تميل ممارسات كثير من المؤسسات وفي كل مكان من واشنطن إلى بكين، للتعاطي مع الأصوات الثقافية النقدية أو أصوات الأنين الشعبي الاحتجاجي، بقفازات المصادرة والتهميش أو بمخالب التهويش والقمع، متوهمة بذلك أنها كسرت شوكة مشروعية وفاعلية تلك الأصوات، بوأدها حية في قبور واسعة مفتوحة – تمتد من البلدان العربية إلى البلدان الأكثر اندراجاً في منظومة ما نسميه، بـ «دولة القانون والمؤسسات».
وإذ أصطحب معي مرة ثانية كتاب حمد العيسى «مالكوم إكس والنصوص المحرمة» للإطلالة على ما تختزنه مجتمعات متقدمة مثل أميركا، من سطوة مؤسساتية غير مبررة، فإنني أقف معه على وثائق مدونة تؤكد على حقيقة انه لا يمكن للقبور المفتوحة في أي مجتمع أو ثقافة أن تنام على جراحها أو وهم تجاوزها أو طمأنينة إمكان احتواء مفاعيلها. فكثيراً ما بقيت – تلك القبور – إمكانية مفتوحة للتعبير عن أنينها بصور مختلفة، بعضها يلجأ للتعبير الثقافي النقدي لمناهضة استبداد المؤسسات، وبعضها يذهب أبعد من ذلك في طريق احتجاجي قد يبدأ سلمياً ولكنه يضطر لاحقاً إلى التوسل بأساليب العنف للتعبير عن حقيقة وجوده المقموع.
ومهما توسلت المؤسسات بمصادر قوتها وسحرية بلاغتها في إضفاء المشروعية على ممارساتها، فإنها لا تستطيع إسكات تلك الأفواه الحادة المخالب، إلا بالقراءة العقلانية للظروف والممارسات والمنظومات التي أسهمت في بقاء تلك القبور مفتوحة عبر مساحات زمنية طويلة، أمكن معها أن يلتقي المثقفون النقديون مع «الشرائح المقهورة» في جوهر عملية النقد والاحتجاج ضد ما يستشعرونه من أخطار تهدد قيمهم – المثقفين – وحياتهم اليومية – كشرائح اجتماعية – مقموعة ومسلوبة الحقوق.
وأسهمت ازدواجية المعاير والخطل اللا أخلاقي الذي تتبناه المؤسسات في كل دولة، إلى دفع رموز ثقافية بارزة في الماضي والحاضر لإنتاج «النصوص المحرمة»، إما عبر فعل كتابي فردي أو جمعي، أو عبر ما يتوفر للشرائح والشعوب من إمكانات اجتراح «نصوص محرمة» أخرى للتعبير عن رفضها لتلك المعايير، سواء ما ارتبط منها بشأن داخلي محض، أو ما ذهب بعيداً إلى التأثير على مجرى حياة الشعوب الأخرى.
من كتاب «النصوص المحرمة» سأقف أمام وثائق ثقافية اخترت منها القليل، مركزاً على ما انطوت عليه من تأكيد على مسؤولية المثقفين في قول الحقيقة وفضح الأكاذيب، لأبدأ مع نعوم تشومسكي الذي اشتهر بمناهضته للحرب الأميركية على فيتنام منذ أطلق صوته عالياً في محاضرة بعنوان «مسؤولية المثقفين» عام 1962ضد لا أخلاقية وعبثية تلك الحرب. وفي حوار تلفزيوني أجراه معه المذيع البريطاني تيم سباستيان في برنامجه الشهير «هارد توك» بثته قناة «بي. بي. سي» في تاريخ 27-2-2002، أكد على ازدواجية المعايير السياسية والقانونية والأخلاقية لبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، إذ بقي تشومسكي في هذا الحوار وفياً لمواقفه النقدية ضد الحروب التي تشنها أميركا على دول العالم الثالث، من نيكاراغوا إلى التشيلي،( إلى دعم المواقف الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني)، إلى أفغانستان وحتى العراق، من دون أي سند قانوني أو احتكام إلى وازع أخلاقي، موضحاً في حواره تهافت سياسة الكيل بمكيالين، وعدم التزام أميركا بالقانون الدولي وبقرارات الأمم المتحدة. ومن المعروف أن تشومسكي وإدوارد سعيد كانا من أبرز المثقفين الأميركيين الذين صاغوا البيان التاريخي الموسوم بعنوان «ليس باسمنا» ضد غزو العراق.أما اللقاء الصحافي الذي أجراه توم ديسباتش مع المؤرخ اليساري هوارد زن مؤلف كتاب «تاريخ شعبي للولايات المتحدة الأميركية 1492هـ إلى الآن» ( الذي بيع منه أكثر من مليون نسخة)، فلم يكن بعيداً عن خندق تشومسكي، إذ ألقى الضوء في هذا الحوار على نقاط عدة منها:
– مسؤولية المثقف في تغيير الصورة النمطية لدى المواطن الأميركي عن النظام والانحرافات، وعدم الوقوف أمامها كأخطاء فردية، ولكن باعتبارها انحرافات نظام سياسي عن المبادئ العظيمة للشعب الأميركي.
– معارضة استخدام الحرب لحل النزاعات إذ قال: «إن الحرب مهما كان الحل السريع الذي تقدمه، ومهما كانت الحماسة المتدفقة، فإن النتيجة تكون مثل المخدرات، تشعر أولاً بالابتهاج، ثم تعود إلى الخلف نحو شيء رهيب».
– التأكيد على أن «التحدي الأعظم أمام العقل البشري في عصرنا، هو حل مشكلات الاستبداد والعدوان من دون اللجوء إلى الحرب» ص 183. وفي هذا الكتاب، لم يكتف حمد العيسى بترجمة شهادات المثقف والمواطن الأميركي، بل ضمن كتابه شهادات مثقفين من خارج ذلك الفضاء، تصب جلها في منحى التأكيد على مسؤولية المثقف إزاء واقعه وعالمه وعصره، فقام بترجمة بعض وثائق تخص إينشتاين وموقفه من الحرب والسلم، ومن الحرية الفكرية كضرورة وجود، وأبرز موقفه الشجاع من «المكارثية» التي عملت على مراقبة ومحاكمة المثقفين بتهمة الانتماء للشيوعية، وشدّد إينشتاين في هذا الصدد على واجب المثقفين حيال تلك الحملة بالقول: «على كل مثقف يتم استدعاؤه أمام هذه اللجان (للتحقيق) أن يرفض الشهادة، وأن يكون مستعداً للسجن والمعاناة الاقتصادية، وباختصار يجب عليه أن يضحي بمصلحته الشخصية من أجل مصلحة الحرية الفكرية في بلاده!»، ص 212. وإذ لم يعد هناك مجال – في حيز هذه المقالة – للإشارة إلى الحوار مع الروائية إيزابيلا الليندي – ابنة أخ الرئيس السلفادوري الذي اغتاله انقلاب «بينوشت» بمساعدة أميركية – على رغم أن الليندي كان انتخب بشكل ديموقراطي، ولا عن مواقفها من الحرية وقضايا المرأة، كما لا يمكن التوسع في الإشارة إلى سيرة المغني والمناضل الجامايكي بوب مارلي، ولا إلى قصائده التي غنت للحرية والعدالة والمساواة، فإنني سأنهي هذه الحلقة بفقرة وردت في خطاب الشاعر والمسرحي التشيخي فاسيلاف هافل، الذي كان معارضاً للحكومة الشيوعية في بلاده، إذ تعرض للسجن والقمع فترات عدة، وفي ما بعد انتخب كأول رئيس لحكومة بلاده بعد الإطاحة بالحكومة السابقة.يقول هافل في محاضرة ألقاها في نيويورك عام 2002 ما يأتي: «لكي تنجو الإنسانية وتتجنب كوارث جديدة، فإن النظام السياسي العالمي لا بد أن يتبنى تطبيق المحاور الأساسية والعالمية الآتية: النظام الأخلاقي، حقوق الإنسان، الضمير الإنساني، الفكر المنبثق عن هذه المحاور، والذي لا يمكن إخفاؤه خلف ستار من الكلمات المنتقاة والنبيلة».وأقول: «لا يمكن إخفاؤه خلف الكلمات المنتقاة والهزيلة أيضاً».
alialdumaini@yahoo.com
* السعودية