يبدو السجال حول الشأن الكردي في سورية، وكأنه فتح للتو. فالموضوع الكردي لم يأخذ مكانة مهمة في المداولات وحلقات النقاش الوطنية، نظراً لعدم وجود تاريخ ملحوظ للقضيّة الكرديّة على صعيد اللوحة السياسيّة العامة في البلاد، كما هو في العراق مثلاً، حيث المسألة الكردية ذات تاريخ حافل بالحروب والصراعات مع بغداد وفي صُلب القضايا السياسية. بل هي مشكلة حقيقية في تكوين وبنيّة الدولة والمجتمع العراقيين منذ بدايات تأسيس الدول العراقية، وهي حقيقة موضوعية غير قابلة للتجاهل والإنكار، بالنسبة للعراقيين على الأقل، إن لم يكن للعرب عامة، سوى من يصر منهم على اشتقاق الواقع من الإيديولوجيا، وهم ليسوا قلة.
في سورية، كما أشرنا، الشأن الكردي لم يأخذ حيّزاً مهماً في البرامج السياسية للقوى والتيارات، القومية منها وغير القومية. فبتنا نقرأ، بين الفينة والأخرى، مواقف وآراء لأفراد وتنظيمات، قريبة من السلطة أو في مواقع نقيضة، تعكس هذا القلق والتوجس والتذمر من تزايد الحديث المتنامي حول الشؤون الكردية، الحقوقية والسياسية، من قبل غير الأكراد، لا سيما حين يتعدى الكلام سقفاً ضيقاً من مواطنة مسّيجة بشروط وخطوط ودوائر حمر… هي أقرب لصهرٍ قسري، أثبت فشله في منطقتنا وواقع التعددية القوميّة فيها.
لا مندوحة إذاً من ابتكار مفهوم مختلف للمواطنة أكثر شموليّة واتساعاً ومقدرة على احتواء بَنّاء ومُثمر للهويّات الفاعِلة تاريخياً، وفي المقدمة منها الهويّات القوميّة لشعوب المنطقة، وإعمال النَظَر و العقل التاريخي الفاحص لابتداع نماذج متجددة للمواطنة في بلدان متعددة القوميات والأديان، بناء على خبرة البشرية جمعاء. فنحن نتحدث عن مشكلات لها طابع تاريخي وممتدة في الزمان والمكان، وتمس شعوباً وبلداناً عديدة في المنطقة ودولاً كُبرى واتفاقيّات دوليّة…
يستدعي الأمر، أولاً، الكفّ عن النظر إلى المسألة الكردية وكأنها انبعاث لتشكيلات طائفية، كانت في طريقها للانقراض والزوال والاندماج (التعبير الملطّف للصهر القومي والإثني، في هذا السياق) لولا التلاعب الإمبريالي والاختراق الاستعماري للوطن العربي!
سيكون من العسير القبول بما يعكر صفوَ الخطابة القوميّة العربيّة. فدمشق هي قلب العروبة النابض وعاصمةُ الأمويين وسورية هي مَهد العروبة، كما تُجمع الأدبيات السياسية والفكرية العربية جميعاً، لا خطاب السلطة وإعلامها فحسب، المزاود على الجميع بالشعارات القومية ومزجها بشعارات إسلامية حين اللزوم، أو مناهضة الامبريالية تارة، أو جميعها، حسب الظروف ومقتضياتها.
بيد أن حديث الخصوصية الكردية في سورية ليس اختراعاً مستجداً، كما يدّعي كثيرون، وإنما كانت حاضراً منذ بدايات نشوء الدولة السورية تحديداً، أي حتى قبل نشوء التعبير السياسي المنظّم في خمسينات القرن المنصرم، وهو بدوره يسبق 1991 بكثير (التاريخ الذي اعتبره أحد كبار المفكرين العرب السوريين بداية ما أسماه «اكتشاف» الأكراد لكرديتهم، في العراق؟!) أو الاحتلال الأميركي للعراق!، أو الرؤية التبسيطية الذاهبة إلى اعتبار نزع الجنسية في عام 1962 بداية تاريخ المشكلة الكردية بحيث يتكفل إعادة الجنسية إلى المجردين منها إغلاق الملف الكردي نهائياً؟ أو على نحو أكثر تبسيطاً: هي ردة فعل، مبالغ فيها، استدعتها سياسات سلطوية خاطئة تجاه الجميع، أكثريّات وأقليّات.
إنه لمن الضروري، بداية، الإشارة إلى عوامل موضوعيّة فاعلة، خارجة عن إرادة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، كرداً أو غيرهم، للغياب اللافت للشأن الكردي في الحياة السياسية العامة طيلة عقود، وما بدا لكثيرين الآن وكأن جهات مغرضة متربصة بسورية والعرب تسعى إلى «فبركة مشكلة كردية (أو مسألة كردية) في سورية». وأول تلك العوامل، برأينا، وهو ما حدّ من اتخاذ المسألة الكردية أبعاداً مؤثرة على سياسات المركز، كالتي في العراق وإيران وتركيا مثلاً، فضلاً عما ذكرناه من دور مبكر وأساسي لبلاد الشام في الدعوة القومية العربية، وعدم وجود إقليم كردي ذي حدود واضحة، إنما ثلاث مناطق ذات غالبية كردية نسبية في الجزيرة وعين العرب مثلاً، أو غالبية مطلقة في عفرين- (جبال الأكراد) شمال حلب، وهي مناطق ضمت إلى سورية الحديثة الناشئة بحدودها الراهنة بعد اتفاقيات بين الدول الكبرى لم ُيستَشر فيها أحد من أبناء المنطقة…
إن المناطق الكردية الثلاث- وهو تعبير مرفوض من قبل الكثيرين اليوم في سورية- لم تكن في حسابات القوميين العرب في بدايات القرن المنصرم، وتشير درية عوني – الكاتبة الكردية المصرية – إلى ذلك في كتابها «عرب وأكراد، خصام أم وئام؟»، فترى أن منطقة الجزيرة الكردية لم تكن بحد ذاتها في يوم من الأيام من بين مطالب القوميين العرب، لا في مراسلات حسين – مكماهون، ولا خلال العهد الفيصلي في سورية، ولا حتى من قبل القوميين العرب تحت الإنتداب الفرنسي. وقد ضمت منطقة الجزيرة إلى سورية عام 1921. وبالنسبة للحدود التركية السورية فقد حددتها المعاهدة الفرنسية التركية التي أبرمت في لندن في 9 آذار (مارس) 1921 التي عدلت مرتين: الأولى بمعاهدة أنقرة في تشرين الأول (أكتوبر) في السنة نفسها، ثم في معاهدة جوفيال عام 1926 حيث أعطيت لتركيا مناطق ذات أغلبية سكانية عربية، فيما أعطيت لسورية ثلاث مناطق كردية مسكونة بأغلبية كردية. وتنقل درية عوني عن الكاتب الدانماركي كارستن نيوبوهر من خلال خريطة نشرها عن رحلة قام بها في هذه المنطقة عام 1764 مؤكداً على وجود عشائر كردية في ذلك الوقت في أماكن تواجدهم الحالية بالجزيرة، معروفة بنفس الاسم حتى هذا اليوم. وتنقل عوني نفسها عن الرحالة الفرنسي فولني الذي تكلم مطولاً عن الأكراد وعن جبل الأكراد في كتابه الذي أصدره عام 1870، لتستنتج بأنهم يعيشون في مناطقهم الحالية منذ قرون ولم يأتوا إليها كلاجئين بعد رسم الحدود السورية مع تركيا كما تدعي الحكومات السورية.
ويشير مؤلفون كثيرون إلى أن معاهدة سيفر التي أبرمت في10آب (أغسطس) 1920 وعبر ثلاث مواد (62-63- 64) تتعلق بكردستان تضمنت تلك المناطق الكردية (في سورية لاحقاً) مع كردستان العثمانية. ومن المعلوم أن اتفاقية سيفر بقيت حبراً على ورق إلى أن ألغيت بشكل نهائي بموجب اتفاقية لوزان في 1923.
غير أن المناطق تلك بعيدة عن المركز، هامشية، غير ذات فاعلية ضاغطة على الحكومات المتعاقبة، فضلاً عن هشاشة ارتباطها بالمراكز الاقتصادية السورية والسياسية والاجتماعية تالياً، واعتماد السكان فيها على نمط عيش بدائي بسيط يتلخص في زراعة القمح وتربية المواشي بوسائل بدائية، لا سيما قبل مَركَزَة السلطة في دمشق ودخول المكننة الزراعية ووسائل الري الحديثة في ما بعد، وقيام دولة الوحدة السورية- المصرية, وكذلك هشاشة البناء الدولتي السوري نفسه، ما جعل تلك المناطق خارج دورة الحياة السورية تماماً، والتي كانت حكراً على أعيان المدن الرئيسية، دمشق وحلب، وبورجوازيتها التجارية. في الوقت نفسه كانت العلاقات المدينية ضعيفة للغاية في المناطق الكردية ذات الطابع القبلي والريفي، وقد غابت عنها المدن. فأكبر مدينة ذات غالبية كردية هي القامشلي لا يزيد عمرها عن ثمانية عقود (ومثلها عفرين)، وهي أقرب إلى قرية كبيرة منها إلى مدينة بالمعنى العمراني وطابع علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية.
إن بواكير العلاقة الكردية – السورية (إن جاز التعبير) تعود، حسب مطالعتنا، إلى تلك العريضة التي قدمها خمسة نواب أكراد في البرلمان السوري (المجلس التأسيسي السوري) في حزيران (يونيو) 1928. كذلك كانت مطالبة زعماء أكراد ومسيحيين محليين، عام1932، المؤسسات الفرنسية بتأسيس إدارة منفصلة للجزيرة ثم انعقاد مؤتمر الجزيرة العام في أيلول (سبتمبر) 1938 برئاسة حاجو الذي ناشد فرنسا إعطاءه حكماً ذاتياً تاماً. يقول بيار روندو (أحد المستشرقين المتخصصين في المسألة الكردية ابان الانتداب الفرنسي) بأن الأكراد البارزين «الأدباء وزعماء القبائل» طالبوا بالسماح لهم بإقامة نظام خاص بمواطنيهم ضمن المحيط السوري، وكانت أكمل عرائضهم تلك التي قدمت، كما أشير قبلاً، في 23 حزيران1928 في دمشق، بمناسبة اجتماع «الجمعية التأسيسية السورية».هذه الوثيقة كانت تلتمس للأكراد «وسائل التحرر ضمن إطار ثقافتهم الوطنية لكي يصبحوا أعضاء نافعين ضمن مجموعة الشعوب السورية». وكانت العريضة تتضمن الطلبات التالية:
1- استعمال اللغة الكردية في المناطق الكردية شأنها شان بقية اللغات الرسمية.
2- تعليم اللغة الكردية في المدارس في تلك المناطق.
3- تبديل موظفي هذه المناطق بموظفين أكراد.
كما كانت نفس الوثيقة تأمل في إنشاء جيش («فيلق») كردي ضمن إطار فرنسي لحماية الحدود. وطالبت أخيراً بتسهيلات للوضع الزراعي للمهاجرين الأكراد في الجزيرة العليا.
وإذا كانت مطالب الأكراد اشتملت في عام 1928، على شكل متقدم من إدارة ذاتية للمناطق الكردية واعتماد اللغة الكردية فيها، فما الغرابة في أن يطالبوا في 2007 بالاعتراف بالخصوصية القومية في إطار وحدة البلاد وإقرار دستوري بوجودهم كقومية غير عربية في النسيج الوطني السوري، في ظل دولة ديموقراطية حديثة وضمان تمثيلهم سياسياً، ورفع المظالم والسياسات التمييزية التي مورست لعقود بحقهم لمجرد كونهم كرداً؟
أين تكمن المفاجأة؟ وأين هي المؤامرة؟
* كاتب كردي من سورية
الحياة
مسألةٌ كرديّة في قلب العروبة؟!
والله هذا ماكان ينقص سوريا