مَنْ يذكر أم سعد؟
عنون غسّان كنفاني روايته باسمها. أم سعد، اللاجئة، ساكنة المخيّم، وخادمة البيوت، التي وصفها في روايته المكتوبة في العام 1969 على النحو التالي: “تسير عالية كما لو أنها علم ما، تحمله زنود لا تُرى”. لا نعرف، بالتأكيد، عدد مَنْ يذكرون أم سعد.
ومع ذلك يمكن القول، بقدر من الطمأنينة، أنها معروفة على نطاق واسع باعتبارها شخصية مركزية في الأدب الفلسطيني. وقد أراد لها مُبدعها أن تحاكي، بمفردات وخصوصيات محلية، الشخصية المركزية في رواية “الأم” لمكسيم غوركي.
على أية حال، “أم سعد”، التي حاولت محاكاة “الأم”، أصبحت اليوم موضوعا للمحاكاة.
لدينا، الآن رواية اسمها “حليب التين” لسامية عيسى تحاكي “أم سعد”. وهذا أمر يحتاج إلى قدر من التوضيح. وثمة ملاحظة لإدوارد سعيد مفيدة في هذا الشأن. يقول سعيد: “الروايات لا تحاكي الواقع وحسب، بل تحاكي أيضا بعضها بعضا”. بمعنى آخر، يمكن العثور في كافة النصوص على جينات السلالة الأدبية بشكل عام، وعلى الجينات “القومية” أو “العائلية” (إذا شئت) لهذا الجنس الأدبي أو ذاك في بيئته اللغوية والثقافية الخاصة. وهذا أصدق ما يكون على جنس الرواية.
وليس مهما في هذا الشأن ما إذا كانت المحاكاة فعلا من أفعال الإرادة، أم نجمت عن دوافع بعيدة في اللاوعي. وحتى إذا قللنا من شأن الإرادة والدوافع، فإن محاكاة الظاهرة نفسها في الواقع، تنطوي في جانب منها ـ خاصة مع وجود مساحة زمنية كافية، بين نصين أو أكثر ـ على العودة إلى ما سكن في الذاكرة الثقافية الفردية والجمعية على حد سواء، من تداعيات وعلامات ورموز.
وهذا ما يمكن العثور عليه في المقارنة بين “أم سعد” و”حليب التين”. في العملين ثمة امرأة (في الأوّل من الغابسية وفي الثاني من صفد) كلتاهما تقطن مخيما للاجئين في لبنان، وكلتاهما تعمل في خدمة البيوت. الأولى في الأربعين من العمر والثانية، فاطمة، في الخمسين.
في الرواية الأولى، تُحضر أم سعد عرق دالية، وتقول للراوي الذي يشتغل كاتبا ويعيش في بيروت: “سأزرعه، وسترى كيف يعطي عنبا، هل قلت لك أنه لا يحتاج إلى ماء، وأنه يعتصر حبات التراب في عمق الأرض ويشربها”. وفي الثانية تحمل فاطمة غرسة تين صغيرة إلى الدنمارك، وماذا تفعل:
“زرعتها قرب باب الحديقة، وحرصت أن تغطيها بالنايلون، وتدفئها بضوء خافت وضعته عند أسفل جذعها، لتحميها من الثلوج المتراكمة في فصل الشتاء الطويل. مع الوقت تحوّلت شجرة التين إلى فاصلة بين متاهتين حين تعبر من أمامها صديقة تُغلق عينيها وتترك للهواء الثلجي أن يصفق وجهها، ويمحو كل ما علق فيها من ملامح الذكريات”.
عرق الدالية وغرسة التين الصغيرة هما مفتاح العملين. في “أم سعد” يتكوّن الحقل الدلالي لعرق الدالية في سياق صعود الظاهرة الفدائية، وتتويج المخيّم كمعمل لاختبار وإنتاج قيم جديدة. وفي “حليب التين” يتكوّن الحقل الدلالي لغرسة التين الصغيرة في سياق هجرة امرأتين من جحيم المخيّم وحياة اللاجئين إلى الدنمارك، بحثا عن حاضر آمن، وحياة نظيفة.
تنتهي الأولى بكلام أم سعد “برعمت الدالية يا ابن العم برعمت”، وهي جملة يختتم بها غسان كنفاني فصلا بعنوان “البنادق في المخيم”. وفي الثانية يشح نظر فاطمة، بعد هجرتها إلى الدنمارك، تطن أذناها من حين إلى آخر بكلمات شخص اسمه ركاد، مسؤول اللجنة الشعبية في المخيم: “مخيم لمم! لمم! لمم! النسوان أصل البلا”.
في النص الأوّل لم تكن “النسوان أصل البلا”، بل كنّ واهبات الحياة الجديدة، وقابلات الثورة القادمة، وفي النص الثاني كان على فاطمة، الأرملة، وأم الشهداء الأربعة، أن تكتشف جسدها ومتعها السرية في المرحاض العمومي في المخيّم، وكان على صديقة، زوجة ابنها الشهيد، أن تبيع جسدها في دبي، لتتمكن من الإنفاق على ما تبقى من العائلة في المخيم، ومن شراء بيت في الدنمارك، يلم شمل العائلة هناك.
لماذا يتمحور السرد في النص الأوّل حول البنادق، وفي الثاني حول المرحاض العمومي؟
لأن أربعة عقود تفصل بين العملين، ولأن مياه كثيرة مرّت تحت الجسر، ولأن الروائي “ابن زمنه” وهذا التعبير لإدوارد سعيد، أيضا. “فكل روائي يفصح عن وعي بزمنه يتقاسمه مع الجماعة التي تجعل منه الظروف التاريخية (الطبقة، المرحلة، المنظور) واحدا منها”.
كان غسان كنفاني ابنا لزمنه، ومحكوما بمنظور ما، وبالقدر نفسه يمكن الكلام عن سامية عيسى، فهي ابنة زمنها، ومحكومة بمنظور ما. وهذا ما يُطلق عليه في حقل العلوم الإنسانية Zeitgeist.
عندما تكلمت عن روح الزمن، أو سماته، كمفهوم في العلوم الإنسانية قبل أسابيع قليلة في ندوة عقدتها مؤسسة الدارسات الفلسطينية في رام الله، أبدى بعض الحاضرين تحفظات بشأن المفهوم. وهذا غير مهم في ذاته، المهم أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى يتجلى من خلال ما يطرأ على المعيار العام paradigm السائد من تغيّرات. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأدب الفلسطيني فقد طرأت على المعيار العام تحوّلات راديكالية، يمكن تفسيرها بما حدث في الواقع، وفي السياسة، وهذا أيضا غير مهم في ذاته.
المهم أن محاكاة الواقع بالنسبة للفلسطيني أو الفلسطينية أصبح أكثر تعقيدا، وتتجلى فيها علامات نضج كثيرة. من أدب يبشّر إلى أدب يفسّر. وهذا يحيل إلى مصير السردية البطولية وتحوّلاتها. ولم يكن هذا ليحدث دون قدر من القسوة. ربما نفكر يوما في كتابة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، من خلال تاريخ النساء، لا من خلال تاريخ الفصائل والحروب والمفاوضات.
على أية حال، الرواية الفلسطينية الجديدة إذ تحاكي الواقع، تقترح تاريخا مغايرا، وتذبح أبقارا مقدسة، بقدر واضح من القسوة، وربما في أمر كهذا ما يبرر مديح الأدب القاسي.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام