يقال أن المدن مثل البشر، تكبر و تتقدم في السن وتتبدل معالمها وتتغير خرائط وجوهها، وقد تفنى و تزول نهائيا أو تتحول إلى جثة هامدة تئن من الفوضى والازدحام وسؤ التخطيط وعجز الخدمات وتهالك المنشآت و فساد الهواء، على نحو ما حدث لمدن عربية و شرقية كبيرة من تلك التي كانت ذات يوم ملء السمع والأبصار و مصدر الإلهام والإبداع ومقصد الرحالة والوجهاء بسبب أسبقيتها إلى التمدن و التحضر و التنمية و التخطيط العمراني و عصرنة الخدمات و توفير وسائل الراحة و الترفيه و نشر ثقافة النظام و الانضباط ، فتحولت تدريجيا تحت ضغط الهجرات من الأرياف و تخبط التعليم و سؤ الإدارة و انتشار الفساد و سيادة النزعات التقليدية والأفكار البالية إلى مجتمعات موبوءة بألف داء و داء.
غير أن مدنا كثيرة أثبتت أنها قادرة دوما على تجديد شبابها و نضارتها من وقت إلى آخر، بفعل ديناميكية مجتمعاتها و خطط حكوماتها المحلية أو المركزية المحكمة و استيعابها السريع لكل جديد و مثير و حديث في عالم التخطيط و التعمير و الهندسة و الخدمات. بل أنها أخرجت من رحمها مدنا وحواضر جديدة لا تقل روعة و جمالا و صحة عنها. مثل هذه المدن يمكن العثور عليها بسهولة في الشرق الأقصى، حيث الحياة تتبدل و تتطور كل يوم مع تطور و ديناميكية المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي و الاجتماعي، و معها تتجدد معالم المدن و تتوسع الحواضر وتقام المنشآت الحديثة وتتشكل مجتمعات حضرية جديدة على أنقاض مجتمعات ريفية بائسة أو فوق أراض قاحلة مهجورة.
ومناسبة هذا الحديث هي بحث شيق و غني بالمعلومات و التجارب نشره قبل فترة أحد الزملاء الآسيويين، وتناول فيه بحكم تخصصه الأكاديمي في التنمية الحضرية و اهتماماته بالتخطيط والفنون المعمارية قصة عدد من المدن الكبيرة المعروفة في الشرق الأقصى إضافة إلى عدد من المدن و المستوطنات الجديدة الآخذه في التمدد و النمو، و لاسيما في الصين و الهند و اليابان وكوريا الجنوبية و تايوان و ماليزيا.
وبحسب الباحث فان أكثر ما يشد الأنظار اليوم في تلك البلدان هو خطط التنمية الحضرية و ما يرافقها من أعمال الإنشاءات الضخمة لاستبدال القديم و الرث بالحديث و المتطور أو لإقامة الجديد غير المسبوق أو لإيجاد الحلول السريعة للاختناقات و الضغوط الخدمية و البيئية. و يضيف قائلا أن هذه العملية لئن كان عمادها الأفكار و الرؤى الذاتية و المنطلقات المحلية فإنها أيضا نتاج تواصل وتبادل للتجارب و الأفكار و الفنون مع الآخر، و لاسيما في المجتمعات الغربية الأسبق إلى هذه الأمور و الأكثر تقدما في تلك المجالات. بل هي في المحصلة النهائية احد ظواهر العولمة التي فتحت الأبواب على مصراعيها للاستفادة والتسابق و التنافس في كل الميادين، بحيث صار المخطط أو المهندس المعماري الصيني مثلا ملما بتفاصيل ما سبقه إليه زميله الغربي إلماما يتيح له تصميم ناطحة سحاب خلال ثلاثة أو أربعة أيام. و غني عن القول أن ظاهرة العولمة و تسارعها منذ تسعينات القرن الماضي، صحبتها تطورات ساعدت الآسيويين على مثل هذه الأمور مثل الإعلام الجماهيري الالكتروني و صناعة الاتصالات و المعلوماتية. هذا فضلا عن البيئة المهيئة، و هي بيئة تتميز بشحذ الأفكار من أي مصدر دون حساسية أو توجس أو كراهية، و يسودها الاقتصاد الحر و مبدأ المنافسة، و يسعى أفرادها و جماعاتها إلى كسب أو تعزيز مكاسبهم لجهة الحريات والحقوق و الدمقرطة
و الحقيقة هي أن أكثر من ربع سكان العالم يتسابقون اليوم ليكونوا من سكان حواضر حديثة وراقية مع مستويات دخول تؤهلهم ليكونوا ضمن الطبقة الوسطى. و من المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة تحول المزيد من هؤلاء، ولا سيما في آسيا، إلى العيش في المدن الكبيرة أو الحواضر الجديدة بحيث لا ينتصف القرن الحالي إلا و نحو 60 بالمئة من سكان العالم يعيشون في المدن. و من الحقائق الدالة على هذه الظاهرة أنه من بين 23 مدينة ضخمة في العالم من تلك التي يزيد عدد سكانها على 15 مليون نسمة، يوجد 15 منها اليوم في آسيا. و من الحقائق الأخرى أن المدن التي تشكلت أو تتشكل حاليا حول الممر السريع الموصل ما بين طوكيو و اوساكا اليابانيتين ينتظر لها أن تستوعب أكثر من 50 مليون نسمة من سكان هذه البلاد، أي اقل بقليل من نصف عددهم الإجمالي.
و بما أن للظواهر إيجابياتها و سلبياتها، فان ظاهرة تمدد المدن القائمة و تحديثها وتطوير معالمها، أو ظاهرة نشؤ مدن و حواضر عصرية جديدة، في آسيا تحمل معها بعض التحديات التي يأتي على رأسها تدمير البيئة. و هذه مشكلة خطيرة ذات كلفة عالية، خاصة إذا ما علمنا أن آسيا فقدت خلال السنوات الثلاثين الماضية أكثر من نصف غاباتها و مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ليس فقط بسبب تمدد المدن و سياسات التنمية الحضرية، و إنما أيضا بسبب النمو الصناعي.
ولهذا السبب لم يكن غريبا أن يتبنى بعض المعنيين بأمور تخطيط المدن و معهم الجماعات المنافحة عن البيئة في الشرق الأقصى فكرة العودة إلى مبدأ “فينغ شوي”، خاصة و أن إيجاد علاقة متناغمة ما بين الإنسان و الطبيعة ظلت على الدوام جزءا من التقاليد و الثقافة الآسيوية. والترجمة الحرفية لهذا المبدأ هي “الهواء والماء” فيما المعنى المقصود هو عدم التلاعب بهذين العنصرين في سعي الإنسان إلى التحديث و التطوير و البناء و التقدم. و يسعى متبنو هذه الفكرة إلى بناء ثقافة عمرانية و تخطيطية جديدة ترفد ما يسمونه ب “المدن الآسيوية” أي مدن وحواضر لها سمات و معالم و ظروف خاصة تميزها عن بقية المدن في العالم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل توجد مثل هذه المدن أو هل يمكن خلقها في ضؤ التفاوت الكبير ما بين الدول الآسيوية نفسها لجهة السمات الجغرافية و الطبيعية و السكانية و الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية، بل في ضؤ اختلاف الآسيويين على هوية جماعية موحدة؟ الجواب يمكن استنباطه من ردود أفعال فعاليات اقتصادية و ثقافية آسيوية كثيرة من تلك التي رأت في هذه الأفكار محاولة للعودة إلى الوراء و إعاقة مسيرة النهضة و التقدم و الحداثة الجارية، و إن اتفقوا على ضرورة إيجاد حلول واقعية و مرنة للمحافظة على البيئة الخضراء، و أخرى لمواجهة أهم المشكلات الناجمة عن النمو الاقتصادي الهائل، ألا و هي الازدحام المروري في المدن الكبيرة، والذي يتسبب في مشاكل و اضطرابات نفسية تحول دون التفكير و الإنتاج كما يجب، و يعطل المصالح، ويحد من التواصل و الاستمتاع بأوقات الفراغ. و يكفي أن نعلم على سبيل المثال اللاحصري أن سرعة المركبات في مدن آسيوية عديدة انخفضت لتصبح مساوية لسرعة سير الأفراد كما في بانكوك أو شنغهاي، بل حتى في ما يعرف بالمناطق الاقتصادية الخاصة في الصين مثل “شينزين”.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh