محمد البرادعي، الخبير المصري القانوني للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الحائز على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الوكالة نفسها، والمقيم في الغرب منذ ربع قرن، عاد أخيرا الى بلاده متقاعداً، محمّلا بأثقال من الآمال لم يكن يتوقعها لسنوات التقاعد. آلاف انتظروا ساعات لإستقباله في مطار القاهرة، غير مكترثين بالحملة الاعلامية الرسمية ضد الرجل ولا لتحذيرات الشرطة ومضايقاتها الانتقائية. ذهبوا الى المطار بمشاعر فائضة من الأمل بأن يكون العائد رئيسهم المقبل؛ بديل الوريث الذي تنْذر طلائعه بمزيد من المشكلات. فوجئوا بأنفسهم، وفاجأوا غيرهم بحماستهم ودموعهم، وهم يغنّون النشيد الوطني المصري ويقنعون من لم يشاركهم باحتمال إنفتاح الطُرق المسدودة… أخيرا عن مصر وشعبها.
الكلمات التي وصفت استقبال البرادعي بالغت في التقدير. أحد الكتاب، من الكبار، قارن بين استقبال البرادعي في القاهرة واستقبال سعد زغلول في الاسكندرية عام 1921. والآخر شبّه بين هذه «اللحظة الفارقة»، لحظة الاستقبال، وبين «المرحلة التي سبقت ثورة 1952»، فيما الأخير اعتبر الآلاف الذين شاركوا «في هذا الحشد الرائع» هم مندوبون عن «ملايين من المصريين»، وقد تجلّت فيه «الشعبية الحقيقية» للبرادعي «التي يتزايد تأثيرها كل يوم». وثمة من «تعقّل» أكثر من غيره فحاول ادخال البرادعي في آلة العمل «الميداني» واعتبر ان المنتظر منه الآن هو «أن يكون إضافة داعمة لتوحيد القوى الديمقراطية في جبهة واحدة، وان توجه قبضتها في اتجاه الازاحة السلمية لهذا النظام».
اللحظة منعشة من دون شك، تحيي المخيلة السياسية وتطلق بعض الآمال المدفونة في بحر التقهقر اليومي لأوجه الحياة في مصر. انها ديناميكة خارجة عن الاطر المعهودة تضخّ حياةً في الركود والاستكانة. وهي، بعيدا عن الحماسة، تطرح اسئلة جديدة قديمة:
الفضيلة السياسية التي يشيد بها كل المتحمسين للبرادعي هي «برانيته»: انه من الخارج. وليس أي خارج، انه الغرب المتقدم والقوي. عاش ربع قرن في هذا الخارج، عمل فيه، في أعلى مواقعه، وحصل منه على الاعتراف والجوائز. وكانت له فوق ذلك معارك مشرّفة مع الاميركيين والاسرائيليين. يقول أحد الكتاب، من الكبار أيضا، ان ميزة البرادعي: «أن يكون مصريا بريئا مما تحفل به الساحة السياسية المصرية من أمراض وبائية الطابع، سواء من جانب نظام الحكم ورجاله، أو من جانب ما يُعرف بالمعارضة». ويضيف آخر ان رئاسة هيئة «عالمية خطيرة مثل هيئة الطاقة الذرية» تجعل من البرادعي شخصا «حقّق ذاته»، ولا مكان عنده لشهوة البطشْ.
كما في الأدب والسينما، كذلك في السياسة: قيمة العمل أو الشخص لا تكرّس الا اذا أتت من الاعتراف الخارجي الدولي به، الغربي بصورة حصرية. هذه الصفة «البرانية» للاعتراف، والمتعايشة مع العداء الثقافي والسياسي للغرب هي حالة تناقض من نوع خاص: تناقضٌ يفقر الفكر، ويضعف معنى «الجماهيرية» التي يود المتحمسون للبرادعي ان تلصق به. حالة تناقض عقيم أيضا. لا تفاعل فيها مع وقائع الارض الا من عيون وضعت نظارات القيمة الخارجية؛ فيهمش هذا الواقع لصالح تصورات معينة. انها العنصرية الذاتية التي تسخّف كل ما يطلع من ابنائها، وتحطّ من قيمته.
النقطة الاخرى: هل يكون الحل لمعضلات مصر المتراكمة هو تغيير رأس السلطة فحسب؟ الإجابة هنا مزدوجة. يفهم المرء ان يكون الجواب بنعم، لأسباب تتعلق بمصر نفسها، وبلحظتها السياسية الراهنة. ففي مصر يتغير الرئيس، ويكون عهد جديد، تتغير فيه ملامح مصر. العهود الاخيرة المعاصرة كانت كذلك: ناصر ثم السادات ثم مبارك. لكلٍ سماته الخاصة وطابعه الخاص. ان يتغير الرئيس، فذلك يُعتبر حدثاً تدشينياً في مصر. ثم ان مصر الآن في غاية القلق على مستقبلها المنظور. فالرئيس (81 عاما) يمكن أن يرحل في أية لحظة، مع تراكم أمراضه. والأفق المتوقّع غامض وملتبس. فالرئيس لم يعين نائبا له، على غرار ما فعل عبد الناصر بتعيين السادات والسادات بتعيينه. وقد رتَب القانون والحزب الحاكم بحيث يعتلي نجله الحكم بعد رحيله. وهذا الاخير أقام شبكة أمان حزبية ومالية، «حرسه الجديد»، لا ينافسه على قوته الضاربة، أو ربما لا يتشارك معه، غير رئيس جهاز المخابرات عمر سليمان وتنظيم «الاخوان المسلمين». التوريث مرفوض في مصر، رفضا شبه غريزي: هل يكون المصريون قد تكبّدوا كل تبعات ثورة الضباط الاحرار وعهودها المتوالية ليعودوا الى نقطة الصفر؟ الى الملكية الوراثية؟ يُفهم من هنا هذا التعلّق الخلاصي بخشبة محمد البرادعي. لكن هذا لا يجعل التغيير في رأس السلطة بداية لتغيير عميق بالضرورة. فمصر التي لا تتوقف عن التراجع، ما زالت ايضا تقلّب مواجعها الموروثة عن ثورة الضباط الاحرار وعن الحكم الملكي السابق عليها، وربما عن حكم السلاطين والفراعنة. والخيط الرفيع الذي يضبط هذه المواجع، على اختلاف أوجهها، هو التسلّط والاستبداد. ليس في القمة فحسب، بل في القاعدة ايضا، أو بالأحرى في القواعد جميعها.
أيضا سؤال آخر: هل تصنع ادارة وكالة دولية خطيرة مرشحا جديرا بالرئاسة؟ نعم، ولا كذلك. الرؤساء في العوالم غير المستقرة يأتون من أي مكان: ليس فقط من الاحزاب أو العسكر. الولايات المتحدة الاميركية نفسها أتت برئيس كان ممثلا درجة ثانية في هوليوود: رونالد ريغان، الذي امتدّ عهده لدورتين وترَك أثراً واضحا في الاقتصاد الاميركي وغير الاميركي. لكن ريغان كان مدعوما من مؤسسات جبارة ومستشارين ورأي عام يُجّس نبضه بين اليوم والآخر. فيما المؤسسات في مصر معطّلة أو فاسدة أو مصادَرة، ومجرد إعادة إحيائها ضرب من ضروب الثورة.
وضع البرادعي شروطا للقبول بالترشح للانتخابات، بالاضافة الى شيء من برنامجه وتصوراته. هذه الشروط والتصورات تتلخص في: تعديل قانون انتخاب الرئيس ومواده (76، 77، 88) المكرّسة للتوريث، إشراف القضاء والمجتمع المحلي والدولي على الانتخابات، إنهاء حال الطوارئ، توفير فرص متكافئة لوسائل إعلام جميع المرشحين في الانتخابات. هذا البرنامج لا يختلف عن برنامج أي حزب أو تكتّل معارض، بل ما تكتبه أقلام موالية للحكم، تنطوي على بعضه. لكن تحقيق هذه الشروط والبرنامج من باب الطوباوية ايضا. ويُظهر بأن المتحمسين للبرادعي ربما لا يكونون بصدد انتخابات بقدر ما هم بصدد سجال يعيق التوريث أو ينزع عنه الشرعية المطلوبة. واذا كان هذا هو موقفهم بالفعل، فعليهم التخفيف من حماستهم، والإمساك عن التعظيم، الأب الشرعي للتسلّط، ثم الشروع في حملة نقاش واسعة، بل سجال، لعلّهم يفتحون أفقاً سياسية أكثر رحابة من تلك التي تحجب عنهم رؤيتهم للمستقبل القريب.
سمي البرادعي «المرشح الافتراضي للرئاسة»، لأن الذين بادروا ونظموا ورحّبوا وأشاعوا هم عشرات الآلاف من الشباب المنكبين على قضايا بلادهم بواسطة «الفايس بوك» وشبكات الانترنت الاخرى. انه نشاط معوْلم يضع المصريين في خريطة من يستعينون بالافتراض ضد التلسط والاستبداد والتوريث. وينطوي ذلك على جهد يحتاج الى التقدير والتطوير. وأولى الابواب للتطوير هي ترجمة الافتراض الى واقع؛ أي نزول الشباب من المخيلة الافتراضية الى المخّيلة الواقعية. وهذه أيضا من حسنات استقبال البرادعي… انها طرحت على الشباب المتعلم المتعوْلم مسؤوليات هي من صلب السياسة في مصر، بعدما عزفوا عنها طويلا.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت