لا شيء مُعطى، كل شيء يُبنى
غاستون باشلار
*
قوة واحدة فقط تناضل في العالم العربي هي الأصولية الإسلامية، قوة تناضل فكرياً وسياسياً وعسكرياً ولا تواجهها أية قوة نضالية أخرى بل فراغ فكري وسياسي. عملياً، توجد في المقابل أنظمة متسلطة هدفها الاستمرار في السلطة، وجماعات تحاول الدفاع عن مصالحها الضيقة، أحياناً في شكل شبه أحزاب متقوقعة أو بدون قاعدة شعبية تُذكر، وأفراد ليبراليون، ويساريون وشيوعيون، يرددون شعارات بعضهم للبعض، ويبشّرون للمؤمنين في دوائرهم الصغيرة.
لقد فشل اليسار اللبناني على كل الأصعدة. لم يصل إلى السلطة في أي من مراتبها، ولم يتوسّع شعبياً، ولم ينتج برنامجاً اقتصادياً، أو اجتماعياً أو سياسياً قابلاً للتطبيق. لا بل يتجاهل اليسار اللبناني حالياً أكبر أزمة معيشية يواجهها مئات الآلاف من العمال اللبنانيين من جراء المنافسة غير المسبوقة من السوريين النازحين إلى لبنان، في حين من المفترض أن يكون الدفاع عن مصالح هؤلاء العمال السبب الرئيسي لوجوده.
إن التراجع التاريخي لليسار اللبناني، المستمر منذ ستينات القرن الماضي، يعود، برأينا وقبل كل شيء، إلى فشله الذريع في المسألة الوطنية البحتة وتحديداً في مسألة استقلال القرار اللبناني واستقلال الأرض. إن الاستقلال الوطني هو من المسلّمات في كل بلدان العالم، لا يخضع لأي اعتبار إيديولوجي بل يبقى فوق تصنيفات اليمين/اليسار. فأي معنى لليسار في بلد محتلّ أو غير مستقل إن لم تكن أولوية نضاله من أجل الاستقلال؟ إن الريادة السياسية للأحزاب اليسارية في أوروبا، وبالأخص في فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن مردّها إيديولوجية أو يسارية تلك الأحزاب بل أتت قبل كل شيء نتيجة مقاومتها الوطنية ومحاربتها للاحتلال.
لقد فقد لبنان استقلاله منذ اتفاق القاهرة مع المنظمات الفلسطينية في العام 1969، ولا يزال فاقداً للاستقلال. وعرف لبنان منذ ذلك الوقت ثلاث حقبات، غالباً متداخلة، خضعت فيها قراراته الأساسية، ومنها الأمنية/العسكرية وانتخاب الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومات وتنفيذ السياسات الخارجية، إلى هيمنة سلطة أجنبية تستند إلى وجود عسكري لها أو تابع لها على الأراضي اللبنانية.
الحقبة الأولى هي الحقبة الفلسطينية، التي امتدت حتى العام 1983، حين استعملت المنظمات الفلسطينية لبنان ساحة لأهداف فلسطينية بحتة بدون أي اعتبار لنتائج حروبها على البلد المضيف من ضحايا ودمار. شارك اليسار اللبناني المنظمات الفلسطينية في القتال ضد فرقاء لبنانيين في معركة “وطنية فلسطينية” ضد “وطنية لبنانية” تحارب على أرضها، ولا دخل بتاتاً في هذه المعركة للمبادئ أو الصراعات اليمينية-اليسارية. والنتيجة العبثية كانت عشرات آلاف الضحايا، وتدمير لبنان، وتقهقر القضية الفلسطينية. كانت تلك حقبة قاتلة لليسار اللبناني كقوة وطنية تتخطى الطوائف وتستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في الحياة السياسية في المستقبل.
الخطأ التاريخي الثاني لليسار اللبناني كان خلال الحقبة السورية التي امتدت عملياً 30 عاماً، من 1976 إلى 2005. لقد قبض النظام السوري بشكل سافر وشبه شامل على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، خدمة لأهداف سياسية واقتصادية للنظام السوري. تحالف اليسار اللبناني مع النظام السوري وقاتله أحياناً خلال الحرب اللبنانية. إلا أنه منذ انتهاء الحرب في العام 1990 وحتى العام 2005 كان اليسار يشيح بالنظر عن الممارسات الاحتلالية والقمعية الفاقعة للأجهزة السورية في عقر داره، منصرفاً إلى التصدي للمؤامرة الصهيونية-الأميركية، فكان فشله أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً.
الحقبة الثالثة هي الحقبة الإيرانية التي لا تزال قائمة، وهي بدأت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وأصبحت طاغية منذ انسحاب القوات السورية من لبنان في العام 2005. طبعاً، تختلف هذه الحقبة عن سابقاتها لأنها تتمثل بحزب لبناني هو حزب الله، صاحب الإنجاز التاريخي بتحرير أرض الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن الحزب يقول علناً بولائه المطلق للولي الفقيه وهو الرئيس الديني والفعلي لدولة أجنبية هي إيران. وكما يدلّ الشعار الرسمي والمعلَن للحزب، “المقاومة الإسلامية في لبنان”، فإن لبنان ليس سوى ساحة نضال (دائماً ساحة للآخرين!) لخدمة أهداف دينية تنتهي فعلياً عند مصلحة النظام الإيراني. والإذلال الكبير للبنان ولليسار في هذه الحقبة كان في إرغام النظام السوري اليسار اللبناني على الامتناع عن المقاومة على أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي، لتنحصر هذه بحزب الله فقط، فرَضَخ اليسار وامتنع.
لقد ضربت الحقبتان الأوليان آمال جيلين كاملين من اللبنانيين ومستقبلهم، والحقبة الثالثة الحالية تضرب آمال جيل ثالث ومستقبله. هذا حِمل كبير على أي بلد. لذلك يشهد لبنان منذ سنوات هجرة نخبه وطاقاته الشابة، تقابلها هجرة ضخمة غير معهودة إلى لبنان لنازحين ولاجئين ليسوا بالنخب ولا بأصحاب الطاقات. إن هجرة النخب اللبنانية تعطي مؤشراً خطيراً على أن الأزمة القائمة تتحوّل تدريجياً إلى قضية وجودية.
لماذا ننادي باليسار كرأس حربة سياسية لتقوية الدولة اللبنانية المستقلة وإرساء لبنان الوطن؟ إن اليسار، بطبيعته، لا يتبع فكراً دينياً بل هو خارق للطوائف وبمقدوره أن يكون جامعاً لها من خلال تركيزه على المواطنة والديموقراطية. والديموقراطية ليست سياسية فقط، حسب الاعتقاد السائد، بل اقتصادية أيضاً من خلال “الدولة الاجتماعية” التي تتدخل لضبط انحرافات السوق الحرة من خلال تأمين حدود دنيا من التقديمات للمواطن، فتعزز حقيقة المواطنة وتجعل البنية الاجتماعية والسياسية أكثر صلابة. والتاريخ الحديث يؤكد الدور غير المسبوق للدولة الاجتماعية التي أنتجت أوروبا القوية والمزدهرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأيضاً الاقتصادات والدول القوية في آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة.
نحدّد ثلاثة مبادئ أساسية ليسار لبناني جديد.
أولاً، المبدأ الاستقلالي: لا معنى لليسار بدون الاستقلال. الاستقلال هو البداية ويعني أن لا شرعية أو قبول لأية قوة عسكرية، لبنانية أو أجنبية، على الأراضي اللبنانية ما لم تخضع هذه القوة مباشرة وصراحة لموافقة الشرعية اللبنانية وسلطتها (باستثناء قوى الأمم المتحدة التي تخضع فقط للموافقة الشرعية). إن وضع هذا المبدأ في الصدارة يعطي دلالة حزينة عن حالة استقلالنا إذ هو مبدأ بديهي غير جدير بالنِقاش في أي من بلدان العالم. فالمواطن اللبناني، ومنذ نصف قرن تقريباً، يعاني من وجود قوى عسكرية أجنبية أو غير شرعية تتحكّم على أرضه بحياته وبمستقبله. هذا وضع غير طبيعي، ورفض هذا الوضع والنضال ضده هو بمثابة الدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس حق طبيعي لا يخضع لأي اعتبار إيديولوجي.
ثانياً، المبدأ الوطني: بعد الاستقلال، على اليسار اللبناني أن يعمل على التحوّل من دولة الطوائف إلى دولة المواطن التي تقوى بالقانون الموحّد لجميع اللبنانيين، بالأخص قوانين الأحوال الشخصية. هذا مبدأ صعب التطبيق في لبنان، ولكن من قال أن الأحزاب الرائدة وُجدت للقضايا السهلة فقط؟ سيكون من صلب عمل اليسار الجديد أن يطرح البرامج والقوانين التي تضع لبنان تدريجاً على هذا المسار الوطني الطويل. فلنضَع الشعارات جانباً ونعي أن لبنان لا يزال مشروع دولة، دولة ستبقى عرضةً للاهتزاز والتفكك لأن بنيانها طائفي وحصيلته المنطقية مجتمع طائفي. ولا يمكن أن ينتج عن البنيان والمجتمع الطائفيين دولة حديثة. إذا أردنا لبنان وطناَ، لا نملك إلا خياراً وحيداً هو خيار دولة المواطن، أي الدولة الديموقراطية المدنية.
ثالثاً، المبدأ الاجتماعي: كما يقول الفيلسوف المعاصر يورغان هابرماس، من الخطأ الاعتقاد بأن الديموقراطية الناجحة ترتكز على وجود عقلية جامعة، مثلاً العِرق أو الدين أو أي مفهوم سابق وموحّد بالنسبة للوطن. بالعكس، فالديموقراطية هي المنطلق الذي يدفع إلى التعاضد الاجتماعي وإلى تقوية الانتماء الوطني المنشود، كما يدلّ التاريخ الحديث للدول الأوروبية وللولايات المتحدة الأميركية. والدولة الاجتماعية، كمحاولة لترويض الرأسمالية أو لضبط انحرافها، هي من صلب الديموقراطية. لذلك، من الأهداف الأساسية لليسار اللبناني الجديد إعادة إحياء النقابات العمالية المستقلة، وتقوية شبكة الضمان الاجتماعي في مجالات التعليم والطبابة والشيخوخة وبالتماشي مع الإنتاجية الاقتصادية. ولليسار، أكثر من أي فريق آخر في لبنان، دور طبيعي ورائد في هذا المجال.
مستقبل لبنان كوطن متماسك ومزدهر مرتبط بوجود حزب سياسي يعتمد هذه المبادئ ويعمل بها. قد يقول عديدون، ربما عن حق، أن هذه المبادئ الأولية الثلاثة هي ليبيرالية، لا بل وسطية الجوهر، ليس فيها إلا القليل من الفكر اليساري. فالالتزام بالصراع الطبقي بين العمل ورأس المال هو الموقف الذي يميّز الفكر اليساري الحقيقي عن أي فكر آخر. وهذا صراع قائم في لبنان. لكن المسألة هنا ليست طرح برامج يسارية في المطلق، إنما طرح برامج عملية لإرساء أسس حديثة لإنقاذ وطن طائفي التركيبة والهوى، ويعاني أزمة كيانية. واليسار الذي يتماشى بفكره مع المبادئ الديموقراطية والوطنية هو الوحيد الذي قد يستطيع تجميع القوى والأفراد المتعاطفين مع برامجه لبناء لبنان المواطن بدل لبنان الطوائف والمذاهب الذي ينازع.
* توفيق كسبار
كاتب وخبير اقتصادي