**
(الصورة: إيف بونيه “الإلهي”، موسم 2006، كما وردت في “الإنتقاد”)
(المقال التالي نُشِر على “الشفّاف” في 20 يناير 2005، ونعيد نشره لـ”الفائدة”)
20 يناير 2005
مدير الإليزيه في عهد ميتران يتّهم مديراً أسبق لـ”جهاز مكافحة التجسّس”ومدير جريدة “لوموند” السابق بالعمالة لـ”السي آي أي”
بيار عقل
فجّر مدير قصر في عهد فرنسوا ميتران قنبلة سياسية يوم أمس حينما اتّهم المدير الأسبق لجهاز مكافحة التجسّس الفرنسي، أي جهاز “دي إس تي” الشهير، والمدير السابق لجريدة “لوموند” (أهم الصحف الفرنسية) بأنهما كانا “مسيّرين” من جهاز “السي آي أي” الأميركي، وتحديداً من “وليام كايسي” الذي وضع خطّة إسقاط الإتحاد السوفياتي إنطلاقاً من أفغانستان.
المناسبة كانت جلسة إستماع أمام المحكمة في ما يعرف بـ”قضية التنصّت”، التي تطال “خلّية” تابعة لقصر الرئاسة في عهد ميتران عُرِفَ عنها أنها تنصّتت على عدد من الشخصيات السياسية والصحفية والأدبية لأسباب تتّصل، غالباً، بحماية مصالح الرئيس ميتران الشخصية وحياته الخاصّة- على حساب القانون والأعراف الديمقراطية. فأحد أسباب التنصّت على الصحفيين، مثلاً، كانت لمعرفة ما إذا كان بعض الصحفيين سيكشفون للرأي العام أنه كان للرئيس ميتران “إبنة غير شرعية”، وهي إبنته “مازارين” التي اعترف بها أمام الملأ في سنواته الأخيرة.
وحيث أن الإتهام بـ”التنصّت بصورة غير قانونية” يطال “جيل ميناج” بالدرجة الأولى، فقد ردّ “ميناج” باتهامات يتعذّر التحقّق من صحّتها. وخصوصاً حينما لا تكون سمعة الشخصين اللذين اتهمهما فوق الشبهات! فالمدير الأسبق للـ”دي إس تي” (حسب شائعات لا نجزم بصحّتها، ونكتفي باعتبارها من نوع “الشائعات”.. و”الله وأعلم”..) أظهر جشعاً مالياً مبالغاً بعد تقاعده من منصبه الحسّاس، وبات معروفاً كأحد الناشطين في “اللوبي العراقي” الموالي لصدّام حسين خلال سنوات التسعينات. كما سبق أن وُجِّهَت إتهامات مُقنِعة لمدير جريدة “لوموند” السابق، اليساري “إدفي بلينيل” بإقامة علاقات “غير معلنة” مع وزير الداخلية الأسبق، اليميني “شارل باسكوا”، الذي بلغ براعته أن استخدم صحفياً “يسارياً” لتسريب ملفّات معيّنة إلى الصحافة.
فقد أعلن “جيل ميناج” أن الرئيس ميتران شخصياً هو الذي اتخذ قرار التنصّت على الصحفي “إدفي بلينيل” Edwy Plenel بعد أن نشرت جريدة “لوموند” مقالين في 31 مارس و2 مايو 1985 حول قضية “فيرويل”، وهي أهم عملية تجسّس ضد الإتحاد السوفياتي حقّقها جهاز مكافحة التجسّس الفرنسي في تاريخه كله. وتقول المصادر الفرنسية أن “فيرويل”، الذي أعدمه السوفيات، سلّم الفرنسيين أسماء 222 جاسوس سوفياتي في الغرب وحوالي 3000 وثيقة بالغة الأهمية، كان أحد نتائجها طرد 47 ديبلوماسي سوفياتي دفعةً واحدة من فرنسا في العام 1982. وبلغت أهمية “فيرويل”، أن الرئيس فرنسوا ميتران قام، شخصياً، بإطلاع رونالد ريغان على وجود العميل “فيرويل”. وبالمناسبة، فالجاسوس “فيرويل” هو نفس “العالِم السوفياتي المعارض” الذي خلّده الكاتب البريطاني “جون لو كاريه” في رواية The Russia House، التي قام ببطولتها “شون كونيري” حينما تحوّلت إلى فيلم سينمائي.
ويضيف ميناج أن مدير “دي إس تي” الأسبق، “إيف “”، هو الذي اقترح على الرئيس ميتران طرد 47 ديبلوماسي سوفياتي على أساس أنهم، في الواقع، جواسيس وليس ديبلوماسيين. و”بغية تهدئة “الكا جي بي”، فقد توجّه مدير الخارجية الفرنسية إلى سفارة الإتحاد السوفياتي ليطلعها على وثيقة من جهاز VPK السوفياتي (المسؤول عن تجميع نتائج كل عمليات التجسّس الإقتصادي على الغرب)” تثبت صحّة المزاعم الفرنسية التي كانت وراء قرار طرد الديبلوماسيين.
وهذه الوثيقة هي نفسها التي تمّ تسريبها إلى القناة 2 في التلفزيون الفرنسي أولاً، ثم إلى الصحفي “إدفي بلينيل” الذي نشرها في “لوموند”.
ويضيف “جيل ميناج”: “لقد تساءل الرئيس ميتران عن مصدر هذا التسريب. وراودته الشكوك بأنه كان وراء نشر الموضوع عملية أميركية تستهدف زعزعة إستقرار رئاسته. خصوصاً أن الصحفي “إدفي بلينيل” كان يردّد أنه لم يهتمّ يوماً بمتابعة قضايا التجسّس، ومع ذلك فقد عثر على أكبر قضية تجسّس في القرن العشرين دفعة واحدة..”.
وحسب معلومات “جيل ميناج”، فإن مدير السي آي أي في عهد ريغان، أي وليام كايسي “طلب من إيف بونيه أن يقوم بواجبه. وأنا لا أقول أن كايسي قام بتجنيده ولكن إيف بونيه (مدير جهاز مكافحة التجسّس الفرنسي) كان خاضعاً لتأثير واشنطن! وكان بونيه يملك عدداً من الوسائط لتنفيذ هذا الطلب”!
وحيث أن الأميركيين قدّروا أن صحفي التلفزيون الفرنسي لم يكن يتمتع بـ”مصداقية كافية”، فقد “قام مدير السي آي أي في باريس، وكان حينها تشارلز كوغان Charles Cogan ، الذي كان يعرف الصحفي أدفي بلينيل جيّداً، بتنظيم لقاء بين بلينيل و. وقام تشارلز كوغان بإرسال الوثيقة إلى بلينيل، الذي كانت الوثيقة بحوزته حينما اجتمع مع .”
وانتهى مدير الإليزيه السابق إلى القول: “إنني أدرك خطورة أقوالي، وأنا أصرّ عليها بل ومستعدّ للتوقيع عليها”.
كيف يردّ مدير “لوموند” السابق على إتهامه بالعمالة للأميركيين؟ يقول بلينيل أنه لا يعرف تشارلز كوغان على الإطلاق. ولكن الغريب هو أنه كشف أمام المحكمة أنه كان يعرف، منذ 7 سنوات، بهذه الإتهامات التي وجّهها له جيل ميناج علناً يوم أمس. فقد أعلن بلينيل: “هذه الشائعة، هذا التشهير، أنا أعيش تحت وطأته منذ 7 سنوات. وهو أسوأ وأخبث أنواع التشهير، أي أن أكون عميلاً لدولة أجنبية. والسلوك الأفضل هو تجاهل هذا التشهير…”!!
الأرجح أن تكون لهذه الإتهامات فصول لاحقة. ويبقى التذكير بأن الرئيس ميتران الذي اكتشف “قضية فيرويل” فور تسلّمه الرئاسة في العام 1981 لم يتخلّ يوماً عن شكوكه بأن هذه القضية كلها كانت “مفتعلة” من جانب الأميركيين بغية “إمتحانه”. ففي 1981، قام ميتران (ولأول مرة منذ العام 1946) بإدخال 4 وزراء “شيوعيين” في الحكومة الفرنسية. وأثار دخول الشيوعيين إلى الحكم في فرنسا توتّراً شديداً مع الولايات المتحدة، وتوتّرات داخلية لم تُعلَن كل جوانبها حتى الآن!
وأخيراً، فلا بد من التذكير أيضاً بأن وزير الدفاع المقرّب جداً من الرئيس ميتران، شارل هيرنو، اضطرّ بعد سنوات إلى الإستقالة من منصبه بسبب علاقات قديمة جداً، بدا أن هنالك إثباتات حولها، مع أجهزة التجسّس الرومانية والبلغارية.