تفسير المؤامرة الذي يسمى مجازا “نظرية” هو بديل التحليل الموضوعي والواقعي للحدث ودوافعه الحقيقية والعوامل التي ادت اليه وغاياته ونتائجه يسعى لتبرير الهزائم والفشل والكوارث، كما انه هروب من مواجهة الازمات بالقاءها على مشجب الآخرين وخاصة القوى الخارجية. مرض ابتليت به نخب شرق اوسطية منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى واستعمار المنطقة من قبل بريطانيا وفرنسا الدولتين المنتصرتين، التين تقاسمتا تركة الامبراطورية العثمانية كأمر طبيعي يلي كل الحروب، فرسمت حدود دولها وادارتها بين الحربين العالميتين قبل ان تستقل هذه الدول وتحكمها نخب محلية.
لكن رغم قبر الاستعمار العالمي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعد ثورات الشعوب ضده ونشوء الامم المتحدة التي لعبت دورا مهما في انهائه، فإن النخب الشرق اوسطية لا تزال ترى ان كل ما يحدث في البلدان المستقلة هو من تخطيط القوى الخارجية، فكل شر هو قادم على جناح المؤامرة من الخارج، وكل خير هو صناعة محلية بعكس ارادة الدول العظمى الشريرة التي سماها البعض “الشيطان الاكبر”، كقوة كلية القدرة تكاد تشبه “اله” تتآمر علينا بشكل دائم، فاي شيء يحدث هو نتيجة مؤامرة مرسومة سرية تخترع تفاصيلها من المخيلة. فالعالم يتآمر علينا، بينما يحصر البعض ذلك في الدول العظمى التي “تكرهنا” فتخطط لمنع تقدمنا ولدمارنا وتفتيت مجتمعاتنا ونهب ثرواتنا وتدمير ثقافتنا وعاداتنا القديمة وديننا !!.. فلو تركنا وحدنا لتقدمنا وتوحدنا واعدنا ازدهارنا التاريخي يوم كان العرب والاسلام يصدرون الحضارة للعالم!
مدرسة التحليل السياسي المعتمد على نظرية المؤامرة ينتظم فيها قوميون وإسلاميون ويساريون تجمعهم سمات واحدة : الابتعاد عن التحليل الواقعي للاحداث الحقيقية الملموسة، الجهل بالمعلومات التفصيلية للحدث وبالتالي اللجوء لتعميمات حيث تستخدم المخلية لاختراع مؤامرات توجه ضد بلداننا لمنع تقدمها او اعاقة تحولها للديمقراطية، وتفتيتها حتى لا تشكل خطرا عليها بتوحدها. اصحابها لا يحتملون نقد تفسيراتهم التي يعتبرونها شبيهة بالنصوص الدينية المقدسة، لا يعترفون بالصدفة وهي ممكنة في ظروف معينة اذ ان كل شيء برأيهم مخطط له مسبقا، هي نوع اقرب لل”الادب السياسي” او “افلام الخيال العلمي” منها لنظرية مبنية على العلم والمنطق، فهي لا تبحث في الوقائع استسهالا او جهلا او عجزا.
يمكن تسمية المرض بـ”السايس-بيكوية” نسبة لوزيري خارجية بريطانيا وفرنسا اوائل القرن الماضي، إذ لا زال المرض يستوطن تلافيف دماغ نخب سياسية، رغم التغيرات الواسعة في ارجاء العالم. ساعد على انتشاره عقب الحرب العالمية الثانية اجواء الحرب الباردة التي تلتها، حيث استخدمت النظرية بشكل واسع في منظومة الدول الشرقية التي نشأت تحت هيمنة الاتحاد السوفييتي ذو النظام الشمولي، الذي كان يعزو اسباب ازماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لـتآمر المعسكر الغربي ضد منظومته “الاشتراكية”!، وليس لفشل النظام الذي بني على ديكتاتورية تعيق التقدم بشتى اشكاله. وبما ان معظم النخب العربية كانت تستقي فكرها من المعسكر الشرقي فقد عزز ذلك من استمرارها في تفسير الاحداث بالمؤامرة على نمط مثالها السوفييتي.
اعاق الشفاء من هذا المرض تخلف مجتمعات المنطقة فتفسير المؤامرة هو الاقرب لاذهان الناس في مجتمع متخلف. بالاضافة لدور الانظمة الديكتاتورية التي تلت الفترة الاولى القصيرة من العهد الديمقراطي عقب الاستقلال، اذ أن المناخ المفضل لانتشار النظرية نظام ديكتاتوري يمنع الشفافية التي تقدم معلومات وفيرة تساعد في البحث عن تفسيرات واقعية للاحداث. فالنظام الديكتاتوري يحصر السياسة في صفوف قياداته ويمنعها بالقمع عن المجتمع، الذي من حق افراده الحصول على المعلومات للدفاع عن مصالحه بناء على تحاليل مستمدة من الواقع. نقص الوعي السياسي افضل بيئة لتصديق نظريات المؤامرة كما ان أسوأ من يستخدمها هو الانظمة الديكتاتورية لكونها تتخذ التفسير عن قصد اي رغم علمها بالحقائق لتخفيها فتمنع انتشار الوعي بتفاصيلها الحقيقية.
ومن نماذجها ان البعض يرجع جميع المؤامرات والسياسات الغربية في الشرق الاوسط لهيمنة متخيلة للماسونية الصهيونية على العالم!! بالاعتماد على مرجع اسطوري هو “بروتوكولات حكماء صهيون!!”. ومن “المؤامرات” المفترضة ان حرب حزيران 67 هي مؤامرة على عبد الناصر لمنعه من توحيد العرب، رغم ان وحدة مصر وسوريا فشلت ليس بسبب تدخلات خارجية بل نتيجة الحكم الاستبدادي الذي سلط على الشعب السوري. ومؤامرة غلاسبي، السفيرة الاميركية في العراق، التي ورطت – حسب مفسري المؤامرة- الدكتاتور صدام باحتلال الكويت، والتي حتى لو كانت صحيحة اليس من الحمق ان تنجر القيادة العراقية لمثل هذا المخطط الا اذا كان الحمق مخطط له مسبقا في تفاصيل المؤامرة!! كما روج البعض ان الاحتلال الاميركي للعراق كان لنهب نفطه رغم ان صدام كان يبيع القسم الاكبر منه لاميركا بطريق غير مباشر رغم المقاطعة. او ان كل فوضى تحدث في اي بلد عربي بسبب صراعات قواه المحلية تنسب لمخطط “الفوضى الخلاقة” وهو تعبير جاء في مجرد حديث لكوندليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية عام 2005، ولكنه اصبح مخططا شريرا يراد تطبيقه في كل دول المنطقة.
ويفضل الاسلاميون تفسير الصراع العالمي على انه تكتل الغرب لمحاربة الاسلام كديانة وكأمة “متخيلة”، وقد يسمى البعض ذلك بحرب صليبية مستمرة رغم الحريات الواسعة التي يتمتع بها المسلمون في الدول الاوروبية واميركا وكندا والتي يكاد لا يتوفر مثيل لها في بلدانهم! اما الثورات الراهنة للشعوب العربية فهي لدى الانظمة، مؤامرات كونية لتحطيم “ممانعتها” للمخططات الامبريالية! وهي من جانب بعض الاطراف المعارضة مؤامرات لتفتيت المفتت وتقسيم المقسم! استمرارا لسايكس بيكو رقم 2 . كما ان تنظيم “الدولة الاسلامية” صناعة اميركية لانه جاء في مذكرات هيلاري كلينتون ان امر انشاء دولة اسلامية من قبل اخوان مصر الذين وصلوا للسطة ايام مرسي امر يمكن قبوله طالما انه تم عن طريق ديمقراطي!!
فضلا عن عشرات التخيلات عمن صنع داعش من قبل معارضين وانظمة واحزاب تتراوح بين ايران واميركا وتركيا والنظام السوري وحتى اسرائيل، رغم التناقض الكبير بين هذه التخيلات وبتجاهل كلي لاوضاع القطاعات الاشد تخلفا في مجتمعات المنطقة التي هي المصدر الحقيقي للتنظيمات المتطرفة السلفية والتكفيرية التي ترفض الحداثة وتريد ارجاع المجتمعات الى اسلوب الحياة الذي كان سائدا في القرون الوسطى. مثل هذا التفسير يعبر عن العجز عن ملاحقة الاحداث المفاجئة وغير المتوقعة التي حيرت بعض المحللين بتناقضاتها وتغيراتها السريعة فتغيب عنهم اسبابها وعواملها التي تحتاج لبحث معمق، وليس اللجوء لتفسير موجز يستسهله محللون متسرعون يهمهم كمية انتاجهم اكثر مما تهمهم نوعيته.
هذا لا يعني ان تفسير المؤامرة يوجد فقط لدى نخب شرق اوسطية فهو موجود ايضا في دول العالم ولكن بنسبة اقل بكثير مما في بلدان منطقتنا. فالهجوم الياباني على بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية فسره محللون غربيون بان اميركا كانت تعلم به وتركت اسطولها في الباسفيكي يدمر كليا، فقط ليكون سببا لدخولها الحرب ضد اليابان!! وهذا يشابه تفسير محللين عرب وغربيين حول ان تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون الاميركي عام 2001 كان من تدبير السي آي أي وذلك لايجاد المبرر لاحتلال افغانستان! كما ان سقوط الاتحاد السوفييتي في نظر مؤيديه اليساريين هو نتيجة مخطط غربي راسمالي وليس بسبب ازماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ادت لانهيار المنظومة الشرقية باكملها.
هذا كله لا ينفي دور الخارج ولكنه ليس الدور المقرر في كثير من الحالات، بل احد العوامل المؤثرة في الاحداث الى جانب الدور الرئيسي الداخلي. كما انه لا يعني عدم وجود مخططات حقيقية للدول الكبرى تتعلق بمصالحها في دول العالم تسعى لتنفيذها. ولكنها ليست المخططات المتخيلة التي يروج لها محبذو تفسير المؤامرة، الذين علينا ان نشير هنا الى ان لا احد منهم يعترف انه يستخدم اسلوب تفسير المؤامرة، بل يحاول ان يقنع الجميع انه يتحدث عن “وقائع” وليس “تخيلات”، اما قصدا لاخفاء مقاصده كما الانظمة، او جهلا ونقص في الوعي للمعارضين. تفسير المؤامرة عمليا يلعب دورا في حجب الحقائق حول المخططات الحقيقية للاطراف المختلفة الداخلية والخارجية.
ahmarw6@gmail.com