مرة أخرى تطرح من جديد موضوعة الخدمة المدنية للعرب في اسرائيل ، خاصة بعد قرار حكومة اسرائيل اقامة مديرية لتطبيق الخدمة المدنية على العرب والمتدينين اليهود.
كالعادة كانت المواقف العربية ، من جميع الأحزاب والاطارات السياسية ، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين ،من أكثر العلمانيين تطرفا في علمانيتهم ، حتى أكثر المتدينين تشددا في عقيدتهم ، هو موقف الرفض لهذا المخطط ، وأطلقت الشعارات ، وكان التنافس بين الأحزاب شكليا وبلا مضمون ، من يطلق شعارا أكثر ” ثورية ” ، وأكثر تصلبا ، في كلمات الشعار بالطبع … لدرجة ان البعض دمج بين الخدمة المدنية وتشوية الهوية القومية ، وهناك من ذهب الى فانتازيات سياسية ،غارقة في الخيال السياسي الجامح ، وكله مشروع ومضمون في النظام الدمقراطي الذي يضمن ويحمي حرية الرأي والاختلاف والنقد والهجوم الحاد والدعاية والنشاط السياسي والاعلامي والقانوني اذا لزم المر ، الذي يوفره القانون الاسرائيلي للمواطنين العرب أيضا .. وهذه حقيقة وليس ادعاءا !!
بالطبع لا تبرير للسياسة الممارسة ضد الأقلية العربية في اسرائيل منذ 60 سنة . لا تبرير لسياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري . لا تبرير لسياسة حرمان الأقلية العربية من المساواة الكاملة بمخصصات التطور والأرض . ولا تبرير لاستمرار التنكر للحقوق القومية للشعب الفلسطيني ، شعبنا .
أعرف انه ليس من السهل طرح رؤية مغايرة لما يبدو اجماعا وطنيا ، او قبليا اذا توخينا الدقة في التعبير السياسي .
اني أدعي ان مواقف الأحزاب العربية ، من هذه القضية الهامة المطروحة ، يغلب عليها التنافس الشعاراتي ، والمواقف التشنجية ، وتتميز بالعفوية والارتجالية ، وتخلو من أي طرح سياسي مبني على رؤية ورؤيا استراتيجية محددة المعالم والاتجاه والأهداف… وقادرة على التعامل مع موضوع الخدمة المدنية بموضوعية سياسية ، بعيدا عن التشنج والمنافسة بقوة الصراخ ، الذي بات يميز السياسة العربية في اسرائيل ، وللأسف يشكل مضمونها الوحيد .
يؤسفني القول ان استطلاعا للراي ، أظهر فجوة هائلة بين الشباب العرب ( أجيال الخدمة المدنية ) وبين مواقف الأحزاب ، يبين الاستطلاع ان الأكثرية من الشباب العرب لا يرفضون فكرة الخدمة المدنية ( وللتوضيح أقول ان اصطلاح الخدمة المدنية لا يشمل اطلاقا أي شكل من أشكال الخدمة العسكرية ) .
هذه هي الصورة العامة المرتسمة من موضوع الخدمة المدنية في المجتمع العربي داخل اسرائيل . اولا لنتفق ان الحديث يدور عن خدمات اجتماعية وصحية وتعليمية وبيئية وبلدية ، واطلاقا ليست خدمة لأي مجهود عسكري احتلالي أو غير احتلالي .
واضيف اني مطلع منذ سنوات عديدة على موضوع الخدمة المدنية في بعض مدارس الناصرة ومستشفياتها ، ولم أجد غضاضة ، أو خيانة قومية ، أو تنازل عن الانتماء وعن الهوية ، في الخدمات المدنية التي ينفذها المتطوعون .
بعض الفتيات والشبان ، جاؤامن بيوت شيوعية أو وطنية ، وأعرف على الأقل مجندين ينطبق عليهم هذا التعريف ، شاب من بيت شيوعي من الرملة ، وفتاة من بيت وطني من الرينة .. يخدمان في الناصرة ، في مدرسة ومستشفى ، وأعرف بالطبع شباب وصبايا آخرين ينفذون الخدمة المدنية في الناصرة بالأساس ، ولا يمكن ان نربط بين خدماتهم المدنية وبين أي خدمات تخدم جيش الاحتلال ، او المجهود الأمني الاسرائيلي مهما تعددت وتنوعت أشكاله .
قلت في مقال سابق اني لست مدافعا عن برنامج الخدمة المدنية ، ورأيي كان ان كل مجتمع مدني يحتاج الى خدمات تطوعية ، والتسمية ليست هي المشكلة . وانتقادي كان على القيادات السياسية العربية التي تتصرف بارتجال ومنافسة شعاراتية غوغائية ، تفتقد لأي منطق سياسي ، ولأي برناج سياسي واضح ومحدد الأهداف والتفاصيل . كنت أميل الى ان تقوم القيادات العربية بدراسة الموضوع المقترح ، وفهم أبعاده من مصادره الاولى ، والتأثير عليه بحيث يتحول الى رافعة لخدمة مجتمعنا وزيادة ترابطه واستعداد أبنائه للتطوع ، واذا لم ننجح بذلك نعلن موقفنا بشكل سياسي عقلاني منظم ، دون تشنج ورفض ارتجالي ، وصراخ غوغائي . وقلت ان هذه المواقف لن تقود الى شيء ، ومشروع الخدمة المدنية سيفرض من فوق ، وعندها ، لن نكون قادرين على جعله مشروعا اجتماعيا وطنيا ثقافيا تربويا ( حسب تصورنا ) لخدمة مجتمعنا وشبابنا . اليوم كما أرى المشروع ينفذ بشكل لا تشتم منه رائحة استغلال الشباب العرب في تقديم خدمات لا نقرها ، ولكني أعترف اني لا أعرف اذا كان الأمر سيبقى في هذا الاطار.
مثلا لا أرى غضاضة في تقديم خدمات في المراكز الصحية في المدن اليهودية ، وأن لا ننسى انها تخدم المواطنين العرب أيضا ، ويكاد لا يخلو مركز صحي في اسرائيل من أطباء عرب ، وفي مراكز مرموقة أيضا .
ومع ذلك الموضوع أكثر شمولا ، وأكثر عمقا …
ما هو الدور الذي يجدر بنا القيام به ، كمواطنين عرب فلسطينيين في اسرائيل ، خدمة لمصالحنا ، وتثبيتا لكوننا جزء لا يتجزأ من الواقع السياسي في اسرائيل ؟
هل سياسة الانطواء والانعزال تخدمنا وتقدم مطالبنا ، وتخدم نضالنا الوطني من أجل حق شعبنا الفلسطيني باقامة دولته المستقلة الى جانب اسرائيل ؟
هل يجب ان نحول واقعنا ، كاقلية محكومة ، الى حالة مطلقة ؟ ام واجبنا ان نتطلع الى اختراق عزلتنا ، وان يكون على رأس سلم أولوياتنا النضالية ، شعبيا وبرلمانيا وقضائيا ، ان نثبت حقنا بأن نكون مشاركين في الحكم أيضا ، وليس محكومين فقط ؟
أنا لا أتجاهل التغيير العميق والانقلابي في وضعنا بعد اقامة دولة اسرائيل . ولكني ، لا أفعل مثل غيري وأتهرب من واقعي لأسمي المولود بغير اسمه ، وعلى أساس أوهامي السياسية أبني أجندتي ونهجي ومواقفي .
لا اتنازل عن فلسطينيتي ، ولكني أرفض أن أحول فلسطينيتي الى ” صخرة سيزيف “. ان معاناتنا من السياسات الاسرائيلية ، في العقود الماضية اساسا ، وحتى اليوم بشكل عام ، يجب ان لا تجعلنا أسرى عقائد الرفض والانعزال . يجب ان لا نترك للرواسب المؤلمة حتى النخاع ، التي عبرناها في مواجهة أصعب هجمة شرسة على هويتنا وأرضنا ومستقبلنا ، ان تقرر مصيرنا وسياساتنا اليوم وللمستقبل .
من المؤكد ان أبرز هدف لنا ، يجب ان يكون تعميق جذورنا ، تعميق انتمائنا الوطني ، تعميق تكاملنا الاجتماعي ، والعمل على تطوير مجتمعنا ، وبتنا نملك الادوات والامكانيات الاقتصادية ، وتطوير جهاز التعليم ومستواه .
ما يقلقني ان المواضيع التي قد لانختلف على أولويتها ، هي مواضيع تكاد تكون مهملة . الانتماء الطائفي بات هو البارز ، والأسوا ان المختلف دينيا تطلق عليه تعابير مهينة تعمق التباعد والانفصال الاجتماعي ، وأخاف اننا نندفع نحو مجتمع من قطبين لا يلتقان .
من ناحية أخرى نفتقد للتخطيط الاقتصادي والبنيوي ولتحديد اهداف التطور الذي نحن بأمس الحاجة الية ، وبالتالي نقف عاجزين عن طرح مطالبنا المشروعة ، والعمل على الزام السلطة بالمساهمة في التنفيذ والتسهيلات ، والاقتصاد قد يكون رافعة لتعزيز هويتنا الوطنية وتكاملنا الاجتماعي لأن الاقتصاد لبنة اساسية في بناء الشخصية الوطنية والتكامل الاجتماعي .
مجتمعنا يرتسم اليوم كمجتمع مفسخ ومفكك عائليا وطائفيا ، والعنف أصبح آفة رهيبة تحرق كل أمل بالتكامل والتواصل بين أبنائه ، وكل ما تفعله أحزابنا ، انها “تتفق” على المنافسة بالشعارات والمواقف الارتجالية والمتشنجة ، في ظل غياب حوار سياسي ، اجتماعي وفكري .
وهنا أصل للسؤال الأساسي :هل يساهم مشروع “الخدمة المدنية” في تعزيز الترابط بين الأجيال التي يشملها المشروع ، أو بين الشباب ومجتمعهم ؟ وهل للمشروع تأثير على زيادة اندماجنا في المجتمع الاسرائيلي ، كمشاركين في السلطة ومؤثرين على قراراتها المصيرية ؟
وهناك أسئلة أخرى هامة : هل الاندماج في المجتمع الاسرائيلي يضعف هويتنا الوطنية ؟ هل نحن قادرون على التاثير عليه ، مثلما نحن منكشفون للتأثير المعاكس ؟
هل التأثير والتأثر سلبي أم ايجابي ؟ هل نحن قادرون على التأثير السياسي على المجتمع اليهودي ، دون التعامل الايجابي مع الأحزاب والقوى السياسية ومختلف الشخصيات ذات الوزن الاجتماعي أو السياسي او الأقتصادي أوالثقافي أو الأكاديمي في اسرائيل ؟
مرة أخرى : هل سياسة الرفض العشوائية لمشروع الخدمة المدنية ، وعدم التعاطي مع الواقع ، وتعريفه صراحة بأسمه ، هو الحل الذي سيقودنا الى انجاز مطالبنا بالمساواة في الحقوق داخل اسرائيل ، وانجاز الحلم القومي لشعبنا الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة الى جانب دولة اسرائيل ؟
تنقص قيادات الجماهير العربية في اسرائيل الجرأة السياسية . ينقصها الحنكة السياسية ،الحكمة ،الفكر والقرار السليم. ينقصها قبل كل شيء التخلص من الانعزال والتقوقع الرافض والسلبي باستمرار. المشكلة ليست في مشروع الخدمة المدنية ، المشكلة في مفاهيمنا المتخلفة !!
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com