تندرج تحت عنوان ما نُطلق عليه بالعربية “الرواية البوليسية” أصناف مختلفة من روايات الجريمة، والإثارة، والتجسس، والمغامرات في مجاهل الأرض (ومؤخراً، مجاهل الفضاء، بما فيه الإلكتروني)، ولكل منها شروط ومواصفات. وعلى الرغم من حقيقة أنها تُصنّف، غالباً، في مرتبة أدبية أدنى، إلا أنها (وغالباً أيضاً) ما تكون أكثر إحكاماً، والتزاماً بشروط ومهارات السرد، وتحقيقاً لشرطي الإمتاع والمؤانسة، من “الأدب الرفيع”.
المهم، الرواية البوليسية أكثر إدراراً للمال، وأوسع سوقاً، من “الأدب الرفيع”، يحكمها (كما في كل شيء آخر) قانون العرض والطلب، وكلاهما يمتاز بحيوية مدهشة، ويُولّد كفاءة عالية في الدعاية والترويج، والتحريض على زيادة الإنتاج والاستهلاك.
لا يعرف العالم العربي سوى القليل مما يحدث في هذا المجال. وتتمكن من حين إلى آخر روايات بعينها (راجت وأثارت ضجة في بلد المنشأ) مثل “شيفرة دافنشي“، مثلاً، من الوصول إلى قرّاء العربية، واختراق التيار العام. وفي حالات أخرى، تتُرجم أعمال معيّنة لأن أحداثها تدور في هذا البلد العربي أو ذاك. وهذا يعتمد في الغالب على “شطارة” الناشر، وحسابات المضاربة في سوق غير مضمونة النتائج.
وأحياناً، لا يجد حتى هذا النوع من الروايات طريقه إلى القرّاء، إما لضعف السوق، أو لتهافت الحقل الثقافي نفسه. وهذا يصدق على فلسطين. هناك، مثلاً، أربع روايات كتبها البريطاني “مات ريس” في السنوات الأخيرة، تدور أحداثها في فلسطين، ويقوم بدور الفاعل الرئيس فيها (المحقِّق، النسخة المعاصرة من شرلوك هولمز) مدرس فلسطيني متقاعد من بيت لحم اسمه عمر يوسف، ويحضر فيها الواقع الفلسطيني بكل ما يسمه من احتلال، ومقاومة، وجرائم تستدعي التحقيق. ومع ذلك لم تلفت انتباه أحد.
ولكن ما لا يعرفه قرّاء العربية، وما لا يثير اهتمام العاملين في الحقل الثقافي، أن العرب، والإرهاب، والجهاد، والإسلام، أصبحت موتيفات مركزية في الرواية البوليسية الغربية على مدار العقود الثلاثة الماضية. الأسباب مفهومة. ومن غير المفهوم ألا تثير ظاهرة كهذه ما تستحق من اهتمام، سواء على الصعيد المحلي، أو العربي العام. ومبرر الأهمية أن تحليل طريقة الآخرين في صياغة صورتنا يُمكننا من القبض على مكوّنات الخطاب الاستشراقي الجديد من ناحية، ومن رؤية ما لا نرى من صورتنا في المرآة من ناحية ثانية.
على أي حال، وعلى الرغم من ضعف الحقل والسوق، (ومن الكلام الفارغ عن مكان ومكانة المثقف في الحقل الثقافي العربي) إلا أن بعض الناشرين العرب يضارب في السوق العربية العابرة للرقابة، والحدود، والقادرة على تغطية نفقات الطباعة والشحن على المضمون. وهذا ما يحدث عندما ينشر أعمالاً بعينها تحظى برواج واسع في العالم العربي، لأن أحداثها تدور فيه، وعندما يقوم بتطهير هذه الأعمال من كل ما من شأنه الاصطدام مع الرقابة، والحدود، وشروط المشاركة في معارض الكتاب، وما يفترض بأنه يمثل ذائقة عامة يحتكم إليها، ويلتزم بمزاجها.
ومن سوء الحظ أن هذا كله ينطبق على أعمال بول سوسمان، التي قام ناشر معروف في بيروت (الدار العربية للعلوم ناشرون) بترجمتها ونشرها بالعربية. الروايات بالترتيب الزمني هي: آخر أسرار الهيكل، وجيش قمبيز المفقود، والواحة الخفية، ومتاهة أوزويريس. ومن المؤسف أنه لن يكتب المزيد من الروايات البديعة، فقد رحل، مبكراً، عن الدنيا في أواسط العام الماضي.
سوسمان روائي موهوب، ومثقف كبير، تخصص في الآثار المصرية. وكل أعماله المذكورة تدور أحداثها بشكل أساسي في مصر، ما عدا متاهة أوزوريس، وآخر أسرار الهيكل، التي تدور أغلب أحداثها في فلسطين. الفاعل الرئيس في رواياته محقق مصري اسمه يوسف خليفة، ومحقق إسرائيلي اسمه آرييه بن روي. وفي هذه الأعمال يمتزج الحاضر بالماضي، والتاريخ بالأسطورة، والأحداث السياسية بالصراعات القومية، والاستيهامات الأيديولوجية.
لفت سوسمان انتباهي قبل سنوات، عندما قرأت روايته الأولى “آخر أسرار الهيكل”، التي تدور أغلب أحداثها في فلسطين، وواظبت على قراءة الروايات اللاحقة بمجرد صدورها بالإنكليزية.
ومؤخراً، وقعتُ على ترجمة الدار العربية للعلوم للرواية المذكورة، فصعقني أمران: رداءة الترجمة (وهذا يمكن التسامح معه) ومحاولة تطهير اللغة العربية من مفردات بعينها، ربما يعتقد الناشر أنها لا تنسجم مع ذائقة المستهلكين في هذه السوق العربية أو تلك. ولكي لا تأخذني العزة بالإثم، عدت إلى ترجمة الدار العربية لكل روايات سوسمان، فوجدت أن المحاولة تكررت في كل الترجمات. وهذا ما لا يمكن التسامح معه، وفيه اعتداء على النص الأصلي، واعتداء لا يقل فداحة على العقل والثقافة العربيين.
واليكم بعض النماذج (وهي مستمدة من متاهة أوزيريس، ولكنني على استعداد للتدليل عليها في كل الروايات المذكورة بالعربية، ومقارنتها بالنص الأصلي): كلما وردت في النص الإنكليزي الأصلي كلمة الصليب، تُترجم بالعربية: الرمز الديني للنصارى، والكنيسة: دار العبادة، والكاهن أو القس: رجل الدين، والفودكا أو الويسكي أو النبيذ: الشرّاب المفضّل.
فلنوجّه أنظارنا إلى غيض من فيض: نجع حمادي تُترجم: ناغ حمادي، والسبت اليهودي: يوم الشبت، والضفة الغربية: تلال اليهودية، والمافيا الروسية: الروسكايا مافيا. والهجرة اليهودية: إليا، وأبو الهول: سفنكس، وحائط المبكي: الكوتيل.
هذا غيض من فيض الرداءة. والمفارقة أن الناشر يكتب على صفحة الكتاب الثانية “حقوق الترجمة مرخص بها قانونياً من الناشر“. هل وافق ناشر النص بلغته الأصلية على شطب الصليب، والكنسية، والكهنة، والنبيذ، من الطبعة العربية؟ وما هي مشكلة الناشر العربي مع الصليب والكنيسة والكهنة والنبيذ؟ وهل انتقلنا من حجاب النساء إلى حجاب اللغة؟
لعل التحقيق في محاولة تطهير العربية من المسيحية، والكهنة، والنبيذ، يصلح مادة لرواية بوليسية، ولكن شريطة أن يكتبها عربي، هذه المرّة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني