إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(الصورة: أحد “تابوهات” النظام الإيراني: مجتبى خامنئي ودوره غير المعلن في الإنتخابات الرئاسية)
قبل اربع سنوات، وحتى الساعات الاولى من فجر يوم السبت 18/6/2005 كان مرشح الرئاسة الايرانية الشيخ مهدي كروبي مستيقظا يتابع مع فريقه نتائج فرز نتائج الانتخابات الرئاسية ويرصد موقعه على جدول الاسماء المرشحة الذي كان يشير إلى احتلاله للمركز الثاني بعد قطب النظام والثورة الشيخ هاشمي رفسنجاني، في حين احتل رئيس بلدية طهران محمود احمدي نجاد المركز الثالث متقدما على مصطفى معين ومهر علي زاده (اصلاحيين) ومحمد باقر قاليباف وعلي لاريجاني (محافظين).
اعترت كروبي – كما اخبرني صباح ذلك اليوم – ملامح الاطمئنان فقرر اخذ قسط من الراحة لساعات بعد ان ساد اعتقاد بحسم النتيجة وانتقاله مع رفسنجاني الى الدورة الثانية للانتخابات، لكنه، وبعد ساعتين، أوقظ على خبر نزل عليه كالصاعقة “لقد تغيرت النتائج وتراجع موقعه الى المركز الثالث لحساب احمدي نجاد”.
لا يمكن وصف حالة الغضب والشعور بالخيانة الذي سيطر على ملامح كروبي في لحظتها، واكتفى بتعليق يحمل الكثير من الدلالات “يبدو انني نمت نوم اهل الكهف”. ثم اردف قائلا: “سأوجه رسالة الى المرشد الاعلى استفسر فيها عن تواجد نجله السيد مجتبى في المركز الانتخابي لمحمد باقر قاليباف، ومن ثم، وقبل ثلاثة ايام إنتقاله الى المركز الانتخابي لمحمود احمدي نجاد على الرغم من تأكيد المرشد على عدم تدخله في الانتخابات وعدم تأييده لاي مرشح على حساب اخر”.
الرسالة كتبها كروبي وارسلها للمرشد، فاثارت يومها عاصفة من التعليقات والردود بدأت من مكتب المرشد ووصلت الى الصحافة التي تلقت تهديدات بالاقفال في حال نشرت هذه الرسالة، وهذا ما حصل.
وفي السياق نفسه، نقل لي احد المقربين من محسن رضائي احد المرشحين حينها، ان رضائي كان في جولة انتخابية بمدينة الاهواز، وخلال إلقائه لخطاب جماهيري، سلّمه احد مساعديه ملاحظة صغيرة تقول “لقد انسحب السيد مجتبى – نجل المرشد – من المركز الانتخابي لـ”قاليباف” وانتقل الى المركز التابع لاحمدي نجاد”، فما كان من رضائي الا ان ختم ندوته معلنا انسحابه من السباق الرئاسي ملتزما الصمت ومن دون تقديم أي توضيح لقراره.
بعد هذه الاحداث، قرر كروبي الاستقالة من كل المواقع التي تمتّ للنظام بصلة، ورفض قرار تعيينه في “مجمع تشخيص مصلحة النظام” الصادر عن مرشد النظام، وأشفع ذلك بقرار انسحابه من “تجمع رجال الدين المناضلين” الذي يضمه الى جانب محمد خاتمي ابرز وجوه رجال الدين الاصلاحيين، مفضلا الدخول في تجربة حزبية حقيقية معلنا عن تأسيس حزب “اعتماد ملي – الثقة الوطنية” ليخط لنفسه مسارا متميزا في خطابه الاصلاحي المعتدل والالتزام بالدستور واخلاصه لمبدأ ولاية الفقيه التي يعتقد بها ويدافع عنها بالمفهوم الذي قدمه مؤسسة الثورة الامام الخميني. كاشفا منذ البداية انه يعمل لتهيئة الامور ليكون مرشحا ومنافسا قويا في الانتخابات الرئاسية القادمة – أي الحالية – واضعا كل القوى والاحزاب الاصلاحية في مواجهة هذا الخيار الواضح بين التأييد له او معارضته.
مبكرأً، اعلن كروبي نيته الدخول في السباق الرئاسي متحديا التيار الاصلاحي لاختيار مرشحه محددا مهلا زمنية للتفاوض والاجماع، مؤكدا انه بعد انقضاء هذه المهل لن يكون بمقدوره التراجع امام القاعدة الشعبية والحزبية التي تؤيده. وعندما اعلن محمد خاتمي قرار بدخول السباق الرئاسي، رفض كروبي الانسحاب لصالحه لان ترشحه جاء بعد انقضاء المهلة التي كان قد حددها، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه في مواجهة ترشيح مير حسين موسوي على الرغم من كل الضغوط التي تعرض ويتعرض لها مع فريقه من الاحزاب الاصلاحية حتى الان.
<emb580|center>
وعلى الرغم من الفرص القليلة امام كروبي لتحقيق انجاز او مفاجأة في هذه الانتخابات، الا انه استطاع تقديم خطاب مختلف وجريء كسر فيه الكثير من المحرمات السياسية (التابوهات) التي لم يتجرأ أي من المرشحين الاقتراب منها قبل ان يفتح الباب عليها.
اولا : فهاجم المؤسسة العسكرية وتدخّلها في الانتخابات برسالة وجهها مباشرة الى قائد الاركان المشتركة للقوات المسلحة الجنرال حسن فيروزآبادي أنّبه فيها على الموقف الذي اعلنه من الانتخابات وتأييده للرئيس احمدي نجاد، واعتبر هذا تدخلا في مسار الانتخابات ويتعارض مع الدستور وتوصيات مؤسس الثورة. ما اجبر فيروزآبادي على تقديم توضيح برسالة تناقلتها وسائل الاعلام الايرانية يوضح فيها موقفه ويؤكد على عدم تدخل المؤسسة العسكرية بالعملية الانتخابية والتزامها بالدستور ووصايا المؤسس.
ثانيا : انتقد بشكل مباشر دور مؤسسة حرس الثورة الاسلامية وقوات التعبئة (البسيج) التابعة لها ودورها في توجيه الرأي العام المقرب منها، أي الكتلة البشرية المؤيدة للتيار المحافظ لتصب بصالح المرشح الذي تحدده ليكون رئيسا للجمهورية، وهو اتهام قديم – جديد وجهه كروبي لهذه المؤسسة في هذه الانتخابات وفي الانتخابات السابقة.
ثالثا : وجّه كروبي رسالة مفتوحة الى رئيس “مجلس صيانة الدستور”، احمد جنتي، المعروف بتأييده ودعمه العلني والمطلق لاحمدي نجاد وتبنيه لكل السياسات التي تقوم بها حكومته، واعتبره في فترة من الفترات نعمة أرسلها الله لايران لم يقدّر الشعب الايراني قيمتها. رسالة كروبي حملت اتهاما واضحا وصريحا لجنتي بالانحياز والتدخل السافر لصالح احمدي نجاد خلافا لما يقتضيه الموقع الذي يشغله والذي يفرض عليه الحياد وان يكون على مسافة واحدة من جميع المرشحين.
رابعا : شكّل موضوع الاقليات القومية في ايران مادة أساسية في الحملات الانتخابية لكل المرشحين. اذ بادر نائب رئيس البرلمان ابو ترابي، المؤيد لاحمدي نجاد، للحديث عن إعطاء ابناء القومية الاذرية (اتراك ايران، ويشكلون نسبة تفوق 35% من مجموع السكان) الحق بتعليم وتدريس لغتهم القومية في المدارس تطبيقا للمادة 15 من الدستور الايراني. في المقابل اصدر اكثر الاحزاب الاصلاحية تشددا (المشاركة)، الذي يُعتبر خاتمي المرشد السياسي والروحي له، بيانا تحدث فيه عن ضرورة منح كل القوميات التي تشكل الاجتماع الايراني حقوقها التي ضمنها الدستور، متجاوزا بذلك المادة 15 للحديث عن مشاركة فعلية وعملية لهذه القوميات في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ورفع التمييز عنها في اطار المشروع الذي رفعه خاتمي مع بداية توليه رئاسة الجمهورية الذي اكد على اللامركزية الادارية.
كروبي من جهته، وفي هذه النقطة، رفع سقف الحديث الى مستويات متقدمة. فتحدث عن الظلم الذي لحق هذه القوميات في السنوات الاربعة الماضية، ودعا للسماح لهذه الاقليات باقامة برلمانات وحكومات محلية لادارة الاقاليم التي تتواجد فيها سواء كانت كردية او عربية او آذرية او بلوشية وغيرها.
وان كان الخطاب، أي خطاب كروبي، قد تجاوز المسموح بنظر النظام وقيادته الساعية الى فرض مزيد من المركزية، واتي حولت اقاليم تواجد هذه الاقليات الى مناطق امنية وعسكرية في ظل تراجع دور الدولة التي اكتفت بالزيارات التي يقوم بها احمدي نجاد وضخ الكثير من السيولة بين ايدي المواطنين على شكل هبات ومساعدات هدفها الاستراتيجي كسب اصواتهم يوم الاقتراع الموعود لتجديد رئاسته. الا ان هذا الخطاب كشف النقاب عن جدل جدي يدور في اروقة النظام عن وجود قنبلة موقوتة بإسم “الاقليات القومية” يزداد وضعها سوءاً وتشكل تهديدا جديا لاستمرارية النظام، حتى وان استبعد المركز من حساباته الحركات السياسية الانفصالية التي تدور في فلكه وتتحرك بتمويل غير مباشر منه وتمنحه الغطاء لممارسة المزيد من التشدد والقمع على غرار ما يحدث في اقليم سيستان وبلوشستان وكذلك في اقليم خوزستان.
وعلى الرغم من ان استطلاعات الرأي تشير الى تقدم مرشح الاصلاحيين مير حسين موسوي على غيره من المرشحين الاخرين ويليه كروبي في اوساط الاقليات القومية، الا ان مخاوف التيار المحافظ وقيادة النظام من معادلة تختلف عن المعادلة التي رسمت للانتخابات من خلال اصوات هذه الاقليات وارتفاع نسبة المشاركة التي ستكون حتما لصالح الاصلاحيين، هذه المخاوف دفعت مرشد النظام للقيام بزيارة طويلة الى اقليم كردستان الايراني السني لحثه على المشاركة بالانتخابات لكن لصالح المرشح الذي يريده هو. وهو في الخطاب الذي القاه عند وصوله الى هذا الاقليم، دافع بصراحة عن سياسات الحكومة الاقتصادية وقال انه “الاعلم والأخبر من الجميع بالوضع الاقتصادي وهو ليس سيئا كما يحاول ان يوحي ويقول البعض”. وقد جاء هذا الدفاع مخالفا لكل التقارير والاوضاع الاقتصادية المتردية والتي وصلت حد التأزم ان على صعيد البطالة او هرب الاستثمارات الاجنبية والداخلية والاسكان والتضخم وارتفاع منسوب النقد في الاسواق والانفاق غير المدروس والاستيراد على حساب المنتجات الداخلية الصناعية والزراعية والغذائية اضافة الى “تنظيف” صندوق فائض انتاج النفط من العملات الصعبة.
يمكن لهذه التطورات والدخول في الدوائر المحرمة للنظام أي المؤسسة العسكرية وصيانة الدستور والاقليات، ان لم تثمر هذه المرة وتفرض نتيجة مختلفة للانتخابات الرئاسية، الا انها ستؤسس لمسار جديد في الحياة السياسية الايرانية وستضع تيار السلطة في المستقبل امام تحديات لم تكن في حساباتها او كانت قد استبعدتها من حساباتها بناء على عسكرة هذه المناطق. وفي حال حدوث ذلك فان نظام الجمهورية الاسلامية سيكون امام تحدي الاستمرار بشكل جدي، هذه المرة بسبب عوامل داخلية لن تنفع معها سياسة رمي المسؤولية على عاتق الخارج او نظرية المؤامرة.
hassanfahs@hotmail.com