لا شيء أشد تعبيرا عن الهوة التي باتت تفصل بين فهمين متعارضين ومنطقين متناقضين في مقاربة العنصرية، من مشهد مغادرة مندوبي دول المجموعة الأوروبية قاعة الاجتماعات الكبرى في قصر المؤتمرات في جنيف أثناء إلقاء الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد خطابه في مؤتمر ديربان الثاني لمناهضة العنصرية الذي انعقد أخيراً بدعوة من منظمة الأمم المتحدة.
فهمان متعارضان ومتناقضان، يتفقان فقط على أن العنصرية كممارسة مدانة ومرفوضة ويجب محاربتها، ويختلفان في كل ما عدا ذلك: سواء لجهة تعريف العنصرية، أو لجهة المسؤولية عنها، أو لجهة الممارسات التي تدخل في إطارها، أو لجهة وسائل وطرق محاربتها، أو لجهة ضرورة التعويض عن ضحاياها.
هو حوار الطرشان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يتهم أحد الطرفين الطرف الآخر بالهيمنة الكولونيالية والاستعمار وشن حروب الإبادة المدمرة ومعاداة الإسلام واضطهاد المهاجرين وشتم الأديان واستنفاد موارد العالم الثالث، فيرد عليه الطرف الآخر متهما إياه بمعاداة السامية واضطهاد الأقليات الدينية والعرقية والجنسية وبغياب الديموقراطية وإلغاء حرية الرأي والتفكير وبانتهاك حقوق الإنسان وعدم احترام حقوق المرأة والطفل.
إنه بامتياز مؤتمر عالمي برعاية الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية، يكون الخاسر الأول والأخير فيه هو القضية الفلسطينية. فهذه القضية التي غاب ممثلوها الحقيقيون وتقاعس مندوب السلطة الوطنية الفلسطينية عن لعب دوره المفترض في مؤتمر كهذا، لم تجد في النهاية مدافعا عنها أسوأ من الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. كما أنها، وكالعادة، لم تلقَ من الغرب إلا المعايير المزدوجة والوقوف صفا واحدا في الدفاع عن إسرائيل والصهيونية ضد تهمة العنصرية. والنتيجة النهائية للمؤتمر كانت الغياب الكامل للقضية الفلسطينية عن نص البيان الختامي الصادر عن المؤتمر، بعد أن حضرت هذه القضية بقوة في نص بيان مؤتمر ديربان الأول في العام 2001.
لقد أشار العديد من الكتاب والمعلقين بحق إلى سوء النية وانعدام الأمانة والتهويش الإعلامي التي ميزت ردود فعل ممثلي الدول الأوروبية والإعلام الغربي بخصوص كلمة الرئيس الإيراني، كون الأخير في خطبته في مؤتمر جنيف تجنب على غير عادته أن يتفوه بالعبارات المعادية للسامية والمشككة بالمحرقة والمتوعدة لإسرائيل بالزوال. وأشار هؤلاء إلى أن نجاد أورد الكثير من الوقائع التاريخية التي لا يطيب لممثلي الدول الغربية سماعها لأنها تذكرهم بمسؤولية دولهم عمّا حل بالشعب الفلسطيني من اضطهاد واقتلاع وتشريد على يد المهاجرين الصهاينة المدعومين غربياً.
لكن ما تناساه هؤلاء الكتاب والمعلقون، هو أنه بات من غير المجدي التوقف فقط عند مضمون خطبة محمود أحمدي نجاد الأخيرة في جنيف، بمعزل عن سياق خطاباته السابقة وما يرمز له هذا الرجل في نظر قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي. نعم لقد تعامل القادة ووسائل الإعلام الغربيون بسوء نية واضحة مع خطبة محمود أحمد نجاد في جنيف، لكن الأخير بمواقفه الاستعراضية وصدقيته المفقودة سهّل عليهم هذه المهمة وقدّم لهم لائحة الاتهام على طبق من فضة. فالرئيس الإيراني لم يترك فرصة منذ تبوئه سدة الرئاسة إلا واستغلها في إقحام القضية الفلسطينية في بازار التشكيك بالمحرقة والتقليل من أرقام الضحايا والإيغال في معاداة السامية. وكأن الدفاع عن أحقية هذه القضية والنضال في سبيل رفع الضيم عن الشعب الفلسطيني وإعادة حقوقه المهضومة والتأكيد على حقه المشروع في المقاومة، لا يتم إلا من خلال تقليل عدد ضحايا الهولوكوست أو التشكيك بوجود غرف الغاز أو الاسترسال في خطاب معاداة السامية!
تُرى ألم يحن الوقت بعد، لكي ندرك مدى الخسارة الأخلاقية التي تتعرض لها القضية الفلسطينية في كل مرة يجري إقحامها في الجدال حول بشاعة الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون بحق أبناء جلدتهم من الديانة اليهودية؟! نعم لقد دفع الفلسطينيون بشكل غير مباشر ثمن الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، لكن استنادا إلى هذه الواقعة، ماذا يغير في عدالة القضية الفلسطينية وحقوق شعبها المشروعة إذا وجدت غرف الغاز أو لم توجد؟ ماذا تكسب القضية الفلسطينية إذا زاد عدد ضحايا الهولوكوست مليونا أو نقصوا مليونين؟ وماذا يفيدنا أن نزاوج القضية الفلسطينية مع تراث أوروبي مديد وقميء في معاداة السامية؟
ترى أليس من الأجدى في هذا السياق أن نركز على أن الفلسطينيين هم اليوم من يدفع ثمن جرائم الهولوكوست وغرف الغاز، وأنهم اليوم ضحايا لمعاداة السامية الأوروبية بمعنى أنهم من يدفع من أرضهم وحريتهم، بالنيابة عن الأوروبيين، التعويض الذي ارتآه هؤلاء تكفيراً عن الجرائم التي ارتكبوها بحق اليهود؟ وهم في جانب آخر من يدفع إلى يوم هذا من دمه لأن عقدة الذنب الأوروبية لا تزال تعرقل ممارسة أي ضغط جدي على إسرائيل لمنعها من الإيغال في جرائمها.
من هنا، يصبح من الضروري التأكيد على أننا في مكان ما ضحايا من كانوا ضحايا، ويغدو من اللازم تصحيح الطريقة العوجاء التي تستخدم بها عقدة الذنب الأوروبية لمصلحة إسرائيل. أما أن ننكر المحرقة ونتماهى مع خطاب معاداة السامية فهذا أمر مختلف تماما، وعواقبه وخيمة، على القضية الفلسطينية أولاً وأخيراً.
ضمن هذا السياق يكاد يكون أحمدي نجاد بمثابة هدية من السماء لإسرائيل، فهو في كل مرة يشن هجومه عليها، ينالها من العطف والتأييد أكثر بكثير مما يناله خطاب أحمدي نجاد من آذان صاغية في العالم قاطبة. لا بل إن هذا الخطاب وصاحبه يشكلان خير ستارة تداري فيها إسرائيل ممارساتها العنصرية وجرائمها البشعة. فبدلا من أن يصب النقاش حول الممارسات العنصرية للدولة العبرية، ينزاح النقاش بفضل تدخل أحمدي نجاد الاستعراضي وبسبب سوء النية الغربية المتناغمة معه، لنصبح أمام إشكالية جديدة عنوانها كيفية الدفاع عن إسرائيل ووجودها في مواجهة معاداة السامية الجديدة التي تحمل لوائها دونكيشوتية محمود أحمدي نجاد!
طبعا لا أحد يشكك هنا في طبيعة الدولة العبرية، فهي بالتأكيد دولة عنصرية استيطانية قامت على سلب أرض شعب آخر وتشريده في المنافي وإخضاع القسم المتبقي منه للحكم العسكري المباشر وجعل أفراده مواطنين من الدرجة الثانية في أرضهم. وهي دولة لا تزال قائمة على التوسع والاحتلال ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والعقاب الجماعي بحق السكان المدنيين. كما أنها دولة عنصرية بامتياز كونها تميّز بين اليهود وغير اليهود من مواطنيها وتسمح لأي يهودي في العالم أن يأتي إليها وينال جنسيتها مباشرة، في الوقت الذي تحرم فيه ملايين الفلسطينيين اللاجئين في دول الجوار من العودة إلى ديارهم، وتحرم أسر فلسطينيي الـ48 من الحق في لمّ الشمل ومن حق الزوجين في الحياة المشتركة.
إسرائيل كل هذا وأكثر من ذلك بكثير، لكن دورنا هنا هو أن نكون قادرين على تعرية هذه الجوانب البشعة أمام أعين العالم أجمع، وأن نبين المسؤولية الغربية في التعمية عليها وأن نوظف كل ذلك في كسب المزيد من قطاعات الرأي العام العالمي عموما، والغربي خصوصا، والذي من دونه لا مجال لمحاصرة إسرائيل ولا أمل في كسر حالة التعاطف والتماهي الواسعة التي لا تزال إسرائيل قادرة على حشدها كلما دعت الحاجة. والأكيد هنا أنه ليس بمثل محمود أحمدي نجاد وخطابه الشعوبي يمكن لنا نفضح ونشهر بإسرائيل على الصعيد الدولي، لا بل إن أفضل خدمة تقدم لإسرائيل هي في جعل قادة من أمثال محمود أحمدي نجاد ناطقين باسم القضية الفلسطينية
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري