لعنة الزحف
الزحف إلى الساحة أو إلى ميدان المنازلة كان هو العنوان البارز لانفجار حمامات الدم التي عصفت بعدن وباليمن كلها اعتبارا من عشية 21 فبراير وصولاً إلى السبت 23 فبراير وإلى أجل غير معلوم لانسداد شلالات الدماء التي صارت تشكل وقود عداد الزمن في اليمن.
الزحف كان وما زال هو العنوان بمعناه الواسع وحتى بالمعنى الحرفي، العاري، والصارخ وكما ورد في “لسان العرب” الذي يشرح أصل الكلمة كما يلي: زحف: زحف إليه، زحفا وزحوفا وزحفانا: مشى.
ويقال: زحف الدبَّى إذا مضى قدماً. والزحف: الجماعة يزحفون إلى العدو بمرَّة. وفي الحديث: “اللهم اغفر له إن كان فرَّ من الزحف”. أي فر من الجهاد ولقاء العدو في الحرب. وفي التنزيل: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً، فلا تولوهم الأدبار.
ويستدعي الزحف ما يشبه زحف الصبيان أو التقاء فئتين للقتال حيث يمشي كل من فيه مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب في مزاحف أهل الحرب والطعان. ويقال: زحف لنا عدونا ازحافاً أي صاروا يزحفون إلينا زحفا ليقاتلونا و…..الخ.
المهم كان منتهى زحف وتسابق الحشود على ساحة العروض في عدن يوم الخميس 21 فبراير الماضي، مذبحة عن عشرات الجرحى والقتلى وأعادت إلى الأذهان أجواء ومناخات حرب صيف 1994 ووسعت الجروح المفتوحة وأهالت عليها المزيد من الملح وسكبت كثيرا من الزيت على النار المشتعلة.
وتحت عنوان الزحف وعلى إيقاع طبوله، تصاعدت وتيرة التحضيرات التعبوية الواسعة لتحشيد الجموع في مليونيات استعراض القوة في “ساحة العروض” بخور مكسر- عدن، وهي ساحة مركزية ذات رمزية عالية على مستوى الجنوب لأنها تهندست وتهيكلت لاحتضان الاحتفالات المهرجانية والخطابية الكبرى التي كانت تقام في الأعياد والمناسبات الوطنية لدولة الجنوب السابقة: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
تحت هذا العنوان احتد الاستقطاب واستعر وبلغ الاحتقان مداه وانحشرت عدن في دوامات الرعب والبلبلة وحملات التهويل والتخوين، وكان المتسابقون على الساحة يتحركون بدافع اقتناص السلطة، فمن يستحوذ على الساحة ويستأثر بالمنصة والمنبر، في هذه البلاد، يتصور أنه امتلك الفضاء وصار من حقه أن ينطق بلغة انتصارية كأي سلطان فاز بتفاحة الشقاق –السلطة- بحد السيف.
“موقعة جمل” يمنية
من هنا كان الدخول على صهوات الجمال وأرتال الحافلات والتباري بالمليونيات والمهاجل والزوامل والأناشيد والبيارق والرايات، يحمل في طياته تداخل الأزمنة كلها من قبل الإسلام مرورا بفجره وفتوحاته، وصولا إلى يوم الناس هذا، وتمازج فيه ما هو بدائي بالبدوي، وطفح بما يثير الغرائز ومشاعر الانتقام والثأر.
ولقد توحد المتنازعون في الدعوة إلى الزحف إلى الساحة وعلى عدن المدينة، وكانت المعركة غير متكافئة بين من يمتلك أدوات السلطة والقوة ومن لا يمتلك، وبين من كان قد راكم رصيداً أو خبرة وحقق السبق في الوصول إلى ساحة العروض منذ اندلاع الحراك الجنوبي في 2007 وتصور انه قد استعاد سلطة مفقودة، إلى حد ما، وبين من أراد القول بأن “مليونية الثورة” أو التأييد للرئيس هادي بمناسبة مرور عام على انتخابه كرئيس توافقي هو الأقوى.
وقبل أن تقع المجزرة بأيام كان رئيس المجلس الأعلى للحراك الجنوبي حسن باعوم قد أعلن من حضرموت الزحف إلى عدن، والعزم على إقامة مليونية تعلن رفضها لشرعية انتخاب الرئيس هادي. والى جانب باعوم كان العديد من قادة الحراك في محافظات جنوبية أخرى أعلنوا عزمهم الزحف إلى عدن والى الساحة إياها للمشاركة في مليونية الحراك.
وردا على ذلك كان محافظ عدن وحيد رشيد المنتمي إلى حزب الإصلاح، أعلن عن إقامة “مليونية الثورة” والمؤيدة للرئيس هادي ونسبت إليه تصريحات تقول بأن إجراء هذه الفعالية سيتم في ملعب 22 مايو بعدن، وتكشف فيما بعد أن القصد من هذه التسريبات كان هو التمويه وخداع أصحاب الحراك.
في الأثناء كانت توقعات الساسة في عموم البلاد وكذلك الأوساط الصحفية والدبلوماسية والمراقبين المحليين والخارجيين، تقول بأن ثمة كارثة وشيكة سوف تحدث في عدن عشية 21 فبراير أو في يوم الفعالية.
وقبل اليوم الموعود تمكنت “مليونية الثورة” من إحراز اختراق باهت بما فيها من حشود قام حزب التجمع اليمني بتأليبها من المحافظات الجنوبية ومن المحافظات الشمالية المجاورة، فهو حزب صاحب باع وذراع طويلتين في هذا المجال وقد حضر لفعاليته هذه بعناية فائقة؛ وتمكن من تحقيق ضربة استباقية والتفافية في غزوة الساحة من الليلة الأولى، مستفيدا من إمكانيات السلطة ومستعينا بجمال البادية وأرتال السيارات وبلطجية “المؤتمر” وبالمنابر والخطباء الذين أمطروا الناس بخطابات التخوين والتهويل عن “الوحدة المقدسة” وما إلى ذلك من ذخيرة الشعارات التي استعان بها شركاء حرب صيف 1994 عند استباحة عدن والجنوب عموماً.
كان واضحا أن حزب الإصلاح تقصد أكل الثوم بفم الرئيس هادي، وعزف على وتر مخاوف الرئيس من بقايا نفوذ الرئيس المخلوع علي صالح، كما استفاد من القاعدة الاجتماعية الموالية للرئيس هادي وقام بتحشيد الكثير من أهالي المحافظة التي ينتمي إليها ومعها المحافظة التي وقفت في صفه حينما كان وزيرا للدفاع عند إعلان الحرب على الجنوب في 1994.
وكما لو أن التاريخ أسفر عن وجهه الملهاوي بإعادة صورة الانقسام الذي كان عليه الجنوب بين “زمرة” و”طغمة” إلى موقع الصدارة بمكر فج وقبيح لم يعبر عن دهاء حزب الإصلاح بقدر ما أسفر عنه كقوة حرب مستنفرة لخوض المعارك في الكثير من الجهات والجبهات، وبالدرجة الأولى مع “الحوثيين” في أقصى الشمال، ومع الحراك في الجنوب و….الخ.
المصيبة أنه في أثناء حملات التحشيد والتعبئة ومع إدراك جميع فرقاء السياسة لواقع أن المحذور سوف يقع فإنهم لم يحركوا ساكناً لوقف المذبحة، وبان للعيان بأن اليمن منكوبة بنخبة رثة مكبلة بأوتاد العصبيات ولا تملك أي قدر من الشجاعة الفكرية والسياسية، نخبة ويقال “معارضة” غير قادرة على تعريف نفسها وتظهير صورتها كقوة اقتراح ومبادرة عقلانية، فالزواحف لا تطير، حسب نيتشه.
وجاءت وقائع مذبحة 21 فبراير وتداعياتها المنفلتة العقال لتقطع بأن التشرذم لا الاتحاد هو قدر اليمنيين وأن القدر المنتظر لبلد متحلل، سائل، عديم التشكل ومفتقر إلى السياسة هو المزيد من التفسخ، وأن التكرار الممجوج لاسطوانة الوحدة لا يعبر إلا عن الغياب التام للسياسة وأن الطريق إلى الحوار صار مفخخا ومرشحا للنسف لأن مفعول تفاقم عناصر التشظي والانقسام هو الملمح الأبرز للأوضاع في اليمن بجميع جهاتها.
وغدا من الراجح أن يتأجل موعد انعقاد الحوار الذي كان قد تقرر في 18 مارس المقبل لأن أحداث عدن وما يجري في الكثير من المحافظات الجنوبية التي شهدت مواجهات مسلحة وتعرضت فيها مقار حزب الإصلاح للحرق والتخريب، كما تعرضت فيها المحلات التجارية للعديد من التجار الذين ينتمون إلى محافظات شمالية، بما في ذلك أصحاب “البسطات”، لاعتداءات وتخريب وحرق وكل ما يشير إلى الانزلاق إلى المجهول والفوضى والتفكك، والى المزيد من نوبات الانتقام غير القابلة للتوقع ولا للقياس، ما يشير إلى عجز الجميع وفي المقدمة مركز السلطة في صنعاء عن إيقاف الفوضى وانتفاع بعض النافذين الكبار فيها من هذا التردي والانهيار واندفاعهم الأعمى للانتهاك والاعتداء على كافة مظاهر الاحتجاج والاعتراض السلمي في الشمال والجنوب ودفعهم للضحايا نحو الجنوح إلى رقصة الموت والارتماء في أحضان الهويات الصغيرة القاتلة، وغير ذلك من مظاهر الانحدار المتسارع على خلفية هشاشة ما يسمى بـ”النخبة” وعدم قدرتها على كبح المواجهات الصفرية التي تشهدها البلاد وهي مواجهات تتغذى من ثقافة الثأر والانتقام وتندرج في إطار ممارسة العقاب الذاتي والجماعي.
إن هذا الضرب من الثقافة لا ينفتح على أفق الحوار فهو يقوم على سياسة كل شيء ولا شيء. وفي ظل ثقافة الثأر تسود عبادة التسلح والعنف وتتفشى مظاهر العسكرة وتتوالد الجيوب الميليشاوية والحروب والمغامرات الانتحارية. وذلك ما تشهده العديد من أرجاء الجنوب، حيث استحكمت مشاعر القنوط والكآبة والإحباط وتزايدت قوة التعصب والأحكام المسبقة والتنميطات والعدوانية للسلطة ولكل ما يمت بصلة لأذرع السلطة المرتبطة بصنعاء. فجُلُّ رموز نظام صنعاء وممثليها هناك صار ينظر إليهم كرموز لقوة احتلال لا يخرجون عن مدار النواة الصلبة للدولة الباطنة التي تتصرف كميليشيا وليس ثمة تفسير آخر لما حدث في ساحة العروض وغير ذلك من ساحات عدن التي شهدت المواجهات الدامية وعمليات التقتيل الجماعي والمجاني.
وفيما كان المأمول القيام بطائفة من الإجراءات الهادفة إلى تهدئة الأوضاع المضطربة والمحتقنة وإلى إيجاد حالة انفراج سياسي واجتماعي وأمني ونفسي، فقد حدث العكس وانسد طريق الحوار وانعقد الرهان على انتظار ما سيأتي من الخارج والتعويل على دور القوى الإقليمية والدولية الراعية وقدرتها على إيجاد مصفوفة مسؤوليات والتزامات على كل طرف لفترة ما قبل عقد مؤتمر الحوار.
المؤكد، حتى الآن على الأقل، أن المدى الزمني غير كاف لتهيئة ظروف ومتطلبات ومقومات نجاح الحوار، ولا تلوح في الأفق أية بارقة عن تحضير بدائل سياسية في حالة تعذر انعقاده أو في حالة إخفاقه بما في ذلك بدائل معقولة تستجيب لتطلعات الناس في تجنب المزيد من الإضراب وأعمال العنف والمواجهات المسلحة.
ولما كان السياسيون في هذه الغابة يخاطبون الجمهور بما يريد أن يسمعه، فقد كانت سقوفهم عالية جدا وتلك هي السقوف التي تقوم على هيجان المشاعر والخواطر إلى الدرجة التي دفعت بالبعض في الجنوب التمسك بخيار الانفصال أو الاستقلال كشرط سابق للدخول في الحوار، وفي المقابل دفعت بغلاة الافاكين في الشمال إلى إعادة الضرب على طبول حرب 1994 ورفع شعار “الوحدة المقدسة”.
في هذا الخضم يخلو المجال من قوة منظورة وقادرة على منع تفكيك ما تبقى من اليمن بالعصابات المسلحة ونزاعات الجهات والقبائل والعشائر المتقاتلة. ويخشى بعض المراقبين من التطورات السلبية للقضية الجنوبية واستفحال لعنة العسكرة والرد على الإحباط بالعنف، ويخشى هؤلاء من تطور تبعات هذه القضية وتعديها لأي سقف يمكن توقعه لحلها، ومن اتجاه الأمور إلى ما هو أبعد من انفصال الجنوب كدولة وانفراطه إلى دويلات وإمارات.
mansoorhael@yahoo.com
منصور هائل هو رئيس تحرير صحيفة “التجمّع”- صنعاء