(1 )
نجح مبارك فيما فشل فيه عبدالناصر والسادات . كل من ناصر والسادات كانت له أهداف معلنه ،ولكن واجهتهما تحديات هائلة ففشلا فى تحقيق أهدافهما بينما نجح مبارك فى تحقيق أهدافه برغم التحديات .
التحدى الذى واجهه عبدالناصر هو أن تتزعم مصر ـ بقوميتها العربية واتجاهها الإشتراكى ـ العرب ودول عدم الإنحياز فى مواجهة الغرب و إسرائيل. وفشل مشروع عبدالناصر فى هزيمة 67 . جاء السادات برؤية مخالفة لمصر،أرادها دولة تابعة للغرب متمتعة بالرخاء والسلام ففشل وقتل .
ولم يكن مبارك يتخيل أنه سيكون رئيسا لمصر ، فلما صار رئيسا بالصدفة المحضة شعر بأنه أقل من المنصب واقل شأناومقاما من السادات وعبدالناصر، ولذلك تركز هدف مبارك فى البقاء فى السلطة ليثبت لنفسه ولرفاقه و منافسيه فى السلم العسكرى أنه قادر على البقاء حاكما مستبدا مثل سابقيه .
هذا هو التحدى الأول الذى واجهه مبارك ، وقد نجح فيه بدليل أنه حكم مصر مستبدا أطول مما حكمها عبد الناصر ، و السادات.
(2 )
لم يكن سهلا أن يبقى مبارك حاكما مستبدا لمصر طيلة هذه المدة ،بل كان تحديا حقيقيا تتمثل عناصره فى الزمان والمكان والإنسان. الزمان هو عصر الديمقراطية ،والمكان هو مصر بريادتها و موقعها و ثقافتها، والانسان هو المثقف المصرى الواعى الذى يصعب خداعه. المثقفون المصريون يزيد عددهم عن سكان بعض الدول الصديقة والشقيقة ولديهم خلفيه نضاليه فى الديمقراطية ومن الطبيعى أن يرفضوا استبداد حاكم عسكرى من الدرجة الثانية فى عصر الديمقراطية وحقوق الأنسان .
ليس مقبولا فى دولة رائدة كمصر أن تظل تحت حكم استبدادى وهى التى شهدت بذور الديمقراطية وتكوين مجلس نيابى فى عهد الخديوى إسماعيل فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، وهى التى عاشت فترة ليبراليه حقيقية فيما بين 1923-1952 ، وهىالتى جاهدت حوالى قرن من الزمان طلبا للإستقلال والدستور أى الحرية من المستعمر والحرية من الأستبداد المحلى . مصر الإنسان كانت تمثل تحديا حقيقيا فى رغبة مبارك فى أن يحكمها مستبدا – بعد تاريخها الرائد فى الديمقراطية – وبعد أن بلغت أمواج الديمقراطية موريتانيا وموزمبيق ..!!.
تكتمل عناصر التحدى بشخصية مبارك نفسه ، فليس فى مستوىيسمح بمقارنته بالرئيسين السابقين ، وليس له تاريخ نضالى او سياسى ، بل مجرد ضابط كفء يجيد تنفيذ الأوامر ، ومثله مئات القواد الأكفاء العسكريين ، بل منهم من تفوق عليه ، ومنهم من كان أعلى منه رتبة، الذى جاء بمبارك الى الضوء هو السادات الذى أراده نائبا له يسمع ويطيع ويأمن جانبه .
تاريخ مبارك المتواضع يضيف أهم ملمح من ملامح هذا التحدى، فكيف لمثله أن يحكم مصر مستبدا بعد إثنين من الرؤساء صناع التاريخ ؟ ثم كيف يستمر فى الحكم طيلة هذه السنوات التى لم يصل اليها إلا قلة ممن حكم مصر فى تاريخ مصر الطويل ، مثل رمسيس الثانى والمستنصر الفاطمى ومحمد على باشا؟
(3 )
أعان مبارك على قهر هذا التحدى الأول أنه ورث من السادات دستور 1971 الذى يجعل الرئيس المصرى مستبدا مالكا للسلطات التنفيذيةوالقضائيةوالتشريعية ومتحكما فى القوة العسكرية والأمنية، دون مساءلة،بل أن يظل يحكم طيلة حياته. كما اعانه على قهر التحدى أغتيال السادات نفسه إذ أتاح له استصدار قانون الطوارىء ـ وهو قانون مؤقت كما يدل عليه اسمه ومعناه ـ ولكن استطاع مبارك بملكيته للدولة أن يصنع مجلس شعب يتخصص فى صياغة القوانين التى يريدها و يتخصص أيضا فى تمديد قانون الطوارىء ثم فى النهاية يجعل الطوارىء قانونا أبديا يلاحق المصريين فى الحاضر و المستقبل.
(4 )
على أن ماورثه مبارك من السادات وما بناه على ذلك الارث لم يكن كافيا لمواجهة التحدى. كان لا بد من اجراءات أخرى تثبت مبارك فوق أعناق المصريين .
لجأ مبارك الى اتباع سياسة من أربعة أضلاع تتداخل فيما بينها وتتقاطع ولكنها كلها مكنته من رقاب المصريين. هذه الأضلاع الأربعة هى الإفقار والتعذيب والتقسيم و نشر ثقافة التطرف والارهاب السلفى.
شجع ثقافة التطرف السلفية ونشرها بالأزهر والمساجد والتعليم والأعلام والثقافة وعمل على إفقار الغالبية المطلقة من المصريين فتتضاءلت الطبقة الوسطى المثقفة والمتعلمة التى تقود التنوير والإصلاح وتركز همها فى النضال من أجل لقمة العيش حتى لا تسقط فى قاع الفقر الذى يتسع ويتعمق مع كل غلاء جديد يحل فى الأسعار. وبإنتشار الفقر وإنعدام الأمل مع سيطرة ثقافة التطرف فلابد من أن يتحول التطرف إلى جماعات إرهاب ، وهنا يحقق مبارك هدفه فى تحويل مصر إلى جبهة داخلية وساحة حرب وقانون طوارىء أبدى ، ويؤكد وجود الدولة العسكرية التى تستخدم البوليس والأمن المركزى كفرقة متقدمة فى حرب الشعب الجائع وتتحول مقرات الشرطة العادية والبوليس السياسى إلى سلخانات تعذيب .
ولتخويف المواطنين وارهابهم فلا بد من إعلامهم بما يجرى فى سلخانات التعذيب حتى يحرص كل مواطن على (المشى جنب الحيط ) مبتعدا عن ممارسة حقه السياسى أو الانسانى فى الجأر بالشكوى، ولذلك يحرص النظام على إطلاق جزئى لحرية الصحافة وحركة المجتمع المدنى ـ بل أنشأ مجلسا لحقوق الانسان ، أى ينشر أخبار التعذيب إرهابا للمواطنين،وينتحل لنفسه مظهرا ديمقراطيا.
بالفقر والأرهاب الحكومى وتبنى الفكرالسلفى ـ مع الفساد و الاستبداد ـ نجح مبارك فى تقسيم المصريين إلى أغلبية ساحقة من الفقراء وأقلية ضئيلة من المترفين ، هناك أقل من 25 شخص فى مصريملكون أكثر من 99 % من الثروة المصرية و يواجهون أكثر من 75 مليون مصرى فقير. بتبنى ثقافة التطرف انقسم المصريون الى جبهتى تعصب دينى بين الأقباط والمسلمين، مع تقسيم المصريين إلى أقلية حاكمة من الجيش والشرطة ترهب وتعذب الأكثرية الساحقة من الشعب. وحتى السلطة العسكرية والأمنية تنقسم الى أقلية آمرة من كبار القادة والضباط ، ثم أكثرية مأمورة من الأمن المركزى وجنود الجيش.
بتجويع الشعب و إفقاره وارهابه وبث الفرقة بين أبنائه كسب مبارك التحدى الأول الذى واجهه وهو البقاء فى السلطة حاكما مستبدا طيلة هذه المدة. وفى سبيل هذا الهدف ضاع الدور الأقليمى والعربى لمصر، وضاعت كرامة الأنسان المصرى فى وطنه وخارجه ، وتم نهب القطاع العام والثروة المصرية وتجريف التربة المصرية والعقلية المصرية والأخلاقيات المصرية ، وازدهر الفساد والفقر والمرض والتلوث السمعى والبصرى والثقافى والأخلاقى ..
( 5 )
عصر مبارك هو العصر الذى تألق فيه شعبان عبد الرحيم فى الغناء بعد محمد عبد الوهاب ، ونبغ فيه سمير رجب بعد محمد حسين هيكل ومحمد حسنين هيكل ، وحلّ فيه أحمد عز مكان طلعت حرب ، واعتلى فيه رئاسة الوزارة أمثال أحمد نظيف بعد أن كان يحتلها سعد زغلول وعدلى يكن . وبعد أن كان نواب مجلس الشعب (الأمة سابقا ) من أمثال عباس محمود العقاد ،وبعد أن كان من رجالات الأحزاب أمثال طه حسين و لطفى السيد جاء لنا مبارك بفتحى سرور ونواب الكيف ونواب الفساد والسوق السوداء ، وبعد أن نبغ فى مصر عبقريات قانونية من أمثال السنهورى طفا على الساحة فى عهد مبارك ترزية القوانين أمثال آمال عثمان .
أصبح مؤلما مقارنة الأحوال فى مصر فى بداية القرن الحادى والعشرين مع مصر فى بداية القرن العشرين مع وجود الأحتلال البريطانى والحاكم الملكى الأجنبى ..المقارنة أكثر إيلاما بين مصر فى عشرينيات القرن الماضى مع مصر اليوم ، حيث كانت هناك أحزاب حقيقية ، ودستور 1923 وحزب الأغلبية ( الوفد) بقيادة سعد زغلول يتنافس مع الأحزاب الأخرى فلا يصل إلى الوزارة إلا مرة واحدة .
والمقارنة بجزئية ” التعذيب ” أكثر إيلاما ، السلطات البريطانية كانت تستنكف من التعذيب وتتركه للسلطات المصرية فى وقت لم يكن فيه التعذيب شائعا أو سياسة دولة كما هو الآن. كانت للمساجين السياسيين حقوق مصونة تمتع بها السادات حتى مع اتهامه بالضلوع فى قتل أمين عثمان. وقد كان أحمد حسين منشىء حزب مصر الفتاة ضيفا مستمرا على السجون المصرية لاتهامه بالفاشيستية أو التعصب للقومية المصرية، ومع تأثيره على عبد الناصر فى شبابه إلا إن الانقلاب العسكرى عام 1952 اعتقل أحمد حسين وبعض قادة مصر الفتاة (فتحى رضوان ) ، ولأول مرة يتعرض أحمد حسين ـ مع مكانته و سنّه وريادته ـ الى الضرب على يد الضابط الشاب أحمد أنورـ أحد الضباط الأحرار. أدرك عندها الشيخ المحنك أن عصرا جديدا من الاهانة قد بدأ ، فاعتزل السياسة والعمل العام أيضا. وبدأ التعذيب يتسع فى عهد عبدالناصر وتوقف مرحليا فى عهد السادات ثم أصبح أساس الحكم فى عهد مبارك.
وبالتعذيب والأفقار والإرهاب والتفريق بين أبناء الوطن الواحد انتصر مبارك على مصربالضربة القاضية .
( 6 )
أعظم أيام مبارك ـ كانسان وأسعدها ـ كانت وقت عمله ضابطا فى القوات الجوية. لم يظلم كثيرا من الناس ، ولكن بعد أن تولى حكم مصر أصبح ضحاياه بالملايين بالاضافة الى مصر نفسها. يقال أن مبارك بعد أن قام بدوره فى القوات المسلحة استاذن القائد الأعلى (أنور السادات ) فى الاستقالة ليعمل مديرا لأحدى شركات الطيران. إن صحت هذه الرواية فلا بد أن حاجب الدهشة عند السادات ارتفع عاليا عندما قرأ هذا الطلب الذى قدمه محمد حسنى مبارك. رأى فيه السادات نموذجا للضابط الخالى من الطموح السياسى الذى يستطيع أن يأمن له ، وفى نفس الوقت فان سيرته الوظيفية فى الطيران تؤكد أنه من النوع الذى يطيع الأوامر بدون نقاش.
كان السادات وقتها يمثل دور الحاكم الديمقراطى الحريص على وجود نائب للرئيس الى جانبه يشاركه السلطة ، وكان يعانى من مشاكل سياسية مع نائبه حسين الشافعى ـ عضو مجلس قيادة الثورة العريق ـ والذى تحالف مع السادات أثناء نزاعه مع مراكز القوى سنة 1971 ثُم دب الشقاق بينهما بدخول السادات فى مسار الصلح مع اسرائيل. أراد السادات التخلص من نائبه ورفيقه المزعج حسين الشافعى بحجة إعطاء الفرصة لجيل أكتوبر،فأعلن عزمه على تعيين نائب من ( جيل اكتوبر ) من قادة النصر . بالطبع كان هناك الأفضل موضوعيا و الأكفأ سياسيا ، ولكن السادات كان يريد نائبا من نوع خاص يوافقه و ينافقه ولا يتآمر عليه ، فعين حسنى مبارك نائبا له.
لو تخيلنا أن ذلك لم يحدث، وظل مبارك فى الظل يعيش حياته على المعاش متمتعا بالهدوء و السكينة يأكل الطعام و يمشى فى الأسواق متمتعا بحريته.. ألم يكن ذلك الأفضل له ؟ أى أن الوزر يقع على السادات فى أنه وضع الشخص غير المناسب فى المكان غير المناسب و فى الزمان غير المناسب،وترك له دستورا شيطانيا يشجع أى قديس على أن يكون سفاحا ظلوما، وبذلك أغوى هذا الرجل المطيع وأدخله فى تحدى الحفاظ على السلطة،وكانت النتيجة أن أضاعه فى إختبارالثروةوالسلطة، وأضاع مصر و المصريين معه.
(7 )
نجح مبارك فى التحدى الأول فاحتفظ بالسلطة حتى الآن، ولكن نسى أنه مهما حافظ على صحته ورشاقته فسيموت ، فالموت هو التحدى الوحيد الذى لن يستطيع مبارك ـ أو غير مبارك ـ قهره. سيموت مبارك ولكن يتبقى له ـ قبل الموت ـ فرصة أن يتغلب على نوع آخر من التحدى، هو التوبة و التصحيح والاصلاح ، إن لم يفعلها فقد ظلم نفسه و ظلم ذريته من بعده ، وترك لهم إرثا من الظلم عليهم دفع حسابه فيما تبقى لهم من أعمار.
التحدى الحقيقى الذى لم يقهره مبارك بعد هو مبارك نفسه ، أى سياسته منذ تولى حكم مصر بعد اكتوبر 1981 . التحدى الحقيقى الذى ينقذ مبارك الان و أسرته غدا هو أن يتخلص مبارك من سياسته السابقة ، ويحاول فيما تبقى له من عمر أن يقيم إصلاحا حقيقيا تتكون به دولة ديمقراطية لامركزية تؤكد على حقوق الانسان وحقوق المواطنة كما كفلها الاسلام الحقيقى والمواثيق الدولية لحقوق الانسان. بامكانه ـ قبل فوات الأوان ـ أن يقيم هذا الاصلاح التشريعى والسياسى وأن يتيح للشعب أن ينتخب حكومة ديمقراطية وفق نظام الديمقراطية البرلمانية ، ويتحول هو الى رئيس رمزى يمثل كل المصريين ، ويحظى بحبهم واحترامهم الى نهاية عمره ، وعفا الله تعالى عما سلف.
طبقا للدستور فان مبارك هو الذى يمسك بيده كل الخيوط ، وهو الذى يستطيع الاصلاح. ووقفا للتاريخ المصرى العريق فى مركزيته واستبداده فان الاصلاح يأتى من فوق ـ ولهذا أرسل الله جل وعلا موسى عليه السلام الى فرعون و ليس للمصريين. هذا الفرعون قال رب العزة جل وعلا عنه وعن أجدادنا المصريين فى عهده:(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) ( الزخرف 54 ) لم يقل ( فاستخف قومه فقتلوه ) فالمفروض أن الشعب الأبىّ العزيز القوى أن يتصرف هكذا عندما يستخف به الحاكم. المفروض أن الحكومة هى التى تخشى الشعب وليس الشعب هو الذى يرتعب من الحكومة. ولكن مبارك تفرعن ، والتحدى الثانى الذى يواجهه الآن هو أن يصلح ما أفسد لينقذ نفسه وأهله من بعده.
هى نصيحة لمبارك ولكل حاكم نسى نفسه ، ونسى أنه لا بد أن يموت. ومن غريب الصدف أن معظم حكام العرب الآن قد تعدوا السبعين وآن لهم أن يستعدوا للقاء الموت الذى يقترب كل دقيقة من أصابعهم برغم كل البروج المشيدة التى يحتمون فيها (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) (النساء 78 )
عند الاحتضار سيهتف الظالم طالبا فرصة أخرى ليصلح عمله ، ولكن دون جدوى : (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ. ) ( المؤمنون 99 ـ ) أما أولاده فلن ينفعهم المال الحرام الذى ورثوه.
( 8 )
فى جريدة الاحرار المصرية ظللت حوالى اربع سنوات أنشر مقالا أسبوعيا تحت عنوان دائم هو :(قال الراوي) أوجّه من بين سطورالتاريخ رسائل حية لمبارك آملا أن يقرأ ، أو أن يقرأ من حوله. وبعد توقفى عن النشر فى الأحرار جمعنى لقاء مع الدكتور اسامة الباز ـ مستشار مبارك ـ لأول مرة فسألنى عن مقالات ( قال الراوى ) لماذا توقفت؟
أى كانوا يقرأون ..!! ..
وبتاريخ 1 / 6 / 1992 نشرت من تلك السلسلة مقالا موجها لمبارك بعنوان :
(كله ســـلف .. وديـــن !!):يقول:
* قيل للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز وهو على فراش الموت : أنك أفقرت أولادك ولم تترك لهم شيئاً, فاستدعى أولاده وهم أكثر من عشرة أولاد فنظر إليهم ودمعت عيناه وبكى وقال: بنفسي الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم , بل بحمد الله قد تركتهم بخير , إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ..!! ومات عمر بن عبد العزيز وترك 21ديناراً وضيعة تغل ستمائة دينار سنوياً , اقتسمها (12) ولدا و (6) بنات ..
* ولم يفتقر أبناء عمر بن عبد العزيز بعده فقد جازاه الله بالخير في ولده, وحدث أن تبرع أحدهم في يوم واحد بمائة فرس في سبيل الله … !!
* أما الخليفة هشام بن عبد الملك فقد انهمك في جمع المال واشتهر بالبخل وترك (11) ولداً ورث كل منهم لنفسه مليون دينار، ومرت الأيام .. وبينما حفظ الله أولاد عمر وأغناهم فإن بعض أولاد هشام كان يقف أمام المسجد يتسول من الناس ويتصدقون عليه … !!
* وكان الذي تولى معاقبة الأمويين هو عبد الله بن على عم الخليفة العباسي المنصور , وهو البطل الذي انتصر في موقعة الزاب, إلا أنه كان سفاحاً لا يعرف الرحمة فقد تتبع ذرية الأمويين يقتلهم قتلاً ذريعاً حتى لقد قتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفاً في الرملة, وجمع بعضهم فقتلهم وجلس فوقهم مع أصحابه يأكلون ويشربون, والأمويون تحته يختلجون خلجات الموت .
ومرت الأيام ولم يسترح عبد الله بن علي لوجود ابن أخيه المنصور يستمتع بالخلافة دونه وهو الذي حاز الانتصارات, وكان أن ثار على ابن أخيه المنصور, ثم فشلت ثورته واعتقله المنصور، ثم أرسل إليه من قتله خنقاً , ويقول الذي قتله أنه وجده في السرير مع جارية له فخنقه, وارتعبت الجارية وكان لا بد من قتلها هىّ الأخرى فقالت لمن قتل عبد الله بن علي : يا سيدي .. اقتلني قتلة أرحم من هذه .. !! فرحمها وخنقها وقد أغمض عينيه .. !! ثم لف الجثتين في لحاف واحد وهدم فوقهما البيت .. وانتهت بذلك أسطورة عبد الله بن علي أعظم قادة العباسيين وأشدهم سفكاً للدماء .. !!
*وهكذا يسلط الله الظالمين بعضهم على بعض , وتتكرر الأمثلة في الدولة العباسية, فقد تولى الخليفة المعتز بعد أن تنازل له المستعين على أن يكون آمناً على نفسه, ولكن المعتز لم يفِ بالأمان فأرسل له من ذبحه, ثم ما لبث المعتز أن خلع أخاه المؤيد من ولاية العهد وضربه وقيده ثم قتله, وفي النهاية ثار عليه القواد الأتراك وخلعوه وعذبوه حتى الموت .
* وكانت أم الخليفة المعتز مشهورة بالجمال مع أن اسمها قبيحة, وكانت محظية للخليفة المتوكل والد المعتز , وقد انهمكت في جمع الأموال في خلافة ابنها المعتز ثم هربت بخزائنها وأموالها بعد مقتل ابنها , ثم استسلمت للقائد التركي صالح بن وصيف وسلمته أموالها وجواهرها وكانت تبلغ الملايين, وفي النهاية اغتصبها صالح بن وصيف وصادر أموالها ونفاها للحجاز، فكانت تتعلق باستار الكعبة تبكى وتقول : اللهم انتقم لي من صالح بن وصيف الذي قتل ابني وأخذ أموالي ونفاني عن أهلي وركب الفاحشة مني .. !!
* وفي الوقت الذي كان فيه الخلفاء العباسيون والقواد في بغداد يكتنزون المال ويخزنون الجواهر كان الفقراء يتضورون جوعاً وهم ينهمكون في إصلاح التربة في جنوب العراق, وفي النهاية ثاروا ثورة عارمة, ولأن أكثرهم من الزنوج فقد عرفت تلك الثورة بثورة الزنج, وكان ضحاياها حوالي المليون من الناس وعدة بلايين من الخسائر المادية, ولو كان هناك توزيع عادل للثروة ما قامت هذه الثورة بكل مآسيها.. ولم يتعلم العباسيون من الدرس فما لبثت أن قامت ثورة القرامطة , وهىّ مثل سابقتها ترفع شعارات دينية لتأخذ ما تعتبره حقوقاً من أموال الأغنياء , واستطاع العباسيون القضاء على الثورتين خلال تضحيات كثيرة, ولكن لم يستفيدوا من الدرس .
* والطريف – أو المحزن- أن بعض الخلفاء العباسيين اللاحقين لم يستفيدوا بالدروس القريبة, فظلوا يقعون في نفس الخطأ, ويشربون نفس الكأس والأمثلة كثيرة , فالخليفة القاهر طغى وسفك الدماء , فثار عليه الجند وسملوا عينيه وخلعوه من الخلافة فكان يقف على الأبواب ويتسول ويقول للناس: تصدقوا علىّ فإنني من قد عرفتم .. !! .
وكان القواد الذين يقتلون الخلفاء غالباً ما تنتهي حياتهم بالقتل شر قتلة وبمصادرة الأموال التي جمعوها بالظلم ..
* وأغلب هذه الأموال كانت تأتي من عرق الفلاح المصري الذي كان ينحني على الأرض يكدّ في انتاج الخير .. للغير ..!!
وكان إذا توقف قليلاً ليلتقط أنفاسه ينظر إلى هؤلاء الذين يتصارعون ويتقاتلون في التنافس على سلب عرقه ويقول الحكمة المصرية الخالدة كله ســلف وديـــن .. !!
* و لا يزال يقولها .. !! .
( 9 )
هل سينجح مبارك فى التحدى الأخير؟
هل يعرف المثل الشعبى المصرى القائل : ( كله سلف ودين ) ..
mas3192003@yahoo.com