تطرقت في المقال السابق إلى أهمية التعليم الليبرالي واليوم أكمل الحديث عن ضرورة غرس قيم التفكير النقدي في عقول الناشئة لتصبح أسلوب حياة تمكن الإنسان والمجتمع والدولة من صناعة المصير والمستقبل، فالتفكير النقدي يعزز مبادئ حقوق الإنسان ويزرع قيم المسؤولية الأخلاقية والإنسانية ويحرر العقل من آفة التعصب الذي ينتج الجهل المركب، أي الجهل بالجهل، ويحرِّض على العداء والكراهية والعنف الذي يلغي العقول ويشل الضمائر ويفسد الأخلاق ويجرد من الإنسانية… ولم يتخلص التاريخ العنصري من هذا المرض إلا بدواء التفكير النقدي الذي حول الطاقات الهدامة إلى طاقات حيوية إيجابية منتجة.
والفرق بين المجتمع المتعصب والمجتمع الحر أن الأول نرجسي يتوهم كماله ويعتقد أفضليته على غيره، ويتصف بالانفعالية والعاطفية والخوف، فهو لا يسمع ولا يقرأ إلا بالمسموح به لا المسكوت عنه، وهو لا يرى أمامه إلا الصحيح المطلق أو الخاطئ المطلق، حيث تصبح الكراهية والعنف غذاءه الفكري الأساسي، أما المجتمع الحر فهو مجتمع متسامح يؤمن بنسبية الحقائق ويؤمن بانتقاد الذات والمراجعة والتمحيص والتدقيق والتصحيح المستمر للآراء والأفكار والعلم.
إن ما يدعو للسخرية أننا نزهو بأنفسنا بل نفاخر بعصبياتنا ونعشق تخلفنا… وهم يتواضعون ويترفعون بالرغم من تفوقهم وازدهارهم، مطبقين ما قاله الفيلسوف اليوناني أكزينوفان في القرن السادس قبل الميلاد «إن معرفتنا مجرد ظنون أما ما يتعلق بالحقيقة النهائية، فإن الإنسان لم يعرفها بعد ولن يعرفها في المستقبل. وإنني لأعترف بأنه حتى كلامي هذا ليس حقيقة نهائية ولو أن رجلاً اكتشف عن طريق المصادفة الحقيقة النهائية لأمر من الأمور فلن يعرف ماذا اكتشف لأن جميع أعمالنا ليست إلا ظنوناً مثل نسيج العنكبوت».
فالعلم والنظريات والأفكار جميعها تخضع بكل تواضع للمساءلة الدائمة والنقد وإعادة النظر ونقد النقد، فنظرية نيوتن كانت ثورة علمية استفاد منها العالم الحضاري أيما استفادة ولايزال، وأينشتاين، مؤسس النظرية النسبية، الذي نقض نظرية نيوتن كان ثروة وثورة علمية أخرى، وحتى يأتي من ينقض فكر أينشتاين يكون المجتمع المتحضر في حالة حراك دائم… فأوروبا في العصر التنويري ورثت فلسفة اليونانيين التي دعا إليها سقراط، وهي الاعتراف بالجهل، وأن التاريخ البشري مليء بالنواقص والأخطاء التي تستدعي المراجعة والتصحيح… هذا هو منطقهم، أما نحن فلن نعرف شيئا حتى نعترف أننا نجهل.
والمجتمع الحر هو المجتمع الذي تخلص من كل أشكال الاستبداد الجماعي، حيث يقول الفيلسوف كانط «العلَّة ليست في غياب الفكر، بل في انعدام القدرة على اتخاذ القرار، وفقدان الشجاعة على ممارسته دون قيادة الآخرين، لذلك فلتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر الاستنارة». فالخروج عن المألوف، المحكوم بالبيئة والأحكام المسبقة، يتطلب ثقة بالنفس وشجاعة وتحديا للسائد والموروث الذي يحدد للفرد كيف يعيش؟ وماذا يلبس؟ وكيف يفكر؟ وماذا يقول؟ إلى درجة تجعله يعتقد في اللاوعي أن تلك الأمور فطرية وطبيعية، الأمر الذي يجعل منه إنسانا مسخا متعايشا مع الجهل والخرافة وملاحقا من تهم التكفير والفتاوى المتعصبة.
إن غياب النقد الجريء الصادق ومحاولات إقصاء وإلغاء وإعدام كل من يكشف ويعري حقيقة الفراغ والخواء الفكري والزيف والسخف والسذاجة والتغييب المؤسس هي سبب مأساتنا وفشلنا وانحطاطنا المجتمعي والأخلاقي، فسبب تفوق الغرب علينا يكمن ببساطة في إيمانهم بأهمية النقد المستمر الذي يخلق العجائب ويطوع المستحيلات، ويمكن اللامعقولات… فكوبرنيكوس تحدى بديهية أن الأرض هي مركز الكون، ليثبت أنها مجرد كوكب من الكواكب التابعة للشمس… ليحاربه المجتمع ويكفره وليكتشفوا فيما بعد أنهم كانوا يعيشون في وهم كبير… وليصبح هذا الاكتشاف بداية الثورات الفكرية التي حولتهم من مجتمع ثابت إلى مجتمع دائم الحركة والتطور والتغيير.
ومجتمعاتنا المنغلقة تأخذ بابتكارات الغرب وتستخدمها معتقدة أنها بذلك قد وصلت إلى ما وصلوا إليه من تحضر وحداثة… متناسية أنها شعوب مهما استهلكت من إبداعات وإنتاجات الآخر تظل متخلفة وعاجزة ومتعصبة تفتقد مقومات المواطنة والديمقراطية… لأنها تفتقد أساسيات الفكر الحر، والديمقراطية لا تقوم لها قائمة دون قيم التفكير النقدي… فتمدنها الظاهري ما هو إلا قشرة شكلية سطحية زائفة لا عمق لها ولا لب.
السؤال: متى يصحو العقل من بياته الشتوي الأبدي؟
lalothman@yahoo.com
* كاتبة كويتية
الجريدة