التدابير اللازمة لحمايته/ها.تقوم المحكمة الدستورية العليا المكونة من قضاة وخبراء/ات قانون مستقلين/ات بالرقابة على انسجام الدستور والقوانين الصادرة مع هذه المبادئ وعدم مخالفتها له.
عرضت هذه المبادئ على القوى والأحزاب والشخصيات المعارضة وتم تبنيها والتوقيع عليها من قبلهم جميعا في مؤتمر نبذ الطائفية المنعقد في القاهرة عام 2012.