يتخوف الكثيرون من أن تؤدي الأزمة السياسية الراهنة في باكستان إلى حالة من اللااستقرار والفوضى ذات الـتأثيرات السلبية على مجمل الأوضاع في المنطقة. والسؤال هو متى كانت باكستان مستقرة حتى يكون حالها الراهن مبعثا للقلق؟ فهذه البلاد لم تشهد منذ ولادتها القيصرية في عام 1947 أي مظهر من مظاهر الاستقرار. وربما لو أن الأقدار مدت في عمر مؤسسها محمد علي جناح لكان حالها مختلفا. لكن جناح رحل بعد عام واحد فقط من تأسيس دولته، تاركا إياها في عهدة ساسة لا يتمتعون بالجماهيرية ولا بالشرعية التاريخية. وكانت النتيجة أن ظهرت الانقسامات وتوزعت الولاءات واشرأبت الأعناق الباحثة عن المصالح الفئوية الضيقة وكثرت الأخطاء، فيما كانت دولة الأعداء التاريخيين في الهند ترسخ أقدامها وتعزز وحدتها في ظل نظام ديمقراطي مدعوم بالعلمانية والفيدرالية.
ويمكن القول أن إحدى الفترات القليلة التي نعمت فيها باكستان باستقرار نسبي هي تلك الممتدة من أواخر الخمسينات إلى أواخر الستينات حينما كانت السلطة بيد الجيش ممثلا في قائدها الفيلد ماريشال محمد أيوب خان. والمثير هنا هو أن هذا الأخير استطاع أن يمنح بلاده ذلك الاستقرار ومعه شيء من النمو الاقتصادي، رغم انتمائه إلى الأقلية البشتونية التي لم يستطع أبناؤها قط الصعود إلى الرتب العليا في الجيش في ظل هيمنة البنجابيين على المؤسسة العسكرية، بل لم يستطيعوا حتى البروز في المواقع الأخرى.
ويمكن تفسير هذا بشي من التجاوز بحقيقة أن الجيش وقتذاك كان لا يزال مؤسسة جامعة يلتف حولها كل الباكستانيين، وكان انضباطه ومناقبية رجاله مبعث فخر واعتزاز. هذا فضلا عن كاريزمية أيوب خان وحقيقة انه كان أول قائد باكستاني للجيش منذ تأسيسه في عام 1948 من بعد جنرالين بريطانيين هما السير “فرانك ميسيرفي” و”السير دوغلاس ديفيد غريسي” اللذين قادا الجيش ما بين عامي 1948 و1951. غير أن هذا الجيش بدأ يفقد بريقه ومكانته في أعين المواطنين منذ الهزيمة الماحقة التي تجرعها في حرب البنغال والتي لم تؤد فقط إلى انسلاخ الجناح الشرقي للدولة في كيان مستقل تحت اسم بنغلاديش، وإنما أدت أيضا إلى سقوط الفكرة التي قامت عليها باكستان وهي تمثيل عموم مسلمي شبه القارة الهندية. ثم جاء عهد الرئيس الأسبق الجنرال ضياء الحق ليزيد من هذا الشرخ عبر ما أشاعه من توجهات إيديولوجية داخل المؤسسة كنتيجة لبرنامجه المثير للجلد حول اسلمة مختلف مناحي الحياة في البلاد، والتي صار الجيش بموجبها يقوم على مباديء ثلاثة: الإيمان والتقوى والجهاد في سبيل الله.
لكن هذا الجيش رغم كل ما لحق به لا يزال هو اللاعب الرئيسي على الساحة الباكستانية، والرقم الصعب في معادلات الحكم. ومن هنا يمكن تفسير استماتة الرئيس الحالي الجنرال برويز مشرف من اجل الإمساك بقيادة المؤسسة العسكرية وهو يخوض انتخابات الرئاسة المقررة في السادس من أكتوبر القادم. وهو لئن أعلن مؤخرا عن موافقته على خلع بزته العسكرية والتحول إلى رئيس مدني على غرار ما فعله أيوب خان في عام 1960 ، فانه حريص على أن يخلفه في قيادة الجيش وبقية المناصب العسكرية الحساسة جنرالات عرف عنهم الولاء التام لشخصه وتوجهاته، رغم أن التاريخ الحديث للبلاد يقول أن أكثر الجنرالات ولاء لرؤسائهم هم الذين خلعوهم لاحقا في انقلابات عسكرية، على نحو ما حدث للرئيس الأسبق ذوالفقار علي بوتو على يد قائد جيشه “الموالي والمخلص” الجنرال ضياء الحق، بل ما حدث لرئيس الوزراء الأسبق نواز شريف على يد الجنرال مشرف نفسه وكان وقتها يذكر كأحد أكثر قادة الجيش إخلاصا لشريف.
وفي قرار يعكس حرص مشرف المشار إليه، أجرى الرجل في الأسبوع الماضي حركة تنقلات وترقيات في المؤسسة العسكرية، لعل أهم ما جاء فيها هو ترقية الميجور جنرال “نديم تاج” إلى رتبة ليفتينانت جنرال وتعيينه رئيسا لجهاز المخابرات العامة، خلفا للجنرال “أشفق برويز كياني” الذي يعتقد انه خيار مشرف الأقوى لمنصب قائد الجيش. والجنرالان تاج وكياني يعتبران من أكثر المقربين لمشرف وأكثرهم إخلاصا وولاء (حتى الآن). فالأول كان سكرتيرته الخاص يوم كان قائدا للجيش في عهد نواز شريف، بل كان برفقته على نفس الطائرة العائدة من كولومبو في أكتوبر 1999 يوم أن منعها شريف من الهبوط فكان ذلك سببا في الإطاحة بالأخير. أما الثاني، الذي وصفه مشرف في كتابه “على خط النار” بأنه أفضل ضباط الجيش الباكستاني وأكثرهم بسالة، فقد لعب دورا مهما في نجاح انقلاب مشرف في عام 1999 حينما سارع بصفته وقتذاك قائدا لمنطقة لاهور العسكرية بالاستيلاء على منازل وممتلكات عائلة رئيس الوزراء. وكدليل على اعتماد مشرف عليهما ووثوقه فيهما، كلفهما في الأسابيع الماضية بمهام التفاوض مع رئيسة الوزراء الأسبق بي نظير بوتو من اجل اقتسام السلطة، خاصة وأن الجنرال تاج كان أثناء فترة ولاية السيدة بوتو الأولى في أواخر الثمانينات يشغل منصب سكرتيرها العسكري الخاص. فجاءت هذه المهمة لتؤسس سابقة لم يعرفها جهاز المخابرات الباكستانية من قبل ألا وهي ضلوع رئيسها علنا في قضية سياسية داخلية.
وعلى الرغم من أن جهاز المخابرات العامة في باكستان يعتبر احد مؤسسات الجيش الرئيسية فان السيطرة عليه تحديدا ووجوده تحت قيادة شخصية موثوق بها يمثل ضمانة لكل من يريد الاستمرار في السلطة، لأنه ببساطة القوة الخفية على الساحة المحلية والأداة التي ترصد حركة الساسة والأحزاب والأنشطة السياسية والاتصالات ووسائل الإعلام والدبلوماسيين الأجانب والدبلوماسيين الباكستانيين في الخارج، وتقوم على حماية برامج البلاد النووية ومصالحها في الخارج.
والمعروف أن هذا الجهاز كان من بنات أفكار الضابط البريطاني الاسترالي المولد الميجور جنرال كاوثوم الذي كان وقت تأسيسه في عام 1948 نائبا لرئيس أركان الجيش الباكستاني. وكان الجهاز مكلفا في الأصل بجمع المعلومات المخابراتية حول الأوضاع الداخلية فيما عدا تلك الخاصة بإقليمي الحدود الشمالية الغربية وكشمير. لكن هذا تغير في عام 1958 مع صعود الجنرال أيوب خان الذي وسع من مهامه وجعله مكلفا بحماية مصالح البلاد أينما وجدت مع مراقبة الساسة المعارضين والتأكد من ولاء الجيش له. وفي عام 1966 أعيد تنظيم الجهاز على خلفية أدائه الضعيف أثناء الحرب الباكستانية الهندية في عام 1965 ، فأنيطت به مهام وصلاحيات جديدة مثل مراقبة قادة الجيش والمخابرات في جناح باكستان الشرقي الذين كان أيوب خان يشك في ولائهم، ورصد الأنشطة في بلوشستان التي كانت قد بدأت التمرد.
على أن العصر الذهبي للجهاز والذي انطلق منه ليصبح بمثابة دولة داخل دولة، بدأ مع حكم ضياء الحق الذي منحه صلاحيات غير محدودة لمطاردة معارضيه من السنود والشيوعيين والشيعة وأنصار الثورة الإيرانية، وللتعاون والتنسيق مع مخابرات الغرب والدول الحليفة، تحت قيادة العقيد محمد يوسف.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh