ليست المعركة المحتدمة في مدينة القصير وما حولها في محافظة حمص في سوريا مجرد صدام آخر بين أطراف القتال، إنها معركة شاملة لها أثر جوهري كبير على الحرب، على غرار المعركة للسيطرة على حلب في صيف 2012. وعلى الرغم من المقاومة الحازمة من جانب الثوار، تعدُّ هذه المعركة من المعارك التي يجب أن يفوز بها النظام. وإذا عرفنا ما لديه من الأفضليات في الوقت الحالي، فإن النصر سيكون على الأرجح حليفاً لدمشق. فمدينة القصير تقع بالفعل تحت وطأة القدرات المتقدمة التي يحظى بها النظام وتلك التي يمتلكها حلفاؤه، وخاصة «حزب الله». وربما الأهم من ذلك، يبدو أن قوات بشار الأسد بصدد وضع مجموعة من “مبادئ القتال في القصير” من شأنها صياغة مسار الحرب خلال الفترة المقبلة.
أهمية المعركة
تتمتع المعركة للسيطرة على القصير بقدر من الأهمية لعدة أسباب؛ فالمنطقة تُشرف على الطريق الجنوبي المتجه إلى الساحل مروراً بمحافظة حمص، معقل أنصار النظام من العلويين الشيعة. كما أنها تسيطر على المسارات الجنوبية إلى مدينة حمص، حيث تستمر معاناة قوات النظام. وبالإضافة إلى تهديد القرى الشيعية في المنطقة، فإن سيطرة الثوار على القصير تعوق وصول النظام إلى وادي البقاع في لبنان، في حين تسهّل نقل إمدادات السلاح إلى الثوار عبر الحدود إلى المنطقة الغربية الوسطى في سوريا. إن النصر في هذه المعركة سوف يكون ذا أثر جوهري جيد على موقف النظام في محافظة حمص بوجه عام، وهو أمر ضروري للإبقاء على كل من إمكانية الوصول إلى الساحل وتأمين خط الاتصال الحساس من دمشق.
وتكتسب هذه المعركة أيضاً قدراً كبيراً من الأهمية على الصعيد السياسي والنفسي. فبالنسبة للنظام، تتوفر بمنطقة القصير فرصة مميزة لاستعراض قوته أمام الحلفاء والأعداء على حد سواء. كما أن النصر فيها من شأنه أن يعزز مرونته ويؤكد الالتزام من جانب مؤيديه. أما بالنسبة للمعارضة، فسوف تزيد الهزيمة من التوترات الداخلية وتثير الشكوك أيضاً، حيث سيلقي كل فصيل من الثوار باللوم على الفصائل الأخرى ويحملهم سبب الهزيمة بينما يتساءل كيف سيتمكنون من الصمود في وجه القدرات المتنامية للنظام. وإذا تمكنت قوات الأسد من مواصلة تحقيق المزيد من الانتصارات، فسوف تتضاعف هذه التأثيرات أيضاً.
وبناءً على ذلك، تتمثل أهداف النظام لخوض هذه المعركة في بسط النفوذ على المنطقة وتكبيد الثوار هزيمة عسكرية وسياسية ونفسية كبيرة. وعلى الرغم من أن تحقيق هذه الأهداف يخدم النظام بشكل جيد في جميع مؤتمرات السلام، إلا أن المعركة قد بدأت قبل انعقاد مؤتمر “جنيف الثاني” ببعض الوقت، ولا تزال دائرة لكثير من الأسباب الأخرى التي تفوق القوة التفاوضية أهمية.
مبادئ القتال في القُصير
تهدف استراتيجية النظام في هذه المعركة إلى دحر الثوار عن المنطقة الريفية جنوب مدينة القصير وشمالها، وعزل المنطقة لمنع انسحاب الثوار، ثم قصف المدينة وضواحيها لإلحاق خسائر وكسر المقاومة قبل الإغارة مباشرة على المدينة. ولتنفيذ هذا النهج، اتخذ النظام مزيج من الخطوات شملت استخدام قوات نظامية (يقال إنها تضم عناصر من “الفرقتين المدرعتين الثالثة والرابعة” و”الحرس الجمهوري”) وقوات غير نظامية (“جيش الدفاع الوطني”). وربما الأكثر أهمية، أن النظام يستعين بقوات «حزب الله» لتوفير قوات مشاة فعالة وجديرة بالثقة في هذه المعركة المكلفة والمستمرة. كما تفيد مصادر الثوار بأن النظام قد سحب بعض القوات النظامية من منطقة دمشق وحتى محافظة درعا في الجنوب لخوض هذه المعركة. وعلاوة على ذلك، دعمت قوات الأسد الجوية والصاروخية العمليات الأرضية بشكل مكثف، حيث أفادت التقارير بأنه تم تنفيذ ست عشرة غارة جوية وثلاث هجمات بصواريخ أرض- أرض في مدينة القصير في 29 أيار/مايو وحده. ويمثل هذا المزيج من القوات النظامية وغير النظامية وتلك الحليفة — المدعومة بكثافة من قِبَل القوات الجوية والمدفعية — الصيغة الحالية لخوض المعركة من جانب النظام.
وفي الوقت الحالي، يشارك حوالي 5000 – 6000 جندي من القوات الحكومية في المعركة، إلى جانب حوالي 2000 عنصر من مقاتلي «حزب الله». وقد تلقت كلتا المجموعتين بعض التعزيزات خلال الأيام القليلة الماضية، مما يعكس مدى صلابة المقاومة من جانب الثوار وحاجة النظام إلى نصر مؤزر. كما أن هناك تقارير غير مؤكدة من قبل المعارضة ادعت أيضاً أن مقاتلين إيرانيين يشاركون في القتال.
ويعدُّ الهجوم على القصير من التحركات التي تتم على مستوى العمليات التنفيذية: إذ تجمع قوات الأسد بين القتال والمناورة لتحقيق أهداف استراتيجية في ساحة المعركة في حمص. وتعتبر قدرة النظام على التفكير في مثل هذه العمليات وتنفيذها في هذه المرحلة من الحرب برهاناً على مرونته وقدرته على التكيُّف وعلى الدعم الوطيد من جانب الحلفاء — روسيا وإيران و «حزب الله». ولم تُبد قوات الثوار حتى الآن أية قدرة على التجاوب مع هذا النوع من التحرك، ويعود ذلك أساساً إلى أمور قيادية وتنظيمية تجعل من الصعب التركيز وتنسيق تواجد قوات كبيرة بين مختلف المحافظات.
وعلاوة على ذلك، فقد ثبت أيضاً صعوبة تعامل الثوار مع بعض التكتيكات المحددة من جانب النظام، على الرغم من تقديمهم أداء أفضل عند هذا المستوى. وقد استخدم النظام ميزته الكاسحة بالقوة النارية لتشتيت قوات الثوار وكسب الأرض ببطء. وعلى الرغم من أن تمتع المعارضين بميزة التضاريس والعزم الأكيد على القتال جعل ذلك عملية مكلفة، إلا أن تحركات النظام في الوقت الحالي تحمل حتمية معينة تجاههم. وببساطة، تواصل قوات الأسد تقدمها– حيث أن الغارات عادة ما تشمل القصف التمهيدي بقذائف المدفعية والقوات الجوية، والتسلل إلى منطقة الهدف، ثم تنفيذ هجمات المشاة المدعومة بالمدرعات. ويتم استخدام صواريخ أرض- أرض لقصف المناطق الخلفية للثوار بحيث يتم تدمير جميع الملاجئ حتى أكثرها عمقاً، وفقاً لمصادر المعارضة.
وبالنظر إليها معاً، فإن “مبادئ القتال في القصير” توضح كيف سيدفع النظام بمسيرة الحرب نحو الأمام:
· الدمج بين وحدات نظامية وغير نظامية وأخرى حليفة للتحول إلى قوة قتالية فعالة وجديرة بالثقة
· عزل مناطق الهدف للحيلولة دون وصول تعزيزات أو إمدادات جديدة إلى الثوار أو هربهم
· قصف مناطق الهدف بجميع الوسائل المتاحة لإضعاف الدفاعات وزيادة محنة المدنيين المحاصرين هناك
· عندما تحتوي إحدى مناطق الهدف على قواعد مركزية للثوار وأخرى نائية، يتم دفعها نحو الداخل بهدف الضغط على المدافعين
· تنفيذ غارات متكررة لبسط النفوذ على المناطق المحورية، وإلحاق الخسائر، وإجبار المدافعين على استهلاك مؤنهم
· الاستفادة من تميز النظام بالقوة النارية وقدرته على تنسيق العمليات ودعمها.
ويمكن توقع قيام الحكومة والقوات المتحالفة معها بتطبيق هذه المبادئ طالما تؤدي إلى النصر.
التداعيات
لقد تمكن النظام من إحراز تقدم بطيء لكن لا يمكن إنكاره في القصير، حيث كبَّد مقاتلي الثوار وقادتهم خسائر كبيرة على الرغم من خسائره الكبيرة هو نفسه، والنكسات المحلية التي أصابته في بعض الأحيان. وقد تم ضغط قوات المعارضة في المنطقة إلى جيبٍ آخذ في التضاؤل يمتد من محافظة حمص الشرقية إلى القصير والمناطق المحيطة المتاخمة لها. وربما لم يتم بعد عزل المدينة وتأمينها بشكل تام، لكن هذه النتيجة تبقى بين الاحتمالات الواردة خلال الأيام القليلة المقبلة. وبعدها، يصبح أمر سقوط المدينة مجرد مسألة وقت.
وتُخبرنا الاستراتيجية والتكتيكات التي تقود إلى هذه النتيجة بالكثير عن الطبيعة المتغيرة للحرب، لاسيّما القدرة الهجومية المجدَّدة للنظام واعتماده المتزايد على القوات غير النظامية والمتحالفة. وتلك عوامل من شأنها إجبار الثوار ومؤيديهم على إدراك الوسائل اللازمة للصمود أمام تحدي النظام.
ومع ذلك، ليست هذه هي المعركة الأخيرة أو الحاسمة بالنسبة لسوريا. وأحد أسباب ذلك، أن الثوار يحققون بعض النجاح في مناطق أخرى، من بينها محافظة حماة الشرقية ودرعا وحلب. كما أن المعارك في هذه الحرب تميل، بشكل أوسع نطاقاً، إلى التمخض عن نتائج غير تامة حيث تتآكل آثارها مع مرور الوقت. فكلا الطرفين يعاني من صعوبة تأكيد الانتصار، وغالباً ما يجدا بأنهما يقاتلان مجدداً على الأرض ذاتها، كما في مدينة حمص وريف دمشق ومحافظتي حلب ودرعا. وتبدو القُصير مختلفة في هذا الصدد، لكن يبقى أن نرى ما تحمله الأيام.
وأياً كان الأمر، فإن المعركة من أجل السيطرة على القصير مهمة في حد ذاتها وكذلك من أجل بيان الكيفية التي ستسير بموجبها الحرب خلال الفترة الحالية. وبمعرفة النتائج التي تم التوصل إليها حتى الآن، يجب على الثوار أن يقوموا بترتيب بيتهم السياسي والعسكري بسرعة. كما يلزمهم أيضاً أن يظهروا أن بإمكانهم إما هزيمة هذه العمليات أو جعلها باهظة التكلفة بحيث تجعل النظام يتخلى عنها. ولا بد، كذلك، من قيام تحرك سريع من جانب مؤيدي الثوار من الأجانب، على الأقل فيما يتعلق بتزويد قوات الثوار بالوسائل اللازمة من أجل مقاومة أكثر فاعلية. وربما لن ينعقد مؤتمر السلام المقترح أبداً، ويبدو أنه حتى في حال انعقاده، فإن مآله سيكون إلى الفشل، لذا فإن تأخير المساعدة العسكرية أكثر من ذلك يعتبر وصفة جيدة لتحقيق النظام للمزيد من الانتصارات.
جيفري وايت هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن وضابط كبير سابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية.