يلوم فريق من السوريين حزب الله عندما يكيل المديح لديكتاتورية تحكمهم منذ سبع وثلاثين سنة متّصلة، ويشيرون بإصبع الاتهام إلى خطابه السياسي الذي لم يتزحزح قيد أنملة عن توصيف النظامين الحاكمين في دمشق وطهران، بأنهما قلعتان صامدتان في وجه مؤامرات أمريكا وحلفائها، وأن سوريا الأسد (كما يجاهر ويفاخر حزب الله بتسميتها) هي الحصن الذي يذود عن العرب شرور الشيطان “بوش”، و يحميهم من ويلات خطط ابتلاع المنطقة، وتطويع شعوبها الأبية، وأن نظامها يناضل بصلابة وتصميم، لعرقلة إقامة الشرق الأوسط الجديد الذي ستصبح فيه الأنفة أثرا بعد عين.
يضيف هذا البعض السوريّ الكئيب، أنّ السيد حسن نصر الله يتعامل مع بلادهم بوصفها سلطات ملائمة؛ لأنها تضمن، وتيسّر له مرور سلاحه الخاص، وليس كما هي في الحقيقة: مزرعة منهوبة، وفقرا مدقعا، وقلعة أمنية يرفض حرّاسها الديموقراطية، ويتنكرون لحقوق الإنسان الأساسية، ويعاقب سدنتها الإنسان السوريّ بالإمعان في استئصال السياسة من دماغه، وبتكميم فمه عندما ينجو من مشارط ومخادع عملياتهم الناجحة، وبزجّه غياهب سجونهم وأقبية فروعهم الاستخباراتية، إذا تجرّأ وندّت عن لسانه مقالة، أو تورّط في اجتماع، أو انزلق إلى الانخراط في تنظيم لا يتّفق و” الممانعين ” في بعض أقوالهم، تماما كما كان هؤلاء السدنة يفعلون باللبنانيين زمن الوصاية.
ويسوق هؤلاء البائسون البكّاؤون من السوريين، الّلوامون بمرارة، خطاب السيد حسن نصرالله في 8 آذار 2005، فيعدونه دليلا يصادق على صوابية شكواهم، لأن سماحة الأمين العام لحزب الله شكر آنذاك “سوريا الأسد” على فعالها ومنجزاتها ونعماء وجودها على أرض لبنان، وفوق أدمغة وحريات شعبه.
ويشددون في صلب مرثاتهم هذه، على أنّ إهداء السيّد حسن نصر الله بندقيّة المقاومة ” للمقاوم والممانع ” رستم غزالي قبيل مغادرة هذا الأخير لبنان عائدا إلى وطنه،و بعد أن أدّى للبنانيين خدمات جليلة في ميادين الأمن وصيانة حقوق الإنسان اللبناني، ليس إلا برهانا ساطعا على قصور رؤية وبراغماتية تستخفّ ببلادهم ، كما هي في الحقيقة، وتتنكّر لهموم إنسانها كما يعرفون ويعايشون.
يجمع هؤلاء المثيرون للغثيان، من البعض السوريّ، خطاب حزب الله السياسي، وأقوال أمينه العام، وتصريحات كبار كوادره، وبندقية غزالي، في رزمة واحدة، ويعربون عن أسى عميق اعتور أفئدتهم عندما تبيّن لهم أن الحزب لم ينصف جموع السوريين، بل فاقم قهرهم، وقوّى شوكة النظام الاستبدادي الذي يرهق كواهلهم بعسفه وفساده.
ويتوّغل جزء منهم بعيدا في خطاب الغربان هذا نحو القول: إنّ جملة مواقف حزب الله السياسية، وامتداحه المتواصل للنظام السوري، شكّلا سببين جوهريين لاستعصاء النظام على السقوط، رغم الضغوط الكبيرة التي مورست عليه منذ صدور القرار1559 وحتى الآن.
أقول، وقلبي مفعم بالاستهزاء والإشفاق على جوقة البكّائين هذه؛ التي يختصر أفرادها في شخصياتهم: الرثاثة، وعقدة الاضهاد، والاتكالية، والعجز، وقصر القامة: إن حزب الله ليس جمعية خيرية، وهو بالتأكيد، ليس منظّمة ترعى المعوّقين والمساكين والمتسوّلين، ولن يقف إلى جانب سوريا الإنسان ليشيح عندها بصره عن سوريا السلطان بطبيعة الحال، لا لأنه حزب عسكريّ وسياسيّ يضع في حسبانه مصالحه وغنائمه فقط، ولا لكونه مضطرا إلى قراءة المسألة من زاوية حاجته الاستراتيجية إلى السلاح فحسب، ولا حتى لأن النظام السوريّ بوق خطابه المقاوم بالطبع، بل لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
يعرف اللبنانيون وغيرهم أن حزب الله الذي تأسس عام 1982 بعيد اجتياح إسرائيلي قاس على لبنان الأرض والناس، وفي حمأة حرب أهلية ضروس أهلكت الآلاف، وشرّدت معظم الناجين من بطشها، لم يضع في متون خطابه السياسي ولا حتى في هوامشه لفظة الديموقراطية، ولم يتنكّب على عاتقه أيّا من حقوق الإنسان الأساسية، خلا أولوية حقّ الاستشهاد، ولم تكن للحزب أدنى علاقة يوما بموضوع حاجات الشعوب – ومنهم السوريون بالطبع – إلى أنظمة تمثّل خياراتها الأساسية ومصالحها الحيوية، ولا تشي رؤيته الواقع والأوضاع بالتفات ذي شأن إلى قضايا الحريات العامة، ولا حتى بالإيماءة العرضية الناتئة التي يمكنها أحيانا و لأسباب غير مفهومة أن تغادر أسيقة خلفيته التكوينية على حين غرّة فتفتح كوّة أمل في جدار صامت بارد، ، بل إنّ هذه المفاهيم في واد، وحزب الله في واد آخر، ولا تمت له بصلة من قريب أو بعيد. أستثني هنا – ولا أنسى – تشكيله لجنة مشتركة مع الجنرال ميشال عون، مهمتها البحث في السبل الآيلة إلى الإفراج عن اللبنانيين المحتجزين في السجون السورية، ولقد زارت هذه اللجنة أسر السجناء في موقع اعتصامهم، ومثّل الحزب فيها على استحياء السيد غالب أبو زينب عضو المجلس السياسي لحزب الله ، ولم تحظ الزيارة الخجولة هذه بتغطية إعلامية ذات بال، لأن الإعلام، واللبنانيين، وأنا كما يخيّل لي، نستطيع جميعا أن نخمّن أن هذه الزيارة التضامنية لم تكن إلا ديكورا امتنّ حزب الله به على الجنرال عون لتوقيعه الوثيقة التفاهمية الشهيرة! كذلك وحتى لا يفوتنا شيء، فإن المرّة الثانية التي أولى الحزب فيها اهتماما معيّنا بقضية مماثلة كانت عندما طالب على لسان أمينه العام بضرورة الإفراج عن السادة: مصطفى حمدان، جميل السيد، ريمون عازار، وعلي الحاج!!
يوغل في الخطأ هنا، من يعتقد أن انعدام الرؤية المدنية لدى حزب الله مسألة عرضية أو ساقطة عن السطر سهوا، لكونه حركة مقاومة، وحزبا مقاتلا يستهدف تحرير الأرض، وإطلاق الأسرى، وردع العدوّ عند اعتدائه، وألا وقت يضيعه في تكوين خطاب مدنيّ ما، فالحركات المقاومة التي لم تتبنّ إيديولوجية عقديّة، لم تغامر- فيما أعرف – مرّة بتقديم برامجها المقاومة خالية الوفاض من مستويات متعددة للرؤية، وشدّدت في أدبيّاتها دوما على أهمية بناء مجتمع ذي صبغة مدنيّة حديثة، وأكّدت على أولوية بناء دولها وفق أسس ديموقراطية تحمي التنوع وتغذّيه، وتصون الحرية الفردية، وتعزّز من سلطة القانون واحتكار الدولة للسلاح واستخدام القوّة. نقرأ هذا في أدبيات الحركات الإنسانية المقاومة ونفتقده بمرارة في وثائق وخطابات المجموعات الإلهية التي ينتمي حزب الله إلى تشكيلاتها المجاهدة.
ويحيد عن فهم هذه النقطة، بالتأكيد، من يظنّ أن العمل على تحرير أسرى لبنان من سجون إسرائيل أمر فقير الدلالة، أو مجرّد فعل هامشيّ عديم التأثير، على العكس فلا أرض تضاهي سمير القنطار، ولا تراب يساوي عودة أسير الحرب إلى وطنه وذويه، ولكن اضطلاع حزب الله بقضية الأسرى اللبنانيين لا يدلّ وحده، معزولا عن الديموقراطية والحريات العامة، على اهتمام بقضايا الفرد وأسس بناء الدولة.
لا يمكن أن يكون الموضوع ساقطا سهوا عن خطاب حزب الله، ولا منطق في تصوّر أن افتقاده يعود إلى انهماك الحزب بأولوية التحرير والردع، وأن إهماله لا يعدو كونه تأجيلا قسريّا لا مفرّ منه.
يصحّ القول أنّ مجرد التفكير ببناء مجتمع يحمي التنوّع ويغذّيه، ويجعل الديمقراطية حكما أوحد لمنافسات واختلافات أفراده، ويشدّد على صون حرية التعبير، والاعتقاد، والتصرف لجموع اللبنانيين، أمر يتناقض جذريّا مع ممارسات وتوجهات أنظمة المحور الذي ينتمي إليه حزب الله مع الأسف. ولا يستطيع حزب الله أن يغرّد وحيدا خارج السرب، ولا يجرؤ على ذلك، ولا يريده أصلا، ولا يحتاجه البتّة.
ولنا أمثلة في ديموقراطية، وشفافية، وقيم المجتمع المدنيّ لدى حلفائه: النظام السوري الذي يعلو فيه المخبر على المفكّر، والإيرانيّ الذي يصادر، باسم الدين، الحريات الشخصية في المأكل والمشرب والملبس، ويتألم لفوز لحقوقية إيرانية بجائزة نوبل للسلام، ويعدّ نيلها الجائزة رسالة مشبوهة، ويمعن في زجّ أحراره ومفكّريه المعتقلات،لنا في ذلك كله، مؤشّرات جوهرية، وأدلة ساطعة، على علوّ كعب هذين النظامين في مجال احترام الإنسان وحقوقه الدنيا. هذا إذا أحجمنا – بالطبع – عن استحضار النظام المتعفّن في كوريا الشمالية، والإيماء إلى الحكم الظلاميّ في كوبا، وغضضنا الطرف عن عبقريّة السيد “شافيز” الفذّة.
فاقد الشيء لا يعطيه، فما بالك عندما يزدري هذا الفاقد مفقوده، ويخاصمه، ويربط استمرارية وجوده بغيابه حصرا؟!!
باستئصال منّظّم ودؤوب لفصائل المقاومة، الفلسطينية منها، واللبنانية، بدأ حزب الله مسيرته الجهاديّة، وبتوحيد البندقية استهلّ مقاومته إسرائيل على أرض الجنوب اللبنانيّ، فغضّ الطّرف بدءا عن اصطناع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وعملت إيران بصمت وحزم على مدّه بالسلاح الذي حوّل فصائل هذه الجبهة إلى دمى لاهية ذات سيوف خشبية، فسهل على حزب الله أن يحتكر العمل المقاوم، وراح بتؤدة حازمة لا ينكر عبقريتها عليه أحد يقزّم من شأن تضحيات روّاد المقاومة الأوائل، جاعلا من الجبهة إطارا بلاستيكيا لصور مقاتليه فحسب، وأضحوكة توازي في عبثيتها وهوانها “أراكوز” قوّات الردع العربية، التي هيمن عليها فريق واحد تحت مسمّى كبير مصمت، وكأنها تلك الجبهة الوطنية التقدّمية التي يذكّر الإعلام السوريّ العالم أنها تحكم البلاد إلى جوار حزب البعث!!
لا ريب أن إحكام حزب الله قبضته على العمل المقاوم آنذاك، نجح في مبتغاه الحقيقي، فقد قطف الحزب كل الثمرات السياسية، التي راهن على احتكار منافعها وحلاوتها، وتحمّل بلا أدنى شكّ تبعاتها وأثمانها من دماء أبناء الجنوب، الذين قاتلوا ببسالة مشهودة، مدفوعين برؤيا دينية نرى شبيها لها هنا وهناك هذه الأيام. لا أوازي هنا إلا في الاندفاع والبسالة، فليكن ما أقوله واضحا، بعيدا عن الالتباس أو التلبيس والتقويل والاصطياد المراوغ.
وأحكم حزب الله في سياق عمله الإلغائي المنظّم سيطرته على مفردات الخطاب السياسي المقاوم بالطبع، فقد وعى منذ البدء ألاّ سيطرة مكتملة يوفرها السلاح الواحد، وأن القبض على مفردات الخطاب بوّابة أكيدة، ومدخل لا مجال للتقاعس بشأنه، إذا أراد فرض أجندته السياسية التي انفتحت على مصاريعها لخطاب لبناني الشكل، إقليميّ الهوى والاستراتيجيا، وكانت إيران بالطبع في صلب معاني الخطاب، ورسائله المضمرة منها والمعلنة، الظاهرة هنا، والمختبئة المستقرّة هناك في أعماقه.
ومن الشهيدة سناء محيدلي القومية السورية إلى بركات الخامنئية، عبر حزب الله بحارا عسيرة، يستحقّ التهنئة على وصوله الناجح إلى مرافئها. وانعطف بالخطاب المقاوم من التعددية إلى الأحادية، حتى سمّاها الحزب – عن حقّ – مقاومة إسلامية.
وبين خطب الشهيد جورج حاوي المشهودة، وأغنيات فصائل اليسار المقاومة اللاهبة وشهدائها وأسراها من جهة، وعدم توجيه الدعوة إلى أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني لحضور احتفال عودة الأسرى اللبنانيين قبل أربعة أعوام من جهة أخرى، إحدى وعشرين سنة استكمل حزب الله خلالها التفرّد والاستئثار ومصادرة قرار السلم والحرب.
فاقد الشيء لا يعطيه، فالفرصة التي سنحت لحزب الله لإحكام سيطرته على الجغرافيا والسلاح والقرار إبان الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كان اللبنانيون في كل المناطق يبحثون عن فرص لالتقاط الأنفاس، وهدنة هنا وهناك، حتى لو صنعها لهم استئثاريون يضمرون أجندة فوق لبنانية يخفونها تحت معاطفهم، هذه الفرصة تلوح نذرها لحزب الله مرة أخرى بعد إرهاق حرب تموز العام الفائت، وإثر نجاحه في التعويض الداخلي عن كلفها الباهظة، بأرصدة داخلية عبر اصطناعه الأزمة السياسية الحالية، والاصطفاف الاستقطابيّ الحادّ كحدّ السيف.
فاقد الشيء لا يعطيه، فلماذا ينعق بعض الغربان من السوريين أن حزب الله يظلمهم عندما يمتدح الاستبداد الذي يطوّق أعناقهم، ولماذا شعر بعض العرب السّذّج بخيبة أمل تجاه حزب الله عندما لمحوا جمهوره ومقاتليه معتصمين صارخين: ليسقط السنيورة، فقد سبق له أن أسقط بنادق من صدّقوا ذات يوم أنّهم وإياه شركاء قضية واحدة في حلف واحد؟؟!!
فاقد الشيء لا يعطيه لأحد، وليس على السوريين انتظار هبات حزب الله، ولا وعوده البرّاقة، أو خيالات انتصاراته الذاهب منها والقادم. يكفيهم أنه يسلّيهم اليوم بانتقاداته اللاذعة لرجلين سوريين شغلا أرفع المناصب القياديّة يوما، السيّد عبد الحليم خدّام والّلواء غازي كنعان، الأوّل أضحى معارضا، والثّاني أمسى بعيدا عن سوريا وعن الأرض بقضّها وقضيضها. والانتقاد في الحالتين عديم التكلفة!!
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري