في مثل هذه الأيّام قبل ثماني سنوات، نفّذت حركة “حماس” انقلابها في غزّة. إتخذ لإنقلاب شكلا دمويا لم يعتد عليه الفلسطينيون في تنظيم العلاقات في ما بينهم. لكنّ “حماس” ارادت أن تقول بكل بوضوح أن غزّة صارت ملكا لها وأنّ القطاع نواة لـ”الإمارة الإسلامية” التي تريد إقامتها والتي تؤثّر في كلّ المحيط…بما في ذلك مصر.
فشلت “حماس” في التأثير في مصر، عفوا، نجحت في ذلك، إلى أن قامت “ثورة الثلاثين من يونيو” في العام 2013، والتي التي أعادت الوضع في مصر إلى ما يجب أن يكون عليه.
كانت تجربة غزّة الفاشلة القدوة الوحيدة أمام “إخوان” مصر الذين ارادوا نقل تجربة القطاع إلى أرض الكنانة. رفض المصريون ذلك. رفضوا عمليا أن تكون غزّة هي التي تؤثر في مصر، بدل أن يكون عكس ذلك هو الصحيح.
بعد ثماني سنوات على الإنقلاب الذي نفّذته “حماس”، بدأت تتضح ابعاد هذا العمل الذي قام به الإخوان المسلمون بالتفاهم مع اسرائيل حتما. هناك حاليا مفاوضات تدور بين “حماس” واسرائيل من أجل هدنة طويلة بين الجانبين تسمح للحركة الإسلامية ببناء دولتها في غزّة.
كلّ الحروب التي خاضتها “حماس” مع اسرائيل، بدعم ايراني احيانا، وتركي في احيان أخرى، كانت تستهدف الوصول إلى اللحظة التي وصلنا إليها اليوم. هذه اللحظة هي لحظة استقلال غزّة بما يخدم المشروع الإسرائيلي الهادف إلي القضاء على خيارالدولتين الذي في اساسه قيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، دولة تعيش بسلام ووئام إلى جانب اسرائيل.
دفع الفلسطينيون ثمن كلّ الحروب العبثية التي خاضتها “حماس” مع اسرئيل ابتداء من نهاية العام 2008. لم يكن لدى اسرائيل يوما اعتراض على هذه الحروب، آخرها حرب العام الماضي التي استخدمت فيها اسرائيل كلّ ما تملكه من اسلحة فازالت أحياء كاملة من الوجود. يقول الرئيس الفلسطيني “ابو مازن” في مقابلة مع مجلّة مصرية أن ثلاث وتسعين عائلة فلسطينية من غزّة زالت من الوجود تماما. قضت اسرائيل على الأجداد والأبناء والأحفاد دفعة واحدة، فلم يعد من خيار غير شطب هذه العائلات من السجلات الرسمية.
كلّ ما يمكن قوله الآن، أن “حماس” وصلت إلى ما تريد الوصول إليه. هناك التقاء في المصالح بينها وبين اسرائيل. “حماس” تريد امارتها في غزّة واسرائيل لا تعترض على ذلك. على العكس من ذلك، إنّها تشجع مثل هذا التوجّه الذي يقضي على المشروع الوطني الفلسطيني، المدعوم دوليا، من اساسه.
فشلت “حماس” في مصر، لكنّها نجحت فلسطينيا. نجاحها منقطع النظير، خصوصا أن ليس لدى السلطة الوطنية في رام الله ما تردّ به على الحلف الجديد الذي قام في وجهها. لم يعد أمام “ابو مازن” سوى الشكوى من الجمود في عملية السلام، على الرغم من الجهود الفرنسية التي بلغت قبل أيّام ذروتها بجولة في المنطقة قام بها وزير الخارجية لوران فابيوس شملت اسرائيل والأراضي الفلسطينية.
تخلق “حماس” واقعا جديدا. يتمثّل هذا الواقع في أنّ الفصل بين الضفة الغربية وغزّة صار فصلا نهائيا…إلّا إذا جاء يوم انهارت فيه السلطة الوطنية في الضفّة الغربية. عندئذ، ستبادر “حماس” عندئذ إلى ضم الضفّة إلى أمارتها الإسلامية وستجد اسرائيل أكثر من محبّذة لذلك. في النهاية، تريد اسرائيل أن تجعل من الضفّة الغربية أرضا طاردة لأهلها من الفلسطينيين. واجهت مقاومة حقيقية لهذا التوجّه عندما كان الدكتور سلام فيّاض رئيسا للوزراء. استطاع سلام فيّاض بناء مؤسسات فلسطينية شفافة وفعّالة§ تصلح نواة لدولة مستقلة قابلة للحياة. أكثر من ذلك، كانت تلك تجربة جعلت الفلسطينيين يسعون إلى العودة إلى الضفّة والإستثمار فيها بدل الهرب منها. لسبب أو لآخر، لا مجال لفهمه أو ايجاد تفسير له، فضّل الرئيس الفلسطيني استبعاد سلام فيّاض. أين المنطق في ذلك؟ أين المنطق في التخلي عن أفضل شيء حدث لفلسطين والفلسطينيين منذ توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993؟
لا ينفع الآن استبعاد “حماس” من حكومة الوحدة الوطنية في شيء. لن تنفع الدعوة إلى مؤتمر عام لـ”فتح” حدّد موعده في تشرين الثاني ـ نوفمبر المقبل في شيء. الجديد فلسطينيا ليس الإصرار الإسرائيلي على دفن خيار الدولتين فحسب، بل الجديد أيضا، ذلك الحلف الجديد-ـ القديم بين “حماس” وحكومة بنيامين نتانياهو.
يرأس نتانياهو حاليا أكثر الحكومات تطرّفا في تاريخ اسرائيل. من الطبيعي أن تجد هذه الحكومة حليفا موضوعيا في “حماس” التي تطلق كلّ الشعارات التي تستجيب لما تريده حكومة متطرفة. أين المشكلة لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية عندما تنادي “حماس” بزوال اسرائيل. هل من شعار أفضل من هذا الشعار كي يهرب نتانياهو من أي مفاوضات جدّية تستند إلى ما بقي من شرعية دولية وبما يؤدي إلى إنهاء الإحتلال الذي طال أكثر من اللزوم؟
في نهاية المطاف، ليس امام اسرائيل سوى استغلال المتغيّرات التي يشهدها الشرق الأوسط. ما تفعله “حماس” يوفّر لها أفضل فرصة للإستفادة من هذه المتغيّرات. هناك ميليشيا مسلّحة تحكم غزّة تسعى في الوقت ذاته إلى نشر الفوضى والإرهاب في سيناء دعما لإخوان مصر. أكثر من ذلك، تطلق هذه الميليشيا كلّ الشعارات التي يستخدمها نتانياهو للقول أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. مثل هذه الميليشيا، التي تطمح إلى بقاء غزّة تحت الحصار الإسرائيلي بغية التحكّم برقاب أهلها، لا يمكن إلّا أن تكون في خدمة اسرائيل.
ليس أمام اسرائيل سوى ردّ التحيّة لـ”حماس” بما هو أحسن منها، أي بهدنة طويلة لخمس عشر سنة أو اكثر، هدنة قد لا تكون معلنة، يزداد خلالها وضع الغزاويين بؤسا ويُدفن خيار الدولتين نهائيا.
الآن بدأنا نفهم لماذا سيطرت “حماس” على غزّة بتلك السهولة في حزيران ـ يونيو من العام 2007. ثمّة أمور لا تفسير لها، مباشرة بعد حصولها. لا بدّ من الإنتظار بضع سنوات. الصورة بدأت تتضّح الآن. باتت واضحة أكثر من اللزوم. حقّقت “حماس” لإسرائيل كلّ ما تصبو إليه، في وقت تبدو السلطة الوطنية عاجزة عن القيام بأيّ خطوة في أي اتجاه كان…
مبروك لـ”حماس” الهدنة. ومبروك لإسرائيل دفن خيار الدولتين، فيما العالم يتفرّج على استمرار الإحتلال، على الرغم من الحركة الشجاعة ولكن اليائسة التي تقوم بها فرنسا.