أثارت محاضرة الأنبا توماس أمام معهد هدسون (١٨ يوليو) عددا من ردود الأفعال، تميز أقلها بالعقلانية وأكثرها بالتشنج العصابي، أو بعدائية وعدوانية غير مبررة وغير مفهومة ـ أو بالأحرى مفهومة إذا أخذنا في الاعتبار أن المحاضرة (بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها) قد اقتربت أكثر من اللازم من بعض التابوهات المحظورة.
وقبل أن نناقش الموضوع بالتفصيل، هناك مجموعة من الملاحظات أولية:
١- لا يمكن لأحد إعادة عجلة التاريخ للوراء أو صنعه أو تشكيله من جديد؛ فما حدث قد حدث. وما نحن فيه هو نتيجة للماضي بحلوه ومره، بانتصاراته وهزائمه، بعرقه ودمائه، بزهوره وأشواكه. كما لا يمكن اتهام الأحفاد وأخذهم بجريرة أجدادهم. وإذا أخذنا بالأسلوب “الجيولوجي” فالتاريخ طبقات متتالية متراكمة تستند الواحدة للأخرى ولا تلغيها أو تنفيها.
٢ـ التاريخ عند الشعوب الناضجة ليس مجال تقديس، بل يخضع لعملية مستمرة من البحث: أولا لتدقيق الأحداث بناء على مصادر ومعلومات جديدة أو لغربلة ومقابلة ما هو معروف طبقا لدرجة الثقة؛ وثانيا لإعادة تحليل المادة التاريخية من زوايا مختلفة. والهدف ليس فقط فهم الماضي من منطلق بحثي أكاديمي، بل معرفة أثره على الحاضر والمستقبل. ولا مانع إطلاقا من الاعتراف بأخطاء الأقدمين وجرائمهم بل والاعتذار عنها؛ ليس فقط لتطهير الضمير الجمعي بل، وهو الأهم، إعلان العزم على عدم التكرار!
أما عندنا فللأسف لم نصل بعد إلي الحد الأدنى الذي يسمح لنا بالتعامل مع التاريخ بهذه الطريقة، فهو ملئ ليس فقط بالأساطير والأكاذيب بل بالأوثان التي يتحتم عبادتها والتبخير لها؛ والويل الويل لمن يقترب منها متسائلا. أما ثقافة الاعتراف فهي غريبة عن حضارتنا التي لا تعرف للفخر والهجاء بديلا.
٣ـ لعل جزءا كبيرا من ردود الأفعال للمحاضرة المذكورة يرجع لكون المتحدث أسقفا. وبغض النظر عما في ذلك من تغيير للصورة النمطية لدور رجل الدين (الوعظ وتقبيل اللحى أثناء موائد “الوحدة الوطنية”)، فإنها ترتبط، باللاوعي، بفهموم “قداسة التاريخ” حيث تزداد درجة القداسة مع صفة ومقام المتحدث، ولذا يؤخذ على الأسقف مجرد الكلام في موضوعات معينة خشية أن يعني ذلك صعود وجهة نظر “مقدسة” جديدة في مقابل التاريخ المقدس الحالي.
٤ـ كثير من ردود الأفعال للمحاضرة تدل قدر كبير من “انعدام المعرفة” فيما يتعلق بمعلومات مبدئية إن لم تكن بدائية خاصة بتاريخ مصر، وهو يرجع إلى الأسلوب التزويري الذي يقدم به إعلاميا وتعليميا ويدرس لأطفالنا في المدارس. ومن ناحية أخرى، فإن الكثير من مقولات الأسقف لا يمكن فهمها إلا في سياق اعتبارها ردودا على معلومات شائعة وخاطئة ـ بل أحيانا متعمدة الخطأ باعتبارها جزءا من منظومة من الكذب المتكامل التي لا يُسمح فيها بمناقشة أو تحدي إحدى جزئياتها خشية انهيار البنية كلها.
٥ـ قضية التمييز الديني في مصر ليست منبتة الصلة بالتاريخ، بل إن العكس أصح لأن التمييز لم يهبط علينا من كوكب آخر وهو ليس من فعل الجان والشياطين أو مجرد ممارسات بعض “ذوي النفوس الضعيفة”، ولا حتى مجرد نتيجة مجموعة من القوانين السخيفة التي تحتاج لتعديل؛ بل له جذور عقائدية وتاريخية وثقافية تغذيه لدى الحكام والمحكومين، المتعلمين والجهلة؛ وهي تبرر له، هذا إن لم تجعله يبدو طبيعيا تماما بل حتميا. ولعل المقاومة التي تتعرض لها مبادرات مقاومة التمييز الديني أكبر دليل على عمق المشكلة وأهمية التعرض لها من كافة جوانبها وتطهير قروحها وتجفيف منابعها.
ونضيف أن توكيد المساواة في المواطنة والقضاء على التمييز ليس منحة ولا منة من أحد، والذين يساندون هذه القضية ـ مشكورين ـ لا يفعلون ذلك (ولا يجب) حبا في سواد عيون الأقباط، بل سعيا لكي تتخلص مصر من هذا العار المشين الذي مازالت تتمسك به في وسط عالم القرن الحادي والعشرين الذي يعلي الإنسان وحقوقه وقيمه. وإذا كانت هناك رغبة في تحسين مستقبل (وصورة!) مصر فلن يحدث هذا إلا بعد نفض قيم التخلف، وعلى رأسها التمييز وخلط الدين بالدولة.
٦ـ وصف معهد هدسون بأنه “مؤسسة معروفة بانحيازها لإسرائيل وعدائها لكل من هو عربي أو يتحدث العربية” هو، في أقل القليل، كلام يفتقر إلي الحد الأدنى من المصداقية، أو ربما كان إسقاطا مبنيا على الطريقة التي تدار بها معاهد “البحوث” عندنا حيث دورها غالبا هو تبرير ما نفعل وشجب وتفنيد ما لا نحب. فالمعهد المذكور مؤسسة محترمة بالمقاييس العالمية، ولم يسمع أحد بعدائه “لكل من يتحدث بالعربية” (!!)، وبه ما لا يقل عن ٤٦ مجالا بحثيا يهتم بها؛ من البيئة إلى حقوق الإنسان ومن الدراسات الكورية إلى أوروبا، ومن الاقتصاد العالمي إلي التكنولوجيا البيولوجية. ولا يحتل الشرق الأوسط بأكمله إلا عنوانا واحدا منها. فهل أصبح تمحورنا الذاتي يلاحقنا في كل شيء؛ وما لم يشاركنا الآخرون التبخير لقضايانا، فهم أعداء ومتحيزون ضدنا؟
***
والآن إلى بعض القضايا المثارة، بدءا بمن هم القبط؟
يؤخذ على الأسقف أنه استهل محاضرته بتعريف معنى كلمة “قبط”. ومثلا يقول الصديق الفاضل د. منير مجاهد (…) أن اسم ‘إجيبتوس’ هو الاسم اليوناني لمصر ولم تكن مصر دائما تدعى ‘إجيبتوس’ كما قال نيافته، ويعتقد البعض أن هذا الاسم تحريف للاسم الذي عرف به المصريون موطنهم في اللغة المصرية القديمة وهو “كِمِت” (…). ويضيف، فيما يبدو ـ لشديد الأسف ـ كمحاولة للتفتيش في الضمائر: والسؤال هنا لماذا تجاهل الأسقف تاريخ مصر واسمها الذي استمر لآلاف السنين وانطلق من الاسم اليوناني باعتباره الاسم الذي كانت تعرف به مصر دائما؟ أظن أن السبب هو محاولة إيجاد أرضية مشتركة مع المستمعين المنحدرين من الحضارة الأوروبية والذين يعتبرون أنفسهم امتداد للحضارتين اليونانية والرومانية وكلاهما لم يعرف مصر إلا باعتباره إجيبتوس.
والصحيح أن المصريين عرفوا بلادهم باسم “كيميت” أثناء المملكة القديمة، ثم أصبحوا يشيرون إليها بــ “هت ـ كا ـ بتاح”، أي “بيت (معبد) ـ روح ـ بتاح”، حيث “بتاح” هو رب الخلق، ورب كل الصناعات والفنون والمعبود الرئيسي في منف. ومع مجئ الإغريق، تحور الإسم إلى “هيجيبتوس” ثم “آيجبتوس” (Aigyptus) الذي أصبحت معروفة به في كل مكان في العالم القديم. وقد دخل الإسم في الأساطير الإغريقية وذكره هومير في ملحمة “الأوديسا”.
ولعلنا نضيف هنا أن مصر كانت تحت الحكم الروماني “ولاية” واحدة تخضع مباشرة لروما وأحيانا للإدارة الشرقية. ولكن في سنة ٥٥٤ أي قبل قرن من الغزو العربي، غيّر الإمبراطور البيزنطي جستنيان التنظيم وقُسّمت مصر إلى ولايات أربع تحت إشراف الحاكم العام للشرق: وهي “آيجيبتوس” (أي مصر) وتشمل (غرب) الدلتا والإسكندرية، و”أغسطامنيكا” وتشمل شرقي الدلتا حتى العريش، و “أركاديا” وتشمل مصر الوسطى حتى البهنسا، و “طيبة” من الأشمونين حتى أقصى الجنوب. (وغني عن الذكر أن هذا التقسيم كان من أسباب الهزائم أمام الغزو الفارسي ثم العربي نظرا لتفتت المسئولية الخ).
علي أي حال، فمثل التحوير الذي حل بإسم مصر (آيجيبتوس) مع الإغريق، نطقته الشعوب الأخرى بصور تتفق مع صوتيات (فونيطيقيات) لغاتها. وهكذا أطلق العرب على أهل مصر “جبت” (جيم غير معطشة) أو “قبط”، وكان ذلك بلا شك قبل الغزو.
إذن، فكل ما كان الأسقف يحاول شرحه (باستخدام كلام معروف، تكرر كثيرا فيما قبل، حتى لو جهله البعض) هو توضيح أن تعبيرات “أقباط” و “قبط” (أو “كوبت” باللغات الأجنبية) تشترك مع “إيجبت” (وهو إسم مصر في اللغات الأجنبية قاطبة حتى اليابانية والصينية) في كونها من جذر واحد هو “آيجبتوس”، الذي هو من جذر مصري حقيقي يختلف عن جذر “كيميت”. ما هي المشكلة؟ وما هي دواعي القفز إلى التخوين والظنون (التي بعضها إثم) بأن الرجل يحاول إيجاد “أرضية مشتركة” مع الخواجات؟؟؟
***
وهنا يثور سؤال (تقليدي): من قال أن القبط (الأقباط) تعبيرٌ اقتصر أو يقتصر على المسيحيين المصريين؟
كان العرب بعد دخول مصر يطلقون اسم “قبط” على أهل البلاد الأصليين، آخذين في الاعتبار أن مصر كان بها في ذلك الوقت جالية يونانية، وأخرى يهودية كبيرة، وبغض النظر عن الذين اندمجوا في المصريين وأصبحوا جزءا من “القبط”. وفي “تاريخ البطاركة” الذي كتبه “ساوري” (الشهير بـ “أبي البِشر ساويرس بن المقفع”) في القرن العاشر، بناء على حوليات وروزنامات محفوظة بالأديرة، والذي حقق ونشر مخطوطاته الباحث عبد العزيز جمال الدين في ٢٠٠٦، نجد ما يطلق على المصريين. فهو يشير أحيانا إلي المسيحيين “الأرثوذوكسيين” (بالمقابلة مع “الخلقدونيين” من أتباع المذهب البيزنطي)، وفيما بعد باستخدام التعبير العربي الجديد “النصارى” الذي كان يطلق بغض النظر عن الطائفة. ومن تحولوا إلى الإسلام، كان يُطلق عليهم ببساطه “مسلمون”، حيث أن تعبير “العرب” كان حكرا على الغزاة. ويلاحظ القارئ المدقق أن تعبير “القبط” يظهر لأول مرة حوالي سنة ٧٥٠ أي بعد أكثر من قرن من الغزو، ليطلق على المسيحيين من أهل البلاد على وجه الحصر.
إذن فإنهم العرب الحكام الذين ابتدعوا هذا التخصيص وليس “القبط” أنفسهم.
أما عن عروبة القبط والمصريين أم عدمها، فقد تعرضنا للموضوع بقدر من الاستفاضة في فصل بعنوان “مصر ومشكلة العرب مع الجينات” من كتاب “الحرية في الأسر”، قلنا فيه أنه لا يشرف المصريين، كما لا يشينهم، أن يكونوا عرب العنصر. فالعنصرية، في كلتا الحالتين، دعوة مقيتة تفترض أن مجموعات بعينها من البشر تتمتع بتميز في الجينات التي تسكن خلاياها. وبالإضافة إلى فساد تلك الفكرة علميا، فالمهم هو الجينات الحضارية والثقافية (..).
ونقلنا عن جمال حمدان قوله أن المصريين القدماء شعب أصيل (autochtonous) لم يفد من مكان آخر وإن كانت قد حدثت اختلاطات، لكن مع وجود استمرارية جنسية عبر العصور ومنذ ما قبل الأسرات. وخلصنا إلى كون المصريين الحاليين هم (بغض النظر عن اختلاف الدين) من سلالة المصريين الأقدمين مع وجود قطرات من دماء عربية وسامية وقوقازية وأوروبية الخ ذابت فيها.
باختصار فالمصريون اليوم، ليسوا فقط “مصريين” قانونيا، أي كونهم ممن يحملون جنسية البلاد؛ ولكنهم، شاء البعض أم أبى، يمثلون ـ أو ينبغي ـ”سبيكة” واحدة. وبحكم التعريف فالسبيكة تتكون من أكثر من عنصر، ولكن يستحيل إعادتها لعناصرها الأولية إلا عن طريق “فصل كيميائي” (أو كهروكيميائي) ـ وهي في هذا تختلف عن “الخليط” الذي يمكن استخراج مكوناته عبر عملية “غربلة” أو فصل سهلة نسبيا.
وربما تشي ردود أفعال المحاضرة، دون قصد، بحالة من الشك العميق في الذات يعاني المصريون منها، إذ أصبحوا لا يعرفون من هم بالضبط وما هويتهم وماذا يجمعهم، وهل ما يُقرّب بين البعض منهم وبين أهل ماليزيا أكثر وأعمق وأهم مما يجمعهم بباقي مواطنيهم… فالمشكلة الحقيقية التي تواجه “السبيكة” اليوم هي هي “هويتها”؛ والأخطر من ذلك هو عمليات “الفصل الكيميائي” التي تجري بلا هوادة لتفكيك السبيكة.
***
وللحديث بقية لتناول تساؤلات أخرى عديدة….
adel.guindy@gmail.com
• كاتب مصري- باريس