يبدو أن باكستان مقبلة على مرحلة جديدة من التخبط وعدم الاستقرار السياسي على ضوء قرار محكمتها العليا مؤخرا بازاحة رئيس الحكومة المنتخب نواز شريف. والسبب مرة اخرى هو الفساد الذي خيم على الحياة السياسية وطال معظم زعماء البلاد، مدنيين وعسكريين، ربما باستثناء حالتي القائد المؤسس “محمد علي جناح” وخليفته “لياقت علي خان” اللذين لم يعيشا طويلا ناهيك عن أنهما حكما في حقبة لم يكن في الباكستان ما يغري بالفساد.
جاء قرار المحكمة الباكستانية على خلفية إتهام شريف مع إثنين من أبنائه، علاوة على إبنته مريم وزوجها صافدار بامتلاك حسابات وأملاك وعقارات مسجلة في الخارج لم تستطع عائلة شريف تقديم ما يفسر حصولها عليها بطريقة مشروعة، ناهيك عن عدم إفصاحها عنها للسلطات المعنية، الأمر الذي عده قضاة المحكمة الخمسة بالإجماع نوعا من التحايل والفساد الذي لا يؤهل صاحبه للبقاء على رأس السلطة التنفيذية.
وهكذا يـُتوقع أنْ يُحظر على شريف العمل في السياسة لمدة عشرة سنوات على أقل تقدير، كما أن ابنته مريم التي كان يعدها لتكون وريثته السياسية على رأس حزبه الحاكم (حزب الرابطة الإسلامية) لن تتمكن من قيادة باكستان في المستقبل، ولن تصبح ثاني سيدة تحكم البلاد بعد من كانت في يوم من الأيام غريمة والدها اللدودة، ونعني بها “بي نظير بوتو”.
نعم، كان شريف يعد إبنته لخلافته على نحو ما فعله ذوالفقار علي بوتو مع إبنته اللامعة والموهوبة بي نظير التي نافسته سياسيا بضراوة، كما نافسته جهويا واقطاعيا في ظل حقيقة التنافس التاريخي المستمر بين اقليم السند الذي ينحدر منه آل بوتو، وإقليم البنجاب مسقط رأس آل شريف، غير أن جهود قوى عدة تضافرت لإسقاط شريف وأحلامه، قبل أن يـُكمل فترته الدستورية المتبقي منها نحو عشرة أشهر، وذلك تكرارا لسيناريو حدث في ثلاث مناسبات سابقة:
ففي عام 1990 فاز في الانتخابات العامة ووصل الى السلطة، لكنه أقيل بعد ثلاث سنوات من قبل رئيس الجمهورية آنذاك “غلام اسحاق خان” على خلفية اتهامات بفساده. وعلى الرغم من صدور حكم قضائي بعدم دستورية إقالته، إلا أنه إضطر للتنحي تحت ضغوط جنرالات الجيش.
وفي عام 1997 انتخب مجددا وصار رئيسا للحكومة، لكن أطيح به وأبعد إلى خارج البلاد في عام 1999 على يد ضباط موالين لقائد الجيش آنذاك الجنرال برويز مشرف بسبب استيائهم من قرار لشريف بعزل مشرف وهو في الجو في طريق عودته من زيارة لسريلانكا.
وفي عام 2007 عاد من المنفى الاجباري وترشح في الانتخابات العامة وفاز مجددا، كما تكرر فوزه في انتخابات 2013 العامة التي تلتها حركة احتجاجات واسعة ضده في عام 2014 بقيادة منافسه لاعب الكريكيت السابق “عمران خان” الذي لم يكف مذاك عن خلق الصداع لشريف تارة عبر تأليب الرأي العام المحلي عليه، وتارة عبر تقديم بلاغات ضده يتهمه فيها باستغلال مناصبه في الكسب غير المشروع.
ومن هنا قيل أن عمران خان هو أحد أضلاع المثلث الذي تآمر للإطاحة بشريف، على اعتبار أن الضلع الثاني هم القضاة الخاضعون لإملاءات العسكر، والضلع المحوري الثالث يتمثل في المؤسسة العسكرية التي ربما أرادت التخلص من شريف فأشارت للقضاة بادانته والتخلص منه. ولعل ما يؤيد الفرضية الاخيرة هو أن الثقة مفقودة بين شريف والعسكر منذ قيامهم بالانقلاب عليه في عام 1999، ناهيك عن اتساع الشرخ بينهما بسبب اصرار العسكر على الامساك بالكثير من ملفات العلاقات الخارجية. وقد تجلى خلافات الطرفين مؤخرا في انتقادات وجهها شريف (على لسان وزير إعلامه وإثنين من مساعديه) للجيش حول الفشل في التصدي للجماعات الاسلامية المتطرفة، الأمر الذي رد عليه العسكر بمطالبة شريف باقالتهم، وهو ما حدث.
بطبيعة الحال خرج من يصفق لقرار المحكمة العليا زاعما أنّ إطاحة السلطة القضائية لرأس السلطة التنفيذية لهو دليل على سير البلاد على طريق الشفافية والديمقراطية. لكن هناك الكثيرين ممن يخالفون هذا الرأي ويقول انه بسبب ظروف نشأة باكستان وتطورها السياسي وترنحها ما بين النظامين المدني والعسكري ظلت السلطة القضائية وستظل دوما مجرد أداة لإضفاء المشروعية على قرارات الساسة، بل وعلى انقلابات العسكر أيضا على نحو ما حدث في الأعوام 1958، 1977، و 1999، مع وجود حالات استثنائية قليلة اصطدم فيها القضاة مع الساسة والعسكر. من هذه الحالات ما حدث في عام 2007 حينما اصطدمت السلطة القضائية ممثلة في رئيس المحكمة العليا القاضي “افتخار تشودري” مع زعيم باكستان العسكري الجنرال برويز مشرف حول رفض الاخير لطلب بفتح تحقيق حول احتجاز المشتبهين بالارهاب بطريقة غير قانونية. وما حدث في عام 2012 حينما أدان القاضي تشودري نفسه رئيس الوزراء المنتمي لحزب الشعب الباكستاني آنذاك “يوسف رضا جيلاني” وأطاح به على خلفية عدم امتثاله لفتح تحقيق شامل حول فساد رئيس الجمهورية “آصف علي زرداري”.
والحال أن شريف سيبقى خارج المشهد السياسي، لكنه سيلعب حتما دورا من خلف الكواليس، خصوصا إذا ما تمكن شقيقه شهباز شريف (كبير وزراء إقليم البنجاب الذي يعد من أكبر أقاليم باكستان اكتظاظا بالسكان وأكثرها تطورا قياسا بأقاليم البلاد الأربعة الأخرى) من تشكيل حكومة بعد الفوز بمقعد برلماني في الانتخابات الفرعية المقرر إجراؤها بعد شهرين لملء المقعد الذي شغر بطرد شريف. لكن ما سيحدد مدى شعبية شريف، ومدى تأثرها بقضية فساده، والمدى الذي نجح فيه انصاره ومحازبيه من حيث تصويره كضحية لـ”مؤامرة مكتملة الاركان”، شاركت فيها جهات عدة هو الانتخابات العامة القادمة في عام 2018.
* استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh