لن أعلق علي الحكم القضائي الذي صدر بحق الشاب صاحب مدونات الانترنت المسيئة للإسلام، فهذا الأمر يدخل في نطاق تطبيق العدالة، وهو أمر من اختصاص القضاء، واحترام الأحكام القضائية واجب، ولا يجب تناولها بالنقد أو الإشادة. ولكن ما أريد التوقف أمامه هو لماذا حدث هذا الأمر؟ ولماذا سيتكرر هذا الفعل- شئنا أم أبينا- في المستقبل؟
هذه النوعية من الظواهر مهما طالتها يد القانون ستظل باقية، نامية، متراكمة تماما مثل الجرائم النمطية التي عرفتها البشرية منذ مهدها كالقتل والسرقة…الخ ولم تستطع كل الأنظمة القانونية اجتثاثها. القانون يعاقب، والناس تشذ وتخرج عن النص إلي الحد الذي جعل بعض الدول تبيح مخالفات قانونية حتى ترفع عن كاهل مؤسسات العدالة بها الجهد الذي تبذله في تعقب جرائم صارت في الممارسة اليومية “سلوكا معتادا”. في هولندا هناك ترخيص قانوني باتجار وتعاطي المخدرات. علت الأصوات في بريطانيا مطالبة بتعقب التجار وترك متعاطي المخدرات، ولاسيما أن الشرطة تنفق أمولا وجهدا كبيرا في تحقيق ذلك. كاد المزاج العام ينحاز إلي ذلك إلا أن الأمر لم يلق- في نهاية المطاف- قبولا من البرلمان خشية تأثيراته السلبية علي حالة الأمن في المجتمع البريطاني.
وأحسب أن مدونات الشباب علي الانترنت ظهرت كي تنمو وتبقي، ويتحول الشطط والمخالفة فيها إلي نوعية الجرائم التي ترافق الحياة في تطورها ونموها. ستبقي مدونات علي الانترنت إلي أن يأتي وقت يصبح فيه الإعلام- مكتوبا ومقروءا ومسموعا- علي درجة من الانفتاح بحيث يستوعب الآراء الواردة في هذه المدونات، ولا يضيق بها. هي حالة لا يمكن بلوغها- علي الأقل- في الأمد المنظور. هذه هي المعضلة الحقيقية. الإعلام له سقوف مهما طال عنقه، والسباحة الفكرية ليست لها حدود. هنا ينتج الخلل الطبيعي بين التفكير والبوح. يتمدد نطاق الإبداع، وتتقلص مساحة التعبير. في المجتمعات المتقدمة هناك حرص علي أن تظل الحرية في حالة تمدد إلي الحد الذي تكاد يتطابق فيه الفكر مع القول.
الأمر في المجتمع المصري مختلف. لم يتعود الفرد علي التفكير، والفعل الحر الإرادي. ومنذ فترة طويلة خلت ظل الإعلام تحكمه المحاذير والمقدسات السياسية والحسابات المذهبية لا يقترب من ملفات ظلت مبهمة أمام المواطن العادي، الذي كان لازما علي الدولة والمجتمع أن تعوضه من خلال السماح له بالتفكير الذاتي المغلق، طالما أنه لا يعبر عنه، ولا يدعو أحدا إليه. صارت “الخرافة” هي المجال الوحيد المتروك للمواطن يعيش فيه بحرية، بعيدا عن محرمات السياسة، و تزمت المؤسسات البيروقراطية، إدارية وأمنية ودينية. وهو الثلاثي الذي يتوارثه المجتمع المصري منذ أيام الفراعنة، ويجد المواطن نفسه يسبح بين أضلاعه الثلاث. البيروقراطية الإدارية تتحكم في لقمة عيشه، والبيروقراطية الأمنية تحدد مساحة حركته، والبيروقراطية الدينية تهيمن علي عقله ووجدانه. لا هامش متاح أمام المواطن- إذن- سوي الخرافة، والخرافة وحدها. هذه لا تزعج أي من البيروقراطيات الثلاثة طالما أن العقل يحتفظ بها، أو يشارك غيره بها دون أن ينتج عن ذلك عصيان أو تمرد علي هذا المثلث البيروقراطي الذي صار وحده صاحب الحق في تقرير “الصالح العام”، يحدد المقبول وغير المقبول، معايير الصواب والخطأ، ماهية النجاح والفشل…..الخ. الخلاصة أن المواطن له من يفكر نيابة عنه، وإذا أراد أن يفكر فعليه أن يكون ذلك انفراديا. وعادة ما تكون مصادرة الفكر “غير المألوف” هي صناعة المؤسسات الثلاثة في المقام الأول، كل بحسب الدور المنوط به في تحقيق الضبط في المجتمع المصري.
كسر الانترنت هذا الحاجز بعد أن تحول إلي مجال جديد لا تصل إليه يد البيروقراطية، يسبح فيه الشخص بلا حدود، ويعبر فيه عن قناعاته مباشرة، من خلاله يتواصل مع غيره، ويعبر به عن مكنون صدره. يجد قطاع كبير من الشباب في الانترنت هوية جديدة له. يحمل له –أولا- لغة جديدة في التواصل مع الرفاق والأصدقاء عبر القوميات والبلدان لا تحدها قيود السياسة أو محرمات الثقافة. وثانيا يوفر له إمكانية اختيار وتشكيل هويته بنفسه، وفق خياراته وقناعاته. هوية تجعله متميزا، يطورها بعيدا عن أعين الرقابة التقليدية التي تحاصر الشاب، ويري في خروجه عن النص تعبيرا عن هويته الجديدة، تماما مثل المراهق الذي يود أن يؤكد بالتصرف “الملفت” أنه تجاوز مرحلة الطفولة. وثالثا تحمل له قيما جديدة هي الحرية (في البحث عن كل شيء) والمساواة (في فرص التجول والعبور في المواقع) والتواصل (تنوع مساحات الالتقاء بين مرتادي الانترنت)، لا يجد فيها الشباب أثرا للتمييز الذي يجده في الواقع علي أساس من اللون أو العرق أو الدين أو الوضع الطبقي أو المكانة…..الخ. ورابعا يحمل الانترنت له أشكالا من المشاركة ربما لا يجدها في واقعه اليومي. العديد من المواقع توفر للشباب فرصا للنقاش والجدل وإبداء الرأي في مناخ من الحرية لا تتسع له غرف المؤتمرات وبرامج التلفزيون وقاعات الدرس. يعلق الشباب بسخرية علي كل ما يقرأ، ويطالع، يتحدث ويشتبك في عالم متخيل وليس في واقع معاش. وخامسا يقدم له الانترنت أسلوبا جديدا في التواصل يتخطى حواجز الزمن والمكان. يملك الشاب مستخدم الانترنت تأشيرة دخول دائمة إلي عوالم متنوعة مختلفة، ويشعره هذا الفضاء الكوني المفتوح الرحب المتسع بأن هويته الكونية أفضل من هويته المحلية الضيقة الاستبعادية.
المشكلة الحقيقية في هوية الانترنت تتمثل في اختزال الكيان الإنساني في حوار عبر الشاشة لا يعرف الالتحام أو الاشتباك مع الواقع، ورويدا رويدا يصبح الشاب في حالة استغناء عن المجتمع، ويلتقي عبر مونولوج ذاتي مع الشاشة الصماء.
ما يكتبه هؤلاء الشباب- بالتأكيد- من مدونات يمثل إساءة لكل الرموز التي باسمها صمتوا سنوات طويلة، يريدون أن يرسلوا شحنا من الغضب إلي المجتمع من خلال إهانة الرموز، كل الرموز دينية كانت أو سياسية، ولكنهم يستمتعون بمساحة حرية اقتنصوها لأنفسهم. وبالتالي ليس من العدل الاكتفاء بأي من الأوصاف الثلاثة لنعت هذه المدونات. هي ليست مدونات إساءة فقط، أو غضب فقط، أو حرية فقط. هي كل ذلك. وإذا أراد المجتمع أن يكتفي بالوصف الأخير، أي تصبح مدونات حرية، وأن يزيل منها كل إساءة، ويفرغها من شحن الغضب التي تنضح بها، عليه أن يسمح بالبوح، بالكلام. الكلمة تناقش بالكلمة، والرأي بالرأي، وتصبح مساحة التعبير في المجتمع من السعة بحيث تستوعب مساحة التفكير. أعرف أن القضية صعبة لكن لا غني عنها.
* القاهرة